ثلاثة أفلام تسجيلية مصرية شاركت في المهرجان القومي للسينما،
تستحق التوقف عندها، كون أحدها يمثل حالة فنية متميزة ذات خصوصية، لمخرج
يمتلك
أدوات سينمائية ورؤية عميقة، فيما الثاني يمثل النقيض أو
بالأحرى تجربة هزيلة على
المستوى البناء الفني و الفكري، لا يعدو كونها ثرثرة حوارية، وبينهما تجربة
جيدة
على المستوى التقني، ومرتبكة بنائيا، حيث تتشعب فيها الخطوط، ويضيع المنظور
الأصلي،
ويتم الانحراف عن الخط العام الذي تم الانطلاق منه، لصالح توجه ايدلوجي
سيطر على
صناعه.
أما الفيلم الأول فهو"أيام الراديو" للمخرج سمير عوف الذي يبدو أشبه
باستدعاء حالة ماضوية، على نحو" نوستالجي"، حيث كانت الإذاعة المصرية
وبرامجها،
خاصة الدرامية الغنائية محرضة على انطلاق الخيال، وتجوال المخيلة في عوالم
شتى بين
الريف والحضر، بين جنبات التاريخ وفصول الواقع المعاش.
وقد سعى المخرج
لإدخال المشاهد في أجواء عالمه الخاص بحساسية مرهفة ودون ضجيج ، بمعالجة
غير
تقليدية، غابت عنها المباشرة والروايات، إلى التعبير البصري ذي الدلالة
الرمزية
سهلة التلقي، وذلك على خلفية من مقاطع من الصور الغنائية، التى
كانت تبثها الإذاعة
المصرية في الخمسينات من القرن الماضي.
إذ واصل منذ اللحظة الأولي إيجاد
معادل بصري لكل صورة غنائية، والانتقال بسلاسة من مسمع صوتي
إلى آخر، ومن مشهد
لمشهد، في تداخل مدهش وتداعي حر للمعاني والمشاعر، ما صنع لوحة بصرية حية
وجذابة،
ولم يكتف بهذا الشكل التقليدي، إنما عمد إلى معالجة مبتكرة تعمق فكرته،
التى تنطلق
من الاحتفاء بالإذاعة، وتجسيد أثرها على أجيال، قبل ظهور التليفزيون الذي
سرق منها
الأضواء، بإظهار طفل من وقت لآخر يسرح بخياله أو يتأمل ببراءة،
ويقطع عليه، لينتقل
إلى صندوق خشبي يصدح منه الغناء أو صوت مجسم لشخص يروي قصصا، ثم يقطع مرة
أخرى،
لينقلنا إلى مصر بشوارعها ونيلها وحقولها، وأحيائها القديمة والحديثة،
ومعابدها
ومآذنها، فيما تتواصل في خلفية الكادر الصور الغنائية.
وقد أحسن المخرج في
اختيار توقيت جيد للتصوير هو لحظة الفجر، بكل إيحاءاتها، حيث الصمت الذي
يحرض على
الخيال والتأمل برحابة.
وحرص في معظم الأحيان على أن تكون اللقطات
بانورامية، بالترافق مع الرجوع التدريجي"الزووم اوت"، لإظهار
أكبر قدر من التفاصيل
ومعايشة الحالة والمكان، إلى جانب حرصه أن تكون زاوية الكاميرا
كثيرا من أسفل
لأعلى، لبيان الثراء الجمالي والشموخ والانطلاق والسمو الروحي، المتوافق مع
حالة
الحلم والتخيل، خاصة لدى تصوير المآذن والقباب والعمارات والنخيل وأشرعة
المراكب
النيلية، إلى جانب التداخل بين لقطتي المعبد الفرعوني والمآذن
بحي القلعة، وكأنه
يقول إن حلقات التاريخ المصري متواصلة فضلا عن تتابع لقطات حي القلعة
وأحياء وسط
البلد الراقية والريف، وكأنه يريد ان يقول إن الإذاعة كان لها نفس التأثير
على
الجميع أغنياء وفقراء.
وبين القطع المتوازي بين الراديو والطفل ومصر بكل
تفاصيل شخصيتها، تتعمق الفكرة أكثر فأكثر، وتأخذ بعدا دراميا متصاعدا،
يوصلها إلى
الذروة، ولحظة التنوير، بظهور مخرج العمل ذاته فوق ذات سطح
البيت القديم بحي القلعة
بالقاهرة في العام 2000 ، في نفس موقع الطفل قبل 50 عاما، وكأنه يريد أن
يقول إن ما
تم سرده على مدى نصف ساعة هو فصل من فصول سيرتي الذاتية، وأن الطفل الحالم
الذي
رأيتموه هو أنا، الذي لولا الإذاعة ما صار لديه هذا الخيال،
وروح الإبداع، وما تحول
لصانع أفلام، غير أنه لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما توقف بكاميرته عند
أطباق
الاستقبال الفضائي، وعاد مرة أخرى إلى جهاز الراديو العتيق ليقول إن هذه
التكنولوجيا، ربما تكون سرقت مكانة الراديو، الا أن الحنين له
مازال موجودا، وثمة
من يقدره ويحتفي به، وهي العبارة التى ظهرت مكتوبة على الشاشة في نهاية
الفيلم، من
شكر وتقدير للإذاعة المصرية، ولروادها الأوائل من المخرجين.
إنه فيلم يستحق
الاحتفاء به، وبمخرجه، الذي يتمتع بنضج فكري وفني، أوصل المشاهد إلى حالة
من متعة
المشاهدة، التى تغيب عن كثير من الأفلام التسجيلية، التى يصنعها مصريون،
ومنهم عمرو
بيومي مخرج فيلم"كلام في الجنس"، الذي يبدو من الصعب تصنيف
عمله كفيلم، ونسبته إلى
قالب السينما التسجيلية، فهو ليس سوى ثرثرة حوارية تغيب عنها الرؤية
البصرية، ما
يقربه إلى قالب "الريبورتاج" التليفزيوني السئ أيضا، وليس الجيد، لغياب
رؤية فكرية
كذلك، إذ لم يحدد المخرج وجهته منذ البداية، وترك الأمر على ما يبدو لقانون
الصدفة
، فلم يتمكن من تحديد ماذا يريد أن يقدم
للمشاهد، وما هو المنظور الخاص به،
ومعالجته لقضية عامة، ومتشعبة كالجنس، هل يريد أن يختبر وقع
كلمة جنس على المارة في
الشارع، أم يستضيف شابين وشابة للحديث عن تجاربهم الجنسية، والضغط
الاجتماعي
المحاصر لهم، أم يستمع لشهادات رجال ونساء متزوجين، يروون الفارق بين لذة
المعاشرة
مع الزوج، ومع العشيق، وحالة الملل الزواجي ، أم أنه يريد أن
يسمعنا آراء خبراء في
علم النفس والاجتماع والذكورة والسكسولوجي ، أو يستعرض رؤي فنانين تشكيليين
وأدباء
في قضية الجنس، وعلاقتها بالإبداع.. أم يريد كل هذا، وزيادة، كالحديث عن
العادة
السرية والختان و التعرض للمواد الإباحية وغيرهم.
ما أوجد في النهاية مزيج
غير متجانس أشبه ب"سمك لبن تمر هندي"، ما أربك المشاهد، وأضاع
وقته عبثا، ولم يضف
له أي جديدا، سواء على مستوى المعلومات المكررة ،أو المتحدثين المستهلكين،
أو
الرسالة المفقودة، أو حتى المتعة البصرية الغائبة، لانتقالاته المباشرة من
ضيف
لضيف، والتحدث في وضع ثابت، ما يزيد عن دقيقتين، فيما الصورة
عنده وظيفتها ثانوية،
وأشبه بالفواصل، وليس معادلا بصريا أو معمقا للمعنى ، فضلا عن غياب جرأة
التناول
باختيار متحدثين يحكون في الظلام، ما يجعل هذا الفيلم الذي يفتقر لمقومات
العمل
السينمائي، أقل حتى من مستوى البرامج التليفزيونية، التى عالجت
هذه
القضية.
