للحقيقة دائماً وجهان.. الوجه الذي يريد الأخرون أن تراه وتؤمن به،
والحقيقة كما هي دون ماكياج ورتوش وتجميل وتحريف.. بطل فيلم «تلك الأيام»
أستاذ جامعي مثقف وذكي من هؤلاء الذين يمتلكون ملكة الشرح والتفسير، ولديه
من الأدوات التي تجعل منه أستاذًا بارعًا في الإقناع وتجميل الحقيقة
وتسويقها لطلبته في الجامعة أو للمشاهدين علي الشاشة في البرامج والحوارات
التليفزيونية أو قرائه أيضًا. بالطبع شخص من هذا الطراز من الناس له تاريخ
كمعارض سياسي قديم للنظام يستخدمه كغطاء في لعبته التي ينافس فيها نفسه،
وهو يبدو أفضل بوق للنظام نفسه.. هو شخصية محترمة في الأوساط العلمية
والمثقفة ويستطيع ترويج أفكار النظام بأجمل صورة ودون فجاجة وركاكة كتاب
الصحف القومية.. سقطته أمام ميكرفون التليفزيون وهو في برنامج علي الهواء
حينما يتحدث مع مسئول بالداخلية عن دوره الحقيقي في الترويج للنظام الفاسد
تخرجه من جنة النظام إلي جحيمه. يحمل فيلم «تلك الأيام» المأخوذ عن رواية
للأديب الراحل فتحي غانم وإخراج «أحمد غانم» أفكاراً جريئة للغاية تقتبس
مفرداتها السياسية من الواقع المعاصر من خلال شخصيات فاسدة تدير دفة النظام
ببراعة.. هو يؤمن تمامًا بفساد النظام، ولكنه يستغل قدراته علي تجميل
الفساد وقلب الحقائق وتزييفها، ومثل تلك الشخصيات لا توجد علي شاشة السينما
كثيرا خاصة فيما يسمي بالفيلم السياسي. نري في «تلك الأيام» بذرة مبشرة
وقوية لفيلم سياسي، لكننا لا نري ثمارا ناضجة لتلك البذرة. أحداث الفيلم عن
الأستاذ الجامعي والصحفي المرشح للوزارة سالم حسين (محمود حميدة) هذه
الشخصية المنافقة شديدة الذكاء والدهاء التي تقوم بتبييض وجه الحكومة في
الفضائيات والصحف وتتقلب في أرائها حسب الظروف والمصالح، الشخصية الأخري
لضابط مكافحة الإرهاب علي النجار (أحمد الفيشاوي) الذي يعيش ذنب قتله
إرهابيًا انتقاما لمصرع زميله، رغم أنه كان يستطيع القبض عليه. الشابة
الجامعية أميرة (ليلي سامي) التي قبلت الزواج من الأستاذ الجامعي الذي
يكبرها في السن انبهاراً بثرائه ونفوذه، تنبع مبررات سلوكها المتناقض
والمشوه من خلال ماضيها الذي يكشف عنه الفيلم من خلال الفلاش باك الذي
استخدم كثيرا بصورة أرهقت تسلسل الأحداث. الأستاذ الجامعي والمفكر السياسي
يمارس دور المعارض لكنه يقدم الخدمات من خلف الستار للحكومة من خلال ترويج
أفكارها بصورة غير مباشرة، يستعين المفكر بالضابط الشاب الذي استقال مبكرًا
من الخدمة ليستمع إلي خبرته العملية في مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة
في التسعينيات. الزوجة الشابة الحزينة غريبة الأطوار تتعلق بالضابط الشاب
الذي تتذكر أنه أنقذ حياتها منذ سنوات في إحدي العمليات الإرهابية التي
حدثت داخل قطار كانت بداخله مع زملائها الذين كانوا في رحلة جامعية، تذكره
هي ولا يذكرها، تبدأ العلاقات المتناقضة المرتبكة بين المفكر والضابط
والزوجة الشابة من خلال سيناريو «علا عز الدين حمودة» الذي يحاول رصد تطور
العلاقة بين الضابط والزوجة وبين الأستاذ الحكومي ورجال النظام من ناحية،
وزوجته المتمردة علي برود حياتها الزوجية من ناحية.. كل ذلك في إطار متواز
بين تصوير الفساد السياسي والفساد الشخصي للشخصيات الثلاث.
الفيلم حافل بأفكار وشخصيات جريئة ومثيرة للجدل، لكنه لم يكن علي المستوي
الفني بقامة الأفكار نفسها.. لم ينجح السيناريو أو الإخراج أو حتي التوظيف
اللحوح لموسيقي عبده داغر التصويرية في الحفاظ علي توهج الفكرة وطزاجتها..
