أكثرَ ما يُلفتُ الانتباه في أفلام الدورة الثالثة
لمهرجان الخليج السينمائي في دبيّ (8-14
أبريل 2010) اعتماد البعض منها على قصصٍ
قصيرة، تُعتبر مرجعاً تأليفياً جاهزاً للمخرجين، منح بُنى أفلامهم صلابةً
يفتقدونها
غالباً عند اللجوء إلى أفكارهم الخاصة، ورُبما لهذا السبب، امتلك الفيلم
الروائي
القصير "شنب"(إنتاج عام 2010) لمُخرجه الكويتيّ "مقداد الكوت" قدراً من
التماسك
الدراميّ، والتوازن السينمائيّ.
عملياً، لا أعرف حجم استعارات أحداثه، وشخصياته
من القصة القصيرة المُشار إليها في
العناوين: "أريكة مُجنّحة" للكاتبة "ثريا
البقصمي"، ولكنه يُسجلُ إشارةً وضاءةً تُشجعني على متابعة مسيرة موهبة
سينمائية
تمتلك إمكانياتٍ طازجة من أجل تغيير النظرة السائدة عن العداء الغامض بين
الأفلام
الخليجيّة القصيرة، والطويلة، والكوميديا الراقية البعيدة عن تهريج
المُسلسلات
التلفزيونية.
واحدةٌ من المُميزات التي يتحلى بها "شنب" هي الإيجاز في بنائه
الدراميّ، والسينمائيّ (تكثيف آليّات السردّ، سيولة الانتقالات الزمنية،
والمكانية)
الذي يتجسّد على طول المدة الزمنية للفيلم (15 دقيقة)، تُلخّص سنواتٍ كثيرة
من حياة
شابٍ عشرينيّ يُعاني من عائقٍ صحيّ يمنع ظهور شاربيه كما كلّ
الشباب/الرجال(في
مشهدٍ واحدٍ يتزوج، وفي التالي تُنجب زوجته طفلاً، وفي لقطةٍ لاحقة، يصبح
أباً
لأطفالٍ أشقياء).
شخصية
شنب
منذ اللقطة الأولى المُستمرّة
(plan séquence)،
والمدروسة بعناية (تبتعدُ الكاميرا عن
حلاقٍ يُثرثر، وزبون يُهمهم، تخرج من صالون
الحلاقة، بينما يدخل شابٌ من يمين الصورة، يتوقف أمام المحل، ويُشعل
سيجارةً قبل أن
يتكوّر في مقعد سيارته)، وحتى اللقطة الختامية المُعاكسة في حركتها (وكأنّ
الأحداث
تعود إلى الوراء)، تتجسّد دورةٌ حياتيةٌ مُغلقة، أو حلقةٌ فارغة يدور الشاب
فيها
مُستسلماً لأزمته الوجودية العبثية.
وما بين اللقطتيّن/المشهدين، تبدو الأحداث
كأنها أحلام يقظة، رغبات، أو طرفة
سينمائية، ومن الأفضل أن لا ينشغل المُتفرج
بحقيقتها، ولكن، يتابع مُنتشياً حدثاً مأساوياً طريفاً مدعوماً بأداءٍ
تمثيليٍّ
نادر في الأفلام الخليجية المُبتلية بالمُبالغات المسرحية، وإن ظهرت قليلاً
في "شنب"، فلأنها مقصودة تماماً، ومتوافقة مع الروح الساخرة للحكاية.
وكما البناء
الدراميّ الدائريّ، يبدأ الفيلم بمُؤثراتٍ صوتية مُختفية في عتمة شاشةٍ
سوداء(أزيز
ماكينة حلاقة، ضربات طرفيّ مقصّ، وهمهمةٌ غير مفهومة)، وينتهي بها كما
الحياة
القلقة، والرتيبة للشاب.
من الخصال المُلفتة للانتباه أيضاً، تلك الموسيقى
المُستخدمة باقتضابٍ، وتركيز، حيث يكتسبُ
هذا المُؤثر الصوتيّ الإيقاعيّ تأثيره من
لحظاته القصيرة جداً، ويتحوّل إلى علامةٍ دالة يُوظفها المخرج باستحقاق.
موسيقى
سيمفونية(بيتهوفن) تعكس الطبيعة الجنائزية للشاب، وتُطعم الروح الهزلية
لأحداثٍ
تمتلك حدودها الدنيا، وتنسينا الأصول الحقيقية للأزمة (لماذا هو بلا شنب ؟)،
وتجعلنا نتغاضى عن هذا التساؤل لحساب الاستمتاع بمزيجٍ مُتوازنٍ من كوميديا
سوداء
كامنة، وتراجيديا يومية.