ونصل إلى الفيلم الثالث الذي يبدو أفضل من "كلام في الجنس" على
المستوى التقني، ألا وهو فيلم" جيران" للمخرجة تهاني راشد، إذ كانت الرؤية
البصرية
جيدة، بل أنها لم تكتف بلقطات مصورة ذات دلالة قوية فحسب، وإنما راحت
تستعين بلقطات
من أفلام قديمة تعمق بها فكرتها، وتستعيد لحظات ماضوية لأبعاد
وظيفية، وسط تقطيع
جيد، وجمل قصيرة، ما صنع إيقاعا سريعا، وسط تنوع المتحدثين وأماكن التصوير،
ما بين
الداخلي والخارجي واللقطات المقربة والبعيدة التى تستخدمها في مكانها
الصحيح، لتقول
معاني محددة، ما أضفى حيوية على العمل الطويل جدا،تكشف عن قدرات فنية
للمخرجة، غير
أن الإشكالية في الجانب الآخر من العمل ، أقصد بناءه الفكري،
ورسالته
الموجهة.
فالمنطلق الأساسي أو الخط العام للفيلم هو التعاطي مع الوضعية التى
أفرزتها حرب العراق في مصر، من إجراءات أمنية مشددة حول السفارات المتزعمة
للعدوان
على العراق كالولايات المتحدة وبريطانيا، وصلت إلى حد إغلاق
المنطقة بمتاريس
وحواجز، وجعلها أقرب إلى ثكنة عسكرية، يصعب الدخول إليها، وهو ما كان له
إنعاكساته
الاقتصادية والنفسية بشكل خاص، على ساكني هذا الحي وأصحاب المحال، الذي
تعطلت
مصالحهم، وكسدت تجارتهم، وتعرضوا للاستدانة، التى قضت على
البعض، ممن ماتوا قهرا
وكمدا، إلى جانب الخديعة التى تعرضوا لها على يد السفير الأمريكي السابق،
الذي كان
يجيد العلاقات العامة، ويميل للاختلاط مع الجماهير، حيث دعاهم لحفل استقبال
ظنوا
أنه لبحث أزمة عسكرة المنطقة، وتبشريهم بالعودة إلى الحالة
السابقة، غير أنه فاجأهم
بالحديث عن تجميل المنطقة حول الحواجز.
غير أن المخرجة انحرفت هذا الخط
الرئيس، الذي يعبر عن هم اجتماعي متعدد الأبعاد، و منطق هيمنة
القوة داخليا
وخارجيا، ولو على حساب المعاناة الإنسانية للمواطنين المسالمين، وأهملته
رغم أنه
يستحق إلقاء الضوء، وتناوله بعمق وتركيز، وحولته من المتن إلى الهامش،
بالدخول الى
منطقة أخرى استهوتها أثناء العمل وجمع الشهادات، ومثلت لها هاجسا لم تستطع
الإفلات
منه، ألا وهو تكريس إدانة ثورة يوليو، وتحميلها المسئولية عن تدهور الوضع
المعماري
والجمالي للحي الارستقراطي، بالسماح لأبناء الشعب أن يقتحموا "جنة الطبقة
الراقية"،
ويغزوها، بقيم العشوائية والضجيج والزحام والتدين الواسع للمجتمع التى غيرت
معالم
الحي، للدرجة التى دفعت بكثيرين إلى هجره، أو البقاء اضطراريا.
ويبدو أن
المخرجة تعمدت تصدير هذه المغالطات التى تتنافي مع الوقائع التاريخية في
جانب منها،
إذ أن عملية الهدم والبناء للقصور والفيلات ومناخ العشوائيات، والإفقار
والمد
الأصولي بكل تداعياتهم، نتاج مرحلة الانفتاح الساداتي، وشهدت
ذروتها في عهد مبارك،
وليس عبد الناصر، وثورته التى جرى الانقلاب عليها بوفاته.
وبدت المخرجة غير
موضوعية في تناولها للخط المنحرف للفيلم الذي يركز على التحول الديمغرافي
للحي،
وحولت عملها إلى خطاب طبقي تمييزي فج، يتباكي على العصر الملكي وحقبة
الاحتلال
البريطاني، واعتبارهما العصر الذهبي لمصر، والنظر إلى قضية
العدالة الاجتماعية،
والقضاء على الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم، وإتاحة الفرصة أمام جموع
الشعب
لينال حقوقه، من صحة وتعليم ووضع اجتماعي أفضل، على أنه خطأ تاريخي وكارثة
أرتكبها "ضابط
ديكتاتور" هو عبد الناصر.