كثير من المط والتطويل وكثير من الفلاش باك والمونتاج غير السلس شتت الفكرة
والعلاقات الدرامية، وأصاب الفيلم بحالة من الترهل والفتور.. ارتباط الضابط
عاطفياً بالزوجة لم يكن واضحاً، ولهذا لم تكن تصرفاته التالية ونهاية
الفيلم متناسقة مع هذه العلاقة المشوشة التي بدت فيها الزوجة تسعي لخيانة
زوجها انتقاما منه، لكن لم تصل العلاقة علي الشاشة إلي قصة حب عميقة يمكن
أن تكون دافعاً له للتضحية بنفسه، أيضاً لم يبرز السيناريو أبعاد حالة
التطهر من الذنب التي تلح عليه سوي في صورة سطحية يبدو فيها وهو يصلي أو
يعاني كوابيس نفسية أثناء يقظته. لم يحل الضابط مشكلته وكذلك الزوجة، لكن
علاقتهما بدت أنها طوق النجاة للعبور من حياتهما التعيسة إلي حياة أكثر
طهرًا. الفيلم يكشف أبعاد الشخصيات النفسية دون أن يجسمها علي الشاشة، ولم
ينجح أداء الشخصيات الرتيبة في ضخ دم وحياة ومشاعر في تلك الشخصيات.. هي
شخصيات تحمل عناوين وتفاصيل جذابة ومبهرة، ولكنها تخبو علي الشاشة لسبب أو
لآخر، وعلي الأغلب السبب يكمن في توجيه المخرج للممثلين، لهذا نجد أن «أحمد
الفيشاوي» ليس في أفضل حالاته وهو متمسك بقناع جامد لشخصية مصدومة نفسياً
طوال مراحل الفيلم، حتي حينما يفترض أن الحب حرره نسبيا من وطاة الإحساس
بالذنب، ونجد «ليلي سامي» وجها معبرا في المشاهد الصامتة أكثر منها في
المشاهد المتكلمة التي تحتوي علي حوار وأداء تمثيلي. الوحيد الذي هرب نسبيا
من جمود الأداء «محمود حميدة»، فكان يسمح للشخصية الدبلوماسية الهادئة التي
يؤديها بالخروج قليلاً عن القالب الجامد والتعبير عن عواطفه، ورغم وجود كم
كبير من ضيوف الشرف، فإنهم لم يضفوا كثيرا للفيلم، كما لم يضف الفيلم
إليهم.
ورغم كل ذلك فظهور مثل هذا الفيلم مهم ومبشر بظهور تجارب أخري جادة يتحمس
لها المنتجون الباحثون عن القيمة.
الدستور المصرية في
14/05/2010
أفلام يتيمة لمخرجين متميّزين...
كسلٌ أم ظروف
إنتاجيَّة سيِّئة؟
فايزة هنداوي
يرصد متابع السينما المصرية ظاهرة غريبة، وهي وجود مجموعة من المخرجين
قدموا
فيلماً ظلّ هو الأول والأخير في قائمة نتاجهم. ما أبرز ظروف هذه الظاهرة
وأسبابها؟
هل يعزى ذلك إلى السوق السينمائي الذي فشل في استيعاب طموحاتهم الفنية أم
إلى «الكسل»،
أم ثمة أسباب أخرى؟
تتضمن قائمة المخرجين الذين يملكون في رصيدهم فيلماً يتيماً: شادي عبد
السلام
مخرج «المومياء»، هاني خليفة مخرج «سهر الليالي»، سيد سعيد مخرج «القبطان»،
أمال
بهنسي مخرجة «التحويلة»، وحيد مخيمر مخرج «الفاس في الراس»، عاطف حتاتة
مخرج «قيود
وقضبان»، سميح منسي مخرج «واحد كابتشينو»، زكي فطين عبد الوهاب مخرج
«رومانتيكا».
يؤكد المخرج سيد سعيد أن سبب ابتعاده الرئيس عن الإخراج تغير توجه السينما
بعد
نجاح «إسماعيلية رايح جاي» في التسعينات تحديداً، الذي أدخل إلى السينما
منتجين
يسعون إلى الكسب السريع من دون النظر إلى قيمة الأفلام، فبدأوا البحث عن
مخرجين
يقبلون بشروط النجوم واستبعدوا المخرجين ذوي البصمة في السينما المصرية،
خصوصاً أن
الموازنة تذهب في معظمها إلى البطل، ثم لا يمكن لأي مخرج يحترم نفسه وفنه
العمل تحت
هذه الشروط.
