للوهلة الأولى سيبدو للمتفرج المدمن على أفلام
مارتن سكورسيزي أن من الصعب إيجاد رابط ما بين فيلمه الأخير والذي بدأ يعرض
على شاشات العالم «شاتر آيلند»، وأفلامه الأخرى التي شكلت عالمه السينمائي،
حتى على اختلافها وتنوعها طوال ما يزيد عن ثلث قرن حتى اليوم. غير أن
تبحراً في جوهر الفيلم. وتواجهاً مع اللغة السينمائية المدهشة التي تسم هذا
الفيلم الجديد، سيقولان لنا بسرعة اننا حقاً هنا في حضرة السينما
السكورسيزية. ذلك ان فيلماً غنياً الى هذا الحد، ومتقشفاً الى هذا الحد...
وفيه كل هذه الخبطات المسرحية والتجاور بين الأنواع السينمائية... وكل ذلك
الاختلاط في الهوية، مثل «شاتر آيلند» لن يصعب عزوه الى صاحب «المرحّلون» و «عصابات نيويورك». والحقيقة اننا ما ذكرنا هذين الفيلمين المتأخرين
نسبياً في فيلموغرافيا مارتن سكورسيزي، إلا كي نؤشر إلى أن التنوع في
المواضيع، والنهل الدائم من أعمال أدبية - وغير أدبية - تبدو دائماً عصية
على الاقتباس السينمائي، انما كانا من سمات سينما سكورسيزي، وعلى الأقل
خلال السنوات العشرين الأخيرة.
وصولاً الى الحرب العالمية
هنا مرة أخرى، قد لا نجدنا أمام «سينما المؤلف»
التي كان يمكن ربطها بأداء مارتن
سكورسيزي، بالنسبة الى أفلام المرحلة
الوسطى من مساره المهني، في معنى اننا لسنا
هنا أمام مخرج يطابق بين ذاته ومواضيعه - ولا سيما في أفلامه التي عقد فيها
البطولة
لروبرت دي نيرو الى درجة صار معها هذا نوعاً من «الآن - الآخر» بالنسبة
اليه (من «سائق
التاكسي» الى «نيويورك... نيويورك» و «كازينو» و «فتية طيبون»)... حتى وإن
تنوعت مصادر الحكايات... نحن هنا الآن في
عالم تعاطي سكورسيزي مع حكايات وتواريخ
ونصوص أدبية تبتعد كثيراً من ذاته. ومع هذا
يبقى ثمة جوهر أساسي، نجده وصولاً الى «شاتر
آيلند»: مسألة الهوية. بل ان هذه المسألة تكاد تكون، بعد كل شيء، الموضوع
الأساس في هذا الفيلم، حتى وإن لم يتكشف لنا هذا، إلا في الجزء الأخير من
الفيلم.
قبل ذلك كنا أمام عمل يبدو على شكل تحقيق بوليسي تشويقي، من نوع كثيراً ما
رأيناه
في سينما الأربعينات والخمسينات الأميركية السائرة حذو روايات رايموند
تشاندلر (كما
في «السبات العميق») أو داشيل هاميت (كما في «الصقر المالطي») مثلاً. غير
أننا
بالتدريج... بل حتى من دون أن نتنبه تماماً، نجد أنفسنا وسط بحث يكاد يكون
ميتافيزيقياً، تلعب فيه الذاكرة والأحلام دوراً متصاعداً. ولئن كانت
البداية قد
شكلت سرداً للتحقيق البوليسي الذي يقوم به شرطي وزميله استدعيا الى مستشفى
الأمراض
العصبية الكائن في جزيرة معزولة غير بعيد من بوسطن، كي يكشفا السر عن
اختفاء واحدة
من المرضى المحتجزين هناك... وهم جميعاً مجرمون معتقلون موضوعون في تلك
العزلة
لخطورتهم... فإن الفيلم سرعان ما يبدو وكأنه تحقيق حول ممارسات حكومية
تجريبية
تستخدم المرضى - المجرمين، كحيوانات اختبار. وهذا ما يجعل الشرطي تيدي
دانيلز (ليوناردو
دي كابريو)، يستعيد مشاهد من معسكر الاعتقال النازي داشاو الذي كان ساهم
في تحرير أسراه - أو من بقي منهم - خلال الحرب العالمية الثانية كجندي
أميركي. وفي
الوقت الذي تغوص ذاكرة دانيلز في الماضي، ما يجعل الفيلم يبدو أشبه بعمل
يريد القول
السياسي من خلال المقارنة بين ما فعله النازيون في داشاو، وما يبدو ان
السلطات
الأميركية تفعله في «شاتر آيلند»، يبدو ان الأحداث تتجه نحو خبطة مسرحية
جديدة:
فجأة لا يعود واضحاً ما إذا كان دانيلز مجرد محقق، أو هو شيء آخر... وفي
دقائق
تالية سيبدو أنه شيء آخر: سيبدو معنياً بالتحقيق في شكل ذاتي: انه يعتقد
كما يقول
للمحقق شاك (رفيقه الآتي معه الى الجزيرة)، أن من بين المرضى هنا، ثمة ذاك
المجرم
آندرو ليديز، الذي يبدو أنه وضع هنا - لكنه لا يبين - لأنه كان قد أحرق شقة
دانيلز
نفسه، ما تسبب في مقتل زوجة هذا الأخير. وانطلاقاً من هنا يصبح تحقيق
دانيلز
تحقيقاً خاصاً، ونفقه المعنى الحقيقي لوجود سجين اضافي يحمل الرقم 67،
والذي تتحدث
عنه أولاً في أحلام دانيلز زوجته الراحلة التي تزوره في تلك الأحلام، ثم في
لقاءات... تبدو حقيقية، المرأة التي كانت اختفت والتي يبدو لنا ان هذا
الاختفاء هو
مبرر وجود دانيلز هنا...
ازدواجية
في القسم الثالث من الفيلم، وإذ تكتمل هذه الصورة
لدينا تماماً، تبدأ في الظهور
تدريجاً قلبة مسرحية جديدة، تقول لنا، ان
كل ما اعتقدناه أول الأمر، لم يكن صحيحاً،
وان «تورط» دانيلز في الموضوع برمّته، أعمق بