لم يعد “وادي الصراخ” الذي يفصل بين الأرض المحررة وتلك المحتلة من
“الجولان” السوري اسماً غريباً على الأسماع في الفترة الأخيرة . وباتت
مكابدات الأهالي المنقطعين عن ذويهم خلف الأسلاك الشائكة وحقول الألغام
ودوريات جيش الاحتلال “الإسرائيلي” تجد طريقها إلى وسائل الإعلام وشاشات
التلفزة والسينما .
ومؤخراً، استوقفت آلام “الجولانيين” في غربتهم القسرية تلك والمبثوثة عبر
الحناجر ومكبرات الصوت على ضفتي الوطن مخرجتين هولنديتين لمدة عام تقريباً
في الشرق الأوسط . ووجدت كل من “سابين لوبه باكر”، و”استر غولد” نفسيهما
تخوضان غمار مقاربة سينمائية تسجيلية لتلك المعاناة التي تعود إلى أربعة
عقود، بميزة مستحقة هذه المرة، كونهما تمكنتا من دخول القرى السورية
المحتلة، وتصوير
مشاهد حية عن أحوال السوريين اليوم تحت الاحتلال . عرفت المخرجتان ما يجهل
كثير من السوريين تفاصيله، نظراً لاستحالة انتقال أي مخرج أو إعلامي سوري
إلى الطرف المحتل في ظل حالة الحرب القائمة رسمياً حتى الساعة بين الطرفين
.
الفيلم الهولندي الذي لم يكن إلا ليحمل اسم “اصرخ” افتتح أول عرض دولي له
الدورة الثالثة لتظاهرة “أيام سينما الواقع دوكس بوكس” في سوريا مؤخراً،
متناولاً يوميات طلبة جولانيين تركوا أهلهم في قرية “مجدل شمس” المحتلة بعد
بلوغهم الثامنة عشرة، ليلتحقوا ب”جامعة دمشق” في الوطن الأم .
للحديث عن “اصرخ” الذي شهدت صالتا عرضه في دمشق إقبالاً جماهيرياً عريضاً
الشهر الحالي، حاورنا “سابين لوبه باكر”، إحدى مخرجتيه .
·
لماذا تختار مخرجة أوروبية
“الجولان” تحديداً موضوعاً لفيلمها الأول؟
- من المفترض أنه تكون لدي إجابة قصيرة وواضحة الآن، لكنني دائماً أجد
صعوبة في الرد على هذا السؤال لسبب ما . سبق لي العيش في سوريا، وأحببت هذا
البلد، ورغبتي في عمل فيلم عن موضوع “الجولان” عائد لكون الموضوع مثيراً
للاهتمام حقاً باعتقادي . والإثارة تأتي في المقام الأول من أن المكان هنا
بشكل عام يجبرك على اختبار مشاعرك حياله دائماً، فهو تارة بالغ الجمال،
وتارة مليء بمظاهر القبح . إنه يشعرك بالغضب أحيانا، وأحياناً اخرى يدفعك
دفعاً للمرح والضحك، تجد في بعض المواقف سهولة في التأقلم معه، فيما تستصعب
ذلك في مواقف أخرى، وهو بكل تأكيد مختلف جداً عن العالم الذي قدمت منه .
لذا أحسست برغبة قوية في إنتاج عمل يعكس صورة هذا المكان في ذهني . والتقيت
مصادفة في أحد شوارع دمشق بطلاب جامعيين قالوا لي إنهم قادمون من مكان يدعى
“الجولان”، وبدا لي مباشرة أن لديهم شيئاً ما يميزهم عن باقي الشباب
السوريين المولودين في العاصمة .
·
ما الذي جذبك إليهم؟
- كانت لهجتهم وثيابهم مختلفة، وهم دائماً مع بعضهم بعضاً، ناهيك عن كونهم
فضوليين تجاه ما يجري هنا في “دمشق” مقارنة بالمكان الذي قدموا منه .
وبالنسبة لي، وقعت في حبهم مذ سمعت قصصهم لسبب أجهله . ربما لأنهم تماماً
في هذا الوضع ال”مميز” وال”غريب” نوعاً ما . ومن هؤلاء الطلبة بالذات سمعت
لأول مرة عن “وادي الصراخ”، والحديث بواسطة المكبرات بين الأهل، وهي صورة
مثيرة سينمائيا باعتقادي، ومنها بدأت بالبحث لأول مرة عن الموضوع وحوله .
·
إلى أي حد تعتقدين أن الفيلم قدم
ملامح لم تكن معروفة لدى سوريين كثيرين عن الحياة في “الجولان” المحتل؟
- بعد احتكاكي بجولانيين عاشوا في دمشق لفترة طويلة جاوزت 3 سنوات، ومن
خلال التجارب الشخصية لعدد من أولئك الطلاب، أعتقد أن ثمة جهلاً من قبل بعض
السوريين بتفاصيل تتعلق بالحياة في “الجولان” . وروى لي أحد سائقي سيارات
الأجرة في العاصمة أنه أخطأ في تحديد مكان قرية جولانية، ظاناً أنها تقع
قرب الحدود التركية! وأنا آسفة لقول هذا، وهذا لا ينتقص من كون الطلاب
“الجولانيين” القادمين إلى دمشق فخورين إلى أبعد الحدود بكونهم سوريين، ما
يدفعهم إلى الحرص على أن يكون مواطنوهم جميعاً مطلعين قدر الإمكان على أدق
تفاصيل حياتهم على الضفة الأخرى رغم انقضاء فترة طويلة لهم تحت ذلك
الاحتلال جاوزت الأربعة عقود، وهي صورة ليست مطابقة دائماً لما يملك الناس
هنا من انطباعات عنها في أذهانهم .