المشهد الثاني من الفيلم، وبدون أيّ جملةٍ حوارية،
وتفسيراتٍ طبية عقيمة، تجيب بإيجازٍ عاصفٍ
عن ذاك التساؤل المُتسرّع، نعم، يُعاني
الشاب من عائقٍ صحيّ يمنع ظهور شاربيه،
الأمر هكذا، وعلينا قبوله كما هو.
بدوره، يصبح التكثيف الدراميّ طريفاً بحدّ ذاته، ميكانيكيّة الطبيب في
الكشف عن
هذه الحالة الغريبة، أصابعه تلامس شفتيّ الشاب المُستسلم بكآبة، يحرك وجهه
قليلاً
إلى اليمين، وأقلّ إلى اليسار، ومن ثم، ينتقل السرد مونتاجياً إلى المشهد
التالي،
لا تريد الكاميرا البقاء طويلاً في ذلك المكان، أو غيره.
يذهب
السيناريو بعيداً
في زيارة حدود الهزل، ويطلق على الشاب لقب
"أبو شنب"، ويضعه مع شخصياتٍ أخرى(أصدقاء
العمل) تتباهى بشواربها الكثيفة، وسجائرها المُتدلية من الشفاه.
يكشف المشهد الذي يجمعه معهم في مكتبٍ حكوميّ عن
المُفارقة التي يعيشها في مجتمعٍ يمنح
الشاربيّن أهميةً عُظمى ـ وطنية إن صحّ
التعبير ـ ، لقد تخلصت الصورة من الثرثرة
الحوارية المألوفة في الكثير من الأفلام
القاصرة سينمائياً، تكتفي اللقطات بتكويناتها، وتوزيع الشخصيات فيها، ومن
ثمّ حركة
الكاميرا من وجهٍ مُتجهمٍ إلى آخر جامد النظرات، إلى ثالثٍ ساخر الابتسامة.
أظنّ، بأنّ "مقداد" لجأ إلى حيلةٍ فنية لتقليص عدد المُمثلات (مشكلةٌ
حقيقية في
الأفلام الخليجية)، تلتفُ الأمّ، وأبناؤها الثلاثة حول مائدة الطعام، الأبّ
غائب
كما يبدو، الكاميرا خلف ظهرها، يبدو رأسها المُتشح بالسواد مثل دائرة
سوداء، بينما
يُشكل "أبو شنب" مع أخويه مثلثاً وهمياً تتوّسط الأمّ منتصف قاعدته، تعلكُ
حوارها،
وتطلب منه الذهاب لتقديم التهاني لـ"أم جاسم" بمناسبة زواج
ابنها "جاسم"، "أبو شنب"
لا يعرفه، أو لا يعنيه هذا الحدث البهيج، هو، بالأحرى، مشغولٌ إلى حدّ
الهوس بشوارب
أخويه.
تتوالى المُفارقات واحدةً بعد الأخرى، وبينما نتوقع الانتقال إلى حفل
زفاف "جاسم"، يُفاجئنا المخرج بـ"أبو شنب" نفسه عريساً، ويضعنا في مأزقٍ لن
نتوقف
عنده طويلاً، هل الزواج حقيقيّ، أم مُتخيل
؟ ومهما كانت الإجابة، فقد وصل المتفرج
إلى حالةٍ من التواطئ مع آليّات اختطاف
الحكاية.
بالمُقابل، تُسيطر المُؤثرات
الصوتية على شريط الصوت، يمنحها "مقداد" الأهمية الكبرى،
وتحظى الموسيقى بمقادير
مضبوطة، فهي تنطلق في لحظاتٍ معينة، وبالتحديد، في كلّ مرةٍ يستغرق الشاب
في
مأساته/قدره، وتتحول الحوارات القليلة في الفيلم إلى ضجةٍ صوتية، رُبما لا
يسمعها "أبو شنب" الغارق في معاناته، صمته، ونظراته الحزينة الذابلة.
لقد تزوج، وأثبتَ
رجولته، هذا ما تؤكده عبارات التهنئة التي يسمعها من أصدقائه، وابتساماته
المُستحيّة التي يتكرّم بها على نفسه، والمُتفرج.
ومع ذلك، لا يقتنعُ السيناريو
بهذه النهاية السعيدة، وقبل أن تعود الأحداث إلى بدايتها،
ويُطلق السيناريو
مُفاجأته الكبرى .
بعد سنواتٍ طويلة قضاها "أبو شنب" مع زوجته الشابة، وبدون
مقدماتٍ، وتفسيراتٍ، تقول له:
ـ ما ريدك، ما ريدك، ريحتك خايسة (لا أريدك،
رائحتك قذرة).