وتبدو القصدية، والانحيازات الطبقية واضحة
بفجاجة من أول جملة في الفيلم، إلى أخر جملة، بحشد كل المعادين
للثورة ممن تضررت
مصالحهم، من أبناء الباشوات السابقين كحفيد فؤاد سراج الدين الذي أتت به
المخرجة
ليقول إن ناصر سجن جده لأنه رفض القبول بتأميم الأراضي دون تعويضات، أو أبن
أحد
كبار الرأسماليين اليهود بمصر سليم صيدناوي الذي يشتكي من
مصادرة ممتلكاته، أو ابنة
طبيب الملك فاروق التى تروى واقعة اقتحام ضابط قصرهم، وتهكم أمها منه، لأنه
لا يعرف
الإمساك بمسدسه، أو مرسي سعد الدين مترجم الرئيس السادات الذي يحكي عن
انغلاق مصر
في عهد الثورة، مقارنة بالأربعينيات، وحتى من أتت بهم، ليمثلوا
وجهة النظر الأخرى
كان صوتهم خافتا، ولهم تحفظات على الثورة، كالأديب علاء الأسواني الذي ركزت
المخرجة
على إدانته للثورة، ولعبد الناصر "الديكتاتور العادل" أو "صانع ميكنة
الاستبداد"،
حسب وصفه، وهي تقريبا نفس جملة المفكر محمود أمين العالم الذي أختتم الفيلم
به، وهو
يحكي عن اعتقال نظام ناصر له، ولمثقفي اليسار وتعذيبهم، رغم أنه كان يحب
هذا الرجل،
ويؤيد التوجه الاجتماعي للثورة، وربما الصوت الوحيد الذي كان واضحا في
الدفاع عن
الثورة، التى انحازت لجموع الشعب، وأتاحت لهم فرص العمل
والكرامة، أتي من شخص فقير
يعيش على السطوح، إذا ما وضعنا رأيه في سياق الإدانة المتواصلة لنظام عبد
الناصر،
فسيكون خافتا, ومفتقدا للمصداقية، لأنه يعبر عن مصالح الفئة العشوائية،
التى أساءت
للحي، حسب منظور المخرجة.
إلى جانب، أن ثمة لقطات دالة ينبغي التوقف عندها،
تؤكد المنطلقات الطبقية لصانعة هذا العمل، وأجندتها، مثل لقطة المصلين
بالشارع،
والذي تقطع عليهم، لتنتقل إلى طفل صغير يرتدي الزي العسكري، في
ربط ذي مغزي تسعى من
خلاله إلى الربط بين الأصولية والعسكرة للمجتمع الذي يتواصل منذ الطفولة،
ولقطة
الأولاد الذي يلعبون الكرة في الشارع، والذي تقطع عليهم، لتركز على كلب
وقطة يطلان
من شباك إحدى الفلل، وكأنها تريد أن تقول إن هذه الحيوانات أكثر رقيا من
أولاد
الشعب البائس العشوائيين، إذ صارت منعمة في البيوت، بينما
الأولاد، مثل الحيوانات
اللقيطة يتجولون في الشوارع ويأخذون مكانها.
وكأن الفقراء مسئولون عن فقرهم،
وأننا بدلا من أن ندعو لمحاربة الفقر، يجب أن نحارب الفقراء،
إن لم نقتلهم.