يكشف سعيد أن لديه ستة سيناريوهات جاهزة كتبها بنفسه ويتمنى إخراجها، لكنه
يرفض
شروط الإنتاج السينمائي الحالي.
كذلك يعرب سعيد عن كرهه المسابقات من بينها مسابقة دعم الدولة لعدد من
الأفلام،
لأنه يرفض أن يضع نفسه في انتظار موافقة اللجنة على دعم فيلمه باعتباره
تعدى مرحلة
التقييم، على حدّ قوله.
بدوره، يؤكد هاني خليفة أنه لم يجد طوال هذه السنوات نصاً مناسباً يحمسه
ويدفعه
إلى إخراجه وبمجرّد توافره لن يتردد في العودة، لكن لا يعني ذلك أنه توقف
عن
الإخراج، بل يتولى راهناً إخراج مسلسل «الجامعة». يُذكر أن رمزي أخرج قبل
سبع سنوات
فيلمه المتميز «سهر الليالي» الذي قلب الموازين السينمائية رأساً على عقب.
صفقات
تكمن المشكلة، بحسب سميح منسي، في أنه لا يستطيع عقد صفقات مع المنتجين
لأنه ليس
ناجحاً في تسويق نفسه، كما يقول، على رغم أن لديه مشروعاً مكتملاً لفيلم
عرضه على
هؤلاء، من بينهم «جهاز السينما» الذي أصدر تقريراً يؤكد فيه أنه فيلم رائع،
ومع ذلك
لم يرَ النور لأن إنتاج الجهاز ضئيل، ولأنه فشل في إقناع المنتجين بنجاح
الفيلم
وضمان إيراداته كما يفعل البعض.
يشير منسي أيضاً إلى أن نوعية الأفلام التي يقدمها لا تعجب المنتجين
المعاصرين
الذين يهتمون بإنجاز توليفة تجارية بعيدة عن المضمون.
أما عن دعم الدولة للإنتاج السينمائي ودورها في حلّ أزمات هذه النوعية من
المخرجين، فيؤكد منسي أنه شارك في مسابقة دعم الدولة بفيلم روائي طويل وآخر
ديجيتال
قصير، ويتمنى فوز أحدهما ليعود إلى الإخراج الذي يعشقه.
شروط خاصة
يرى الناقد وليد سيف أن أسباب ابتعاد هؤلاء المخرجين عن الساحة إصرارهم على
العمل بشروطهم وقواعدهم التي لا تلقى قبولاً من المنتجين، يوضح في هذا
المجال: «يختار
هؤلاء النص في البداية، ثم الممثلين الملائمين له، أما اليوم فتُفصّل
الأدوار على مقاس النجوم الذين يحرصون على أن يكون العمل كله لحسابهم،
وللأسف ترضخ
شركات الإنتاج لهم لأنهم يحققون إيرادات عالية».
يتفق الناقد مجدي الطيّب مع سيف في أن هؤلاء المخرجين لم يستطيعوا مواكبة
شروط
الصناعة السينمائية السائدة الخالية من القواعد الموضوعية والعلمية، يقول:
«أصبح
العمل متعلقاً بأهواء البعض وبالعلاقات الشخصية، وباتت لكل شركة إنتاج
مجموعة
مخرجين تتعامل معها، فيما يتمسك المخرجون أصحاب المحاولات اليتيمة بشروطهم،
وأهمها
قيادة العمل واختيار فريق عمل ملائم للفيلم ورفض التنازلات... للأسف، هذه
الشروط
غير متداولة على الساحة في ظل الواقع السينمائي، والحلّ، برأيي، تدخّل
الدولة ودعم
هؤلاء المخرجين».
في سياق متصل، يرى الناقد محيي الدين فتحي أن ثمة أسباباً لهذه الظاهرة
تتعلق
بالمخرجين أنفسهم، من بينها رغبتهم في خوض تجارب ناجحة لا تقلّ عن نجاح
التجربة
الأولى لذلك يترددون قبل الاقدام على تجربة جديدة، إضافة إلى أن السوق
السينمائية،
مثل أي سوق أخرى، يظهر فيها كل فترة مخرجون يفضل المنتجون التعامل معهم لأن
كلفتهم
أقل، ناهيك عن أنها تعتمد على العلاقات الشخصية بعيداً عن الموهبة.
«الاحتكار
أصبح إحدى أبرز آفات السينما المصرية» يقول الناقد أحمد الحضري،
و{باتت العلاقات العامة والاتصالات لا الموهبة من بين أهم عوامل النجاح،
موضحاً أن
المنتجين يفضلون التعامل مع مخرجين جدد لأن أجورهم قليلة ويقبلون
التنازلات.
الجريدة الكويتية في
14/05/2010 |