المشهد الأخير من الفيلم (قرين المشهد الأول) يُوحي بأنّ أحداث
الفيلم ذكريات(Flashback)، خيالات، أوهام، أو يومٌ جديدٌ داكنٌ، وماطرٌ مثل
حالته
البائسة.
حتى الأمطار، مثل الموسيقى، تهطلُ فجأةً، وتتوقف فجأةً، كي تعبّر عن
حالةٍ ذهنية أكثر منها واقعية، وتُضاعف من حدة المُفارقة/ات التي يعيشها
الشاب في
بلدٍ يندر هطول الأمطار فيه، كما حليقي الشارب.
في بداية الفيلم تراجعت
الكاميرا، وخرجت من صالون الحلاقة، وفي نهايته، تنعكسُ حركتها، تتخطى
الشاب، وتقترب
من الحلاق، وزبونه،...
وينتهي الفيلم بنفس المُؤثرات الصوتية المُختبئة في شاشةٍ
سوداء (أزيز آلة الحلاقة، ضربات طرفيّ
المقصّ، ثرثرة الحلاق، وهمهمة الزبون).
********
مقداد الكوت:
من مواليد عام 1983، حاصل على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة
الكويت، عمل مساعد إنتاج،
وإخراج في العديد من الإعلانات التلفزيونية لصالح جريدة، وتلفزيون الوطن.
كتب،
وأخرج عدداً من الأفلام القصيرة.
ـ جمال عقل خالد - 17 دقيقة ـ
2007.
ـ مفارقات - 23 دقيقة ـ 2008
.
ـ موز - 25 دقيقة، 2009.
ـ شنب - 15
دقيقة ـ 2010.
الجزيرة الوثائقية في
24/05/2010
نيويورك ــ بيروت : العاصفة وما بعدها
نيويورك ــ عماد خشّان
كانت نيويورك على موعد مع لبنان خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. من جهة،
تحيّة إلى السينما اللبنانيّة في «مركز لينكولن للفنون»... ومن الأخرى،
تظاهرة
World Nomads 2010
المخصصة للبنان، في «المركز الفرنسي» (الأليانس)، وتختتم غداً، بعد أسابيع
من الأفلام والتشكيل واللقاءات الأدبيّة والموسيقيّة.
تحت عنوان عريض هو «هدوء ما بعد العاصفة: محاولة لفهم الحرب الأهلية
اللبنانية»، استعاد المهرجان السينمائي الذي برمجته رشا سلطي («آرت إيست»)،
قائمة طويلة من الأفلام اللبنانيّة، بدءاً بالرائد محمد سلمان («الجغور
السود»)، مروراً بالراحلين مارون بغدادي (الصورة, «بيروت يا بيروت»، «حروب
صغيرة»...) ورندا الشهال («طيّارة من ورق»، «حروبنا الطائشة»...). أعمال
بغدادي كانت محور ندوة تحدّث فيها الروائي الياس خوري، وغاب عنها الناقد
والمخرج محمد سويد... رفيقة درب الرائد اللبناني الراحل ثريا خوري أعلنت
للمناسبة نقل أعمال زوجها كاملةً إلى أقراص
dvd،
في مبادرة من عائلة المخرج الراحل و«نادي لكلّ الناس».
نشاطات ثقافيّة احضنتها «بيغ أبل» أخيراً، في «محاولة لفهم الحرب
اللبنانية»
احتضنت صالة «والتر ريد» إذاً جولة بانوراميّة في تمثلات لبنان عبر الشاشة،
من «بيّاع الخواتم» (1965) ليوسف شاهين والأخوين رحباني، وصولاً إلى «١٩٥٨»
(2009) لغسان سلهب. وبين الأقدم والأحدث، ثلاثة وثلاثون شريطاً منها أعمال
برهان علويّة، وأكرم الزعتري، وجوسلين صعب، وفيليب عرقتنجي، ونادين لبكي،
وميشال كمون، ومحمود حجيج، وشادي زين الدين، وديما الحر، ودانييل عربيد،
ومحمد سويد، وجوانا حاجي توما وخليل جريج، وزياد دويري...
الفنّ السابع كان حاضراً أيضاً، بشكل ملحوظ، في احتفاليّة «الأليانس»، إلى
جانب التشكيل والعمارة والندوات المختلفة. احتفى «بدو العالم» في محطّتهم
اللبنانيّة، بالطبعة الإنكليزيّة من رواية «الوجوه البيضاء» لإلياس خوري
(ترجمة مايا تابت). كما حضر الأدب في لقاءات مع راوي الحاج وألكسندر نجار
وجدي معوّض. المسرحي اللبناني الكندي قدّم قراءات من أعماله رافقته خلالها
الممثلة والمغنية الفرنسيّة جاين بيركين... هنا نيويورك، إليكم بيروت ما
بعد العاصفة.
المصرية في
24/05/2010 |