إنه
فيلم الرسائل الطبقية الشريرة، ووثيقة إدانة ساذجة لثورة العدالة
الاجتماعية، دون
منطق سليم أو نقد موضوعي، وإنما تصفية حسابات، وخدمة لمصالح العائدين من
الماضي
الذي قضت عليهم الثورة، وورثتهم، الذين تتعالى أصواتهم بقيم التمييز
والاستعلاء
اللاأخلاقية، والتلاقي بين قوى الاستغلال الداخلي والخارجي،
بعد أن وجدوا فرصة
مواتية في تزاوج رأس المال والسلطة في مصر، وتصفية مكتسبات ثورة يوليو،
والرغبة في
الإجهاز على مورثها الفكري وتشويه صورتها كذلك، الأمر الذي يجعل هذا الفيلم
يستحق
الإدانة، ولمن يروج لهذه الدعاوى الممجوجة المعادية للشعب وثورته الوطنية،
وإن
قدمها في قالب فني جذاب.
*كاتب
وناقد مصري
mabdelreheem@hotmail.com
الديوان الفلسطينية في
28/04/2010
محمود عبد الرحيم يكتب
الأفلام الروائية القصيرة.. ثقافة الثرثرة البصرية وفقر
الفكر
رغم حماسي الشديد للسينما الروائية القصيرة
ولتجارب شباب السينمائيين، خاصة المستقلين منهم ، إلا أني شعرت
بالإحباط الشديد بعد
مشاهدة قرابة 20 فيلما مشاركا في المهرجان السابع للسينما الروائية القصيرة
بساقية
الصاوي ، كوني ألحظ تراجعا ملحوظا في مستوى الأفلام عاما تلو عام ، سواء
على مستوى
البناء الفكري أو الفني ، والدوران في مساحة محدودة من الأفكار المكررة
والمعالجات
السطحية ، فضلا عن المباشرة الفجة ، وعدم استيعاب كثيرين
لخصوصية صناعة فيلم روائي
قصير يبدو أقرب إلى قصيدة شعرية أو قصة قصيرة مشحونة بالمعاني والدلالات
والانشغال
بفكرة امتلاك فيلم يحمل اسمه أكثر من الانشغال بصناعة فيلم ملفت بلغة
سينمائية
وحساسية فنية ويحمل رؤية ما ، الأمر الذي يكشف عن غياب الموهبة
لدى كثيرين وفقر
الفكر.
وربما مشكلة مثل هذه المهرجانات أنها تهتم بالكم على حساب الكيف ،
وتعتبر أن اشتراك عدد ضخم من الأفلام بصرف النظر عن جودتها وقيمتها الفكرية
والفنية
أمر محمود ، فضلا عن مساحة المجاملات والشللية المعهودة.
ولو أراد منظمو هذا
المهرجان خيرا بهذا الجنس السينمائي المهم ، لسعوا إلى اختيار عدد أقل من
الأفلام
الجيدة، ليتسني مشاهدتها بعمق واهتمام وإتاحة الفرص لندوات تتناولها ،
وتلقى الضوء
على هذه التجارب في حضور صناعها وعدد من النقاد من أجيال
مختلفة، ومشاركة الجمهور
ذاته لخلق ذائقة فنية تستوعب هذا اللون وترسخ وجوده ككيان مستقل، وليس
مرحلة
انتقالية تجريبية للوصول إلي الفيلم الروائي الطويل أو بالأحرى إلي السينما
التجارية.
لكن أن يتم عرض قرابة 20 فيلما متتاليا دون استراحة ، ودون مساحة
للحوار والنقاش ، فأمر يدل على العشوائية في التنظيم وعدم الجدية في دعم
السينما
الروائية القصيرة أو إقامة مهرجان رصين له قيمته وجدواه.
ويبدو الأمر كما لو
كان الهدف إقامة مهرجان والسلام ، بنفس منطق الشباب المتحمس فقط لصناعة أي
شئ مصور
يحمل اسمه ، ويطلق عليه عن غير حق اسم "فيلم" في إطار ثقافة الشكليات ، لا
العمق
والقيمة.
وربما من الملاحظات العامة التي خرجت بها من المشاهدة هو مساحة
الثرثرة البصرية والحوارية في كثير من الأفلام وغياب فكرة الاقتصاد أو
التكثيف
للمشاهد ، إلى جانب وفرة اللقطات المجانية التى تتسبب في إرباك التطور
الدرامي و
تُبطئ الإيقاع و تضعف البناء الفنى ولا تضيف إليه بأي حال من
الأحوال، بالإضافة إلى
الاستسهال في المعالجات واللجوء إلى المناطق الشائعة والتيمات المتداولة ،
فغالبية
الأفلام التى شاهدتها مثلا بها مشاهد مكررة لشباب يشربون الكحول ويدخنون في
بار أو
في شقة مغلقة بصحبة فتيات رخيصات ، أما لأنهم يمرون بأزمة
نفسية أو بحثا عن اللهو.
