لم يكن يوماً مخرجاً عادياً، بل كان دائماً متميزاً، دارساً، مثقفاً، أمسك
بيديه
خبرات كبيرة في السينما السورية، وشهرته سبقته إلى الكثير من
المحافل والمهرجانات
الدولية، هو المخرج السوري محمد ملص، الذي زار مصر قبل فترة ليحدثنا بين
أمور أخرى
عما يراه من «أسباب أزمة السينما السورية» مهاجماً مؤسسة السينما التي في
رأيه لا
تقدم سوى أفلام دعائية!
يقول ملص عن الأزمة في السنوات الأخيرة: «تعود أساساً إلى أن السينما
السورية لا
تزال حتى اليوم - ومنذ أكثر من 40 سنةً - تراوح في مكانها وفي
كثير من الجوانب
السينمائية لم تعد تراوح في مكانها فقط بل تراجعت إلى الوراء خطوات طويلة
يصعب
الخروج منها بسهولة. وأنا اقصد انكفاء الإنتاج السينمائي وحصره في إطار
المؤسسة
العامة للسينما التي لم تستطع حتى اليوم أن تتحول إلى طرف منتج
قوي. وانها فقط
الطرف الذي ينتج فيلماً واحداً في العام أو أكثر قليلاً، ولا سيما في
السنوات
الأخيرة مع تعرض هذه المؤسسة إلى تغييرات وتبديلات في إدارتها وأوضاعها».
أما على صعيد الجوانب الأخرى من السينما، يتابع ملص: «لسوء الحظ، تناقص عدد
الصالات وتراجعت إمكاناتها التقنية، وانحسر الارتياد السينمائي
من جانب المتفرجين
وضعفت عملية استيراد الأفلام الجديدة والحديثة، وبالتأكيد عند غياب
الديموقراطية
وحرية التعبير نستطيع أن نقول إن كل أشكال النقد تتراجع ومنها أيضاً النقد
السينمائي. إذاً، غياب المشاركة السورية في بعض المهرجانات
العربية الأخيرة، هو
واحد من الأدلة التي تشير إلى مأزق السينما في سورية».
وشدد ملص على واقع تجميد نشاط المخرج السوري لسنوات طويلة بلا عمل سينمائي
بسبب
قلة إنتاج المؤسسة العامة للسينما أوالإنتاج الخاص وذلك على
رغم إبداعات المخرجين
السوريين المتميزة، والتي حققت جوائز مهمة في المحافل العربية والدولية.
وهذا ما
جعل البعض يتجه للأعمال التلفزيونية في الفترة الأخيرة. فأثبتوا هنا نجاحاً
أيضاً،
ولكن «مهما كانت موهبة السينمائي ومهما كانت طموحاته كبيرة
وقوية فإن غياب القدرة
على تحقيق الأفلام لا شك سيصيب السينمائي بدرجات ما من الإحباط والشعور
باليأس
ويضعف الفرصة لتطوير التجربة السينمائية لدى كل سينمائي». وأضاف:
«السينمائي المعطل
الذي لا تتاح له الفرصة كي يطور ويجدد ويقوي أدواته ولغته وطموحه السينمائي
من خلال
تجارب دائمة ومستمرة تجعله يواجه صعوبة في تطوير تلك اللغة
السينمائية».
وعن المخرج لذلك كله من وجهة نظره، دعا ملص السينمائيين السوريين إلى حذو
طريقه
الذي سلكه قبل سنوات عندما اتجه لسينما الديجيتال غير المكلفة
إنتاجياً، وقال: «بالتأكيد
بعد انتظار طويل بالنسبة لي شخصياً كان لا بد من البحث عن الوسائل
والإمكانات التي تخرج مشاريعي من الانسداد الذي حاولت المؤسسة العامة
للسينما أن
تضعه في وجهي، وفعلاً تمكنت من إمكان تنفيذ بعض مشاريعي
السينمائية بطريقة
الديجيتال مثل فيلم «باب المقام»...».
أضاف ملص، بقوله: «لم أجد أية صعوبات في التجربة. بالعكس وجدت عبر
الديجيتال
حقيقة مساعدة لي وهي انه مع الاحتفاظ بالتصور السينمائي، فإن
الديجيتال يمنح الفرصة
لخرق أسلوب السرد الذي كنت قد جربته سابقاً فحاولت التجديد في السرد والحكي
السينمائي من خلال هذه التجربة».