·
سادت لفترة طويلة وما زالت، نظرة
قاصرة لدى بعضهم هنا حيال تناول مواضيع تتعلق ب”الجولان” المحتل، وصلت حد
تأثيم التعرض لتفاصيل الحياة الاعتيادية للجولانيين، فأخذوا على فيلمك
مثلاً مشهد حفلة الوداع الصاخبة التي يقيمها الأصدقاء لشخصيات العمل عشية
السفر إلى دمشق، كيف ترين الأمر من وجهة نظرك؟
- بالنسبة لي كان شيئاً سهلاً أن أحاول تكريس الصورة النمطية عن الطلاب
الجولانيين، ورغم أنه من المهم للفيلم أن تبقى الخلفية السياسية للموضوع
ماثلة في الأذهان، لكننا لم نكن بحال من الأحوال بصدد عمل فيلم سياسي محض
عن هذه القضية .
وغياب البعد السياسي المباشر كان سبب كثير من النقد الذي تلقيته بعد العرض
الأول للفيلم في سوريا خلال مهرجان “دوكس بوكس”، إذ عاتبني الناس مثلاً
لعدم إبراز مظاهر الاحتلال كاملة على الطرف الآخر . وهذا الانتقاد أتفهمه
جيداً، بيد أن هذه النقطة لم تكن المحور الأساس الذي بنينا عليه قصة فيلمنا
أصلاً “أنا وإستر”، ولو أني انسقت أكثر وراء تجسيد هذا الجانب بالذات لبدا
حينها أننا نصور فيلمين في فيلم واحد . وهذا باعتقادي الشخصي خطأ يجب تجنبه
عندما يكون المرء بصدد عمل تسجيلي، ناهيك عن أنه كان سيقصيني على نحو ما عن
الشخصيات التي اخترت تصويرها في فيلمي منذ البداية، بل الأصح القول: اخترت
تصوير فيلمي من خلال عيون ورؤية تلك الشخصيات لما يجري حولها.
·
ما التحديات برأيك أمام فيلم
كهذا عندما يعرض على جمهور أجنبي قد لايكون ملما تماماً بتفاصيل وحيثيات
قضية حساسة كتلك التي يتعرض لها؟
- أعتقد أنني سأستبق الأمور بعض الشيء وأقول إنني سأحب الجمهور هنا في دمشق
أكثر من أي مكان آخر، فعندما يجلس الناس في السينما ويبدأون بإصدار الأصوات
والتصفيق، أو الاعتراض على بعض المواقف وصولا إلى الهدوء المطبق أحياناً
قبل أن يبادروا إلى إخراج المناديل والبكاء، متفاعلين مع مجريات الأحداث في
الفيلم؛ فإن ذلك يشكل لي متعة لا توصف، وهذا أمر قد لا أجده تماماً مع
جمهور أجنبي .
ورغم ذلك وضعنا في اعتبارنا بكل الأحوال ومنذ البداية، أن الفيلم موجه
لجمهور غربي أساسا، حيث يوجد من لا يعرف شيئاً على الاطلاق عن قضية هضبة
“الجولان” والسوريين الذين يعيشون فيه تحت الاحتلال منذ 43 سنة . كما لم
يسبق لغالبية كبيرة في الغرب أن التقوا بأي سوريين في حياتهم، بل يكاد
بعضهم لا يعرفون شيئاً عن سوريا نفسها .
ولهذا اعتقد بأنه يتوجب علينا أن نزود مشاهدينا الغربيين أولئك بالكثير من
المعلومات والنصوص والخلفيات عن الوضع القائم في المنطقة، والذي صور الفيلم
في إطاره .
وهناك تحد آخر برأيي ماثل أمام الفيلم، بالنظر إلى أنه كان هناك كثير من
الأفلام التي أنتجت عن منطقة الشرق الأوسط مؤخرا، وخاصة في أوروبا، حيث بدأ
بعض الناس يشعرون بالملل من مواضيع كهذه، وهذا أمر مؤسف برأيي، لأن الصراع
الدائر في هذا الجزء من الأرض واحد من أطول الصراعات في التاريخ، وأنا
معنية جداً بإيصال رسالة عن بعض ما يحدث هنا لبقية العالم رغم أي شيء .
·
هل تعتبرين نفسك منحازة في فيلمك
لأحد طرفي النزاع، وبالتالي هل تتوقعين أن يثير مشكلات لدى عرضه في أوروبا
لأسباب تتعلق بالتمويل أو التوجه السياسي للعمل؟
- لا أعتقد أنني وإستر منحازتان في عملنا هذا لأي طرف، ومن البديهي القول
إن شخصيات الفيلم بطبيعة الحال ليست مناصرة ل”إسرائيل”، فهم سوريون أولاً
وآخراً . وأنا معنية هنا بالتأكيد أنه رغم صحة ما ورد من أن تمويل الفيلم
جاء مباشرة من الحكومة الهولندية، بيد أن رسميي الحكومة لم يكن لهم أي
تأثير في خططنا في تصويره وتجنبنا في “اصرخ” اللجوء إلى السرد السياسي
المباشر . وآمل أن يسمح لفيلمي بأن يعرض في “إسرائيل” نفسها، كما أنني أنوي
عرضه على أية حال في “الجولان” المحتل الصيف المقبل .
الخليج الإماراتية في
07/05/2010 |