إلي جانب لقطة مكررة للحمام أما للاستحمام أو التقيؤ ، ومعظم الأبطال
يفكرون في
الانتحار دون سبب واضح.
لدرجة انك قد تشعر انك أمام مخرج واحد، وليس أكثر من
شخص وأكثر من فيلم. كما يغلب على كثير من الأفلام الخطاب المباشر بصيغة
الموعظة
الأخلاقية ، كما هو الحال في فيلم"جواني" للمخرج بشرى شهدي
الذي أراد تجسيد صوت
الضمير الذي يمنع شابا من اغتصاب الخادمة من خلال شخص مجهول يقتحم عليه
عالمه
الالكتروني ويحدثه من خلال أحد برامج المحادثة علي الانترنت ويواجهه
بمعلومات
وحقائق عنه وعن تصرفاته كما لو كان يراقبه ويعرف كل ما يقوم به
أو يفكر به ، ثم
يكتشف في النهاية من خلال صديق يأتي لزيارته أن الانترنت متعطل في مصر
كلها.
وعلى نفس المنوال جاء فيلم"ميلاد فكرة" للمخرج المهند أسامة الذي كان
أكثر مباشرة و سذاجة بإدارة حوار بين شاب كسول وفكرة متخيلة تدور في ذهنه
وتريد أن
تخرج وهو يتقاعس أو يتكاسل عن إخراجها إلى أن تموت بينما ينشغل بالأكل
والشراب.
واختتم المخرج الذي عجز عن إيجاد معادل بصري لفكرته المجردة سوى
بكتابة
عبارة "إن الحضارة الغربية الحالية قائمة على الحضارة العربية القديمة"
وكأنه يريد
أن يقول إن الأجداد كانوا يهتمون بالأفكار أكثر من الأحفاد ولذا هم تقدموا
ونحن
تخلفنا.
إلى جانب معالجة البعض لفكرة لا تتلاءم مع هذا الجنس السينمائي مثل
فيلم"الحكم" لأيمن الأمير الذي بدا غير موفق هذه المرة مقارنة بفيلمه
السابق"منديل
الحلو" ، إذ إن فكرته تتلاءم أكثر مع قالب الفيلم الروائي الطويل لتكون
أكثر
استيعابا لخيطها الدرامي الممتد وخلفية أبطالها النفسية
والاجتماعية ومساحتها
الزمنية الكبيرة، حيث يتناول أكثر من حكاية لأكثر من شخصية تشمل الأب الذي
تزوج
بفتاة اصغر منه، ثم تركته وتزوجت بمدرس ابنها ، والأم التى سافرت خوفا من
انتقام
الأب، والابن الذي يعاني من قسوة الأب وتسلطه ويسعى للتمرد
ويدخل في علاقة مع امرأة
مطلقة، ومنافسو الأب العطار من الذين يحرضون الابن ضد أبيه ويسعون لتوريطه
في تجارة
بضائع مهربة، وأخو الزوجة والعمة.
وربما أكثر الأفلام التي استوقفتني
ببساطتها وشاعريتها ولغتها السينمائية المكثفة والموحية في
الوقت نفسه ، فيلم "8
صباحا" للمخرج يحيى عبد الله، حيث يعجب شاب بفتاة مقعدة يراها تطل من
البلكونة،
فيقرر أن يذهب إليها في نفس التوقيت كل يوم ، ويلجأ إلى كل الحيل للفت
انتباها من
تمثيل حركي علي طريقة البانتوميم أو عزف الموسيقى أو إلقاء
وردة بيضاء حتى ينجح في
النهاية في الحصول على مراده وينال ابتسامة ساحرة.