وأشار ملص إلى أن هناك فهماً خاطئاً للسينما في سورية ألا وهو أن المؤسسة
قد حمت
السينما من الهبوط التجاري حين قررت أن تكون المنتج الوحيد،
«أعتقد أن السياسة
الصائبة هي السياسة القائمة على أن تقدم المؤسسة أوالمجلس الوطني للسينما
أو وزارة
الثقافة الدعم للإنتاج السينمائي. فنحن ننظر إلى التجربة الإيرانية باهتمام
شديد،
لكنني أعتقد أن الشيوخ في إيران هم أكثر تطوراً من بعض حاملي
الشعارات التقدمية في
بلدان عربية متعددة. هؤلاء الشيوخ تمكنوا من أن يضعوا قوانين ساهمت في تطور
الإنتاج
في السينما الإيرانية، وصعودها المتألق على المستوى الدولي». وأضاف: «أردنا
احتكار
السينما مع عدم تقديم أي دعم خارجي، ما ساعد على نشوء تعقيدات
بيروقراطية كثيرة،
وساعد أن يكون الشعار الذي يمنح فرصة الإنتاج للفيلم الذي يعبّر في شكل
دعائي عن
نفس الأفكار التي تعبر عنها الأجهزة الإعلامية والدولة في حد ذاتها. أما
الأفلام
التي تريد أن تعبر بصدق عن قضايا ومشكلات المجتمع فهي المحرومة
من الإنتاج، لأن
المنتج هو الدولة التي لا يمكنها أن تساعد إنتاجاً ينتقد سياستها الداخلية
والاجتماعية والاقتصادية بسهولة شديدة وبتسهيلات كبيرة تقدم هذه المساعدة
للأفلام
الدعائية لها، في حين تحررت السينما السورية كثيراً حين بحثت
عن الإنتاج المشترك
والإنتاج الخاص أخيراً».
وأشار ملص أخيراً إلى أنه سبق له المشاركة في الكثير من المهرجانات العربية
وغير
العربية في لجان التحكيم، حيث أتيحت لي الفرصة مشاهدة أفلام
مهمة للغاية من مدارس
سينمائية مختلفة عند مشاركتي في مثل هذه التظاهرات السينمائية التي تأخذ
دوماً صفة
الدولية على غرار مهرجانات المنطقة العربية ومهرجانات أخرى خارجية.
ويشار إلى أن محمد ملص أخرج عدداً من الأفلام الملفتة والتي حصدت جوائز
عالمية
من مهرجانات دولية كبيرة مثل أفلامه «أحلام مدينة» و «الليل» و
«باب المقام»،
والكثير من الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية مثل «حلم مدينة صغيرة» و
«اليوم
السابع» و «الكل في مكانه... وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط» و «الذاكرة»
و
«فرات»
و «المنام» و «نور وظلال» و «مدرس» و «فوق الرمل تحت الشمس» و «حلب...
مقامات الممترة». ونشر روايته الأولى
«إعلانات عن مدينة تعيش قبل الحرب» وأيضاً
كتابه الأدبي «المنام... مفكرة فيلم» ونشر أيضاً سيناريو فيلمه
«الليل»، وكان ملص
قد تخرج في معهد السينما في موسكو في بداية السبعينات.
الحياة اللندنية في
21/05/2010
مهرجان سينمائي طالبي تحت لهيب الوجع
العراقي
بغداد - طه حسن الهاشمي
احتفل قسم الفنون السمعية والمرئية - كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد
بالذكرى
الخامسة والعشرين لانطلاق اقدم مهرجان سينمائي - تلفزيوني في
العراق.
ولا شك في ان الاحتفال باليوبيل الفضي لمهرجان سينمائي في العراق امر في
غاية
التعقيد. فالمهرجان لم يتوقف مع الحرب العراقية - الإيرانية
وحرب صواريخ المدن. ولم
يتوقف طيلة فترة الحصار التي استمرت 13 سنة ابتداء من حرب الخليج الأولى،
والوضع
الأمني المضطرب الذي اعقب الحرب، ومن ثم الضربات الأميركية ما قبل 2003، ثم
حرب
الخليج الثانية والتي اعقبها الاحتلال الأميركي للعراق في 9
نيسان (ابريل) 2003، ثم
الأوضاع التي تلت ذلك من تفجيرات وقتل على الهوية وتهجير.
ان نظرة فاحصة لكل هذا تنبئ عن اصرار غريب على الاستمرار، وتفصح عن طينة
استثنائية لقسم علمي يعتقد ان الفنون والأدب والثقافة لا تستمر
الا في ظل حضارات
عظيمة.
والملاحظ هنا كون هذا المهرجان الفني المستمر على رغم كل الظروف هو
المهرجان
السينمائي - التلفزيوني الوحيد الذي يؤكد ان السينما العراقية
ما زالت حية ونابضة
بالإبداع من ناحية. ومن ناحية اخرى فإن كل السينمائيين والتلفزيونيين
العراقيين
خرجوا من معطف هذا المهرجان الذي من خلاله وصلت الإبداعات العراقية الى
المهرجانات
المماثلة في الوطن العربي والعالم.
ولا يسع المرء هنا الا ان يتساءل: ماذا لو كانت امكانات المهرجان اكثر مما
هو
متاح؟ ماذا لو كان هناك فيلم سينمائي خام ومعامل طبع وتحميض
واستوديو تلفزيوني
محترف؟ ماذا لو كان العراق مستقراً؟ ماذا لو نظرت الجامعة ووزارة التعليم
العالي
الى الثروة التي بين ايديها كون الجامعة لا بد وأن تكون ذات صلة عالية
بالمجتمع.
ان نظرة فاحصة ترينا ان كل الفضائيات العراقية ومعظم فضائيات الوطن العربي
تستفيد من الطاقات البشرية التي اعدها قسم الفنون السمعية
والمرئية. وفي هذه السنة
عرض القسم خمسين عملاً ابداعياً لطلبته: مشاريع التخرج لطلبة الصفوف
المنتهية، وبعض
محاولات طلبة الصفوف غير المنتهية.
صحيح ان تقويم المهرجان للأفلام الفائزة قد لا يتفق عليه بالاجماع، لكن
لجنة
التحكيم التي تضم اساتذة الدروس الأساسية في القسم في الإخراج
والتصوير والمونتاج
وغيره، تحاول ان تكّون آراؤها عبر وضع درجات كل على حدة، ومن ثم استخراج
الوسط
الحسابي الذي يبرز اكثر الأفلام درجة. وبمثل هذا الإجراء فإن المزاجية تكاد
ان تكون
صفراً لأن اللجنة لا تكتفي بوضع الدرجات بل تناقشها بأسلوب
علمي.
تطرح الأفلام المشاركة بالمهرجان جملة امور منها:
التصدي وفي شكل يكاد يكون غالباً لمفردات عراقية يومية مثل الإرهاب،
التهجير،
الفقر، الحياة اليومية. وفي كل مهرجان تبرز هنا وهناك افلام
فيها مسحة من التجريب
والغرائبية. ولكن يبقى هذا استثناء، من هنا السؤال: لم هذا الانحياز
لليومي؟
في افلام الطلبة يبدو وكأن الملاحظات التي طرحت على افلام السنين السابقة
هي
نفسها من حيث ضعف الإمكانات التقنية والبشرية. فالإضاءة في
الغالب تعتمد على الاعيب
الكمبيوتر في المؤثرات الصورية - الصوتية، ما يجعل النتاج وكأنه لعبة. اما
التمثيل
فيقترب من المسرح، وبخاصة حين يستعين الطالب بممثل مسرحي محترف. وما يلفت
النظر،
ايضاً، افتقار المهنية في كتابة السيناريو في معظم الأفلام، ناهيك عن
جماليات
الكتابة من حيث شروط كتابة المشهد والعلاقة بين لقطاته وعلاقة
المشهد بالذي يسبقه
والذي يليه. كذلك شروط الصراع ودرامية الشخصية والحدث، وكيف يمكن ان يكون
المشهد
رئيساً او ان يكون صغيراً، وعناصر القصة السينمائية والحبكة ومن ثم المبنى
الحكائي
وعلاقته بالمتن.
لقد شهدت هذه السنة فيلماً بإمكاناتٍ تقنية على غير ما ألفت دورات المهرجان
السابقة. إذ وفّرت الجهة التي ساعدت احد الطلاب طائرات سمتية
وآليات عسكرية وطاقماً
بشرياً مجهزاً بالعدة اللازمة... لكن السيناريو الذي لم يستجب لشروط
الكتابة حتى
التي درسها الطالب نفسه يؤكد القول ان الكتابة الجيدة من الممكن ان تخلق
فيلماً
جيداً، وأن المشكلة ليست في الإمكانات الهائلة لكنها في روح
الفن.
أياً يكن الأمر، يبدو من الأفلام المعروضة ان الطلاب يتعاملون في الغالب
بسهولة
في انجاز أفلامهم. هنالك مشاهد غير مشبعة، او لقطات لا تحافظ
على الفعل ورد الفعل،
او عدم وجود جملة سردية سينمائية من اللقطة العامة ثم المتوسطة ثم اللقطة
القريبة.
كما ان أصول المونتاج من حيث قدرته
التعبيرية او الروائية والإرهاف السايكولوجي،
يأخذ بجهود غالبية الطلاب الى نهايات معروفة وإيقاعاتٍ مملة
وغموض أحياناً. وعلى
رغم كل شيء، فإن ما أنجز يثير الانتباه الى فئة طالبية متميزة في بلد يعتقد
كثر أنه
لا يحيا الا على طبول الحرب والغموض السياسي.
الحياة اللندنية في
21/05/2010 |