وكذلك فيلم" مسدس ميه"
للمخرج ادهم رفعت الذي يمكن قراءته على أكثر من مستوى حيث ينطلق من الفكرة
الوجودية
التى تتحدث عن أن حرية الاختيار تمثل عبئا نفسيا على الإنسان، وتدفعه للقلق
، وذلك
من خلال شاب يحتار بين استقلال ميكروباص يقله للمعهد أو الذهاب
للتبول ، غير انه
خلال رحلة الذهاب تستبد به الرغبة لتفريغ مثانته على نحو لا يُحتمل ، ما
يجعل أحلام
يقظته تتمحور حول إعلانات الحمامات وتستدعي لديه ذكريات الطفولة ، حين كان
يعاني من
نفس الإحساس في الفصل المدرسي ويتعرض لقمع المدرس ، إلى أن يُوقف السائق
السيارة
بعد عراك بين الركاب، فيقرر التبول في الشارع كالأطفال ، لكن
حركة الناس خاصة
الفتيات تجعله يتراجع حتي يرى علامة "تواليت" وشخص يخرج منه فيقرر التوجه
إليه،
فيصطدم بعائق من رجال الأمن الذين يرفضون دخوله إلى مقر سفارة وأثناء عراكه
مع
الجنود والديبلوماسي الأفريقي تنفجر مثانته في وجوههم كما لو
كان مسدسا
مائيا.
وعلى بساطة فكرة هذا الفيلم إلا أنه يمكن قراءته في سياق سياسي رمزي
يحمل سمت التحذير ، حيث يمكن أن تنسحب على الشعب المصري الذي يؤجل إشباع
احتياجات
أساسية ، غير أن كثرة القمع قد تولد في النهاية الانفجار
الكبير في الزمان والمكان
غير المتوقعين.
وإن كانت راقت لي فكرة فيلم" روبابيكيا" للمخرجة إيناس عمر
الذي يقارن بين عصور مصر الثلاث بصورة رمزية من خلال أغاني كل مرحلة ومشاهد
تليفزيونية لخطب الرؤساء ، حيث الناصرية حقبة البناء ومعارك
الاستقلال الوطني وبيع
سيدة البيت زوجة الضابط لبائع الروبابيكيا الطاربوش رمز عهد ما قبل الثورة
، وحقبة
السادات حيث التطبيع مع إسرائيل والتخلى عن معارك النضال ببيع السيدة خوذة
المقاتل
، ثم المرحلة الراهنة حيث البيع العام لكل
شئ دون حاجة لبائع روبابيكيا ، غير أن ما
يُؤخذ على هذا الفيلم هو المباشرة الشديدة لرسالته السياسية.
ويبدو فيلم"
قرار إزالة" للمخرج محسن عبد الغني من الأفلام الجيدة بإيقاعه السريع
وتركيزه على
معاناة الفتيات أثناء مرحلة المراهقة ، حيث مغامرة اكتشاف الجسد و حالة
الخوف
والارتباك المصاحبة والخجل من أن يعرف الآخرون ماذا نقوم به من
طقوس النساء كإزالة
الشعر الداخلي ، في غيبة الحوار بين الأم والابنة ونقص الثقافة الجنسية ،
واعتبار
الجسد طلسما والتعاطي معه من المحرمات والشأن السري.
ورغم الإيقاع البطئ
نسبيا لفيلم" ألبوم صور" للمخرجة نورهان متولي إلا أن قيمته الأساسية تتجلي
في
تسليطه الضوء على مشكلة ذوى الاحتياجات الخاصة، خاصة مرضى التوحد وسوء
معاملة الناس
لهم بدلا من دعمهم ، من خلال شاب يهوى التصوير ، غير أنه يتعرض
لمضايقات الكبار
والصغار كلما خرج لإشباع هوايته
ويصل الأمر لذروته بقتل أخته التى كانت ترعاه
على يد مجموعة من الشباب المستهتر أثناء محاولة اغتصابها ، ما
يترتب عليه أن يبقى
الشاب المعاق ذهنيا وحيدا يعيش ذكرياته مع أخته التى يحتفظ بها في ذاكرته
أو ما
يحفظه ألبوم صوره التي كان قد التقطها.
*كاتب صحفي
مصري
mabdelreheem@hotmail.com
الديوان الفلسطينية في
28/04/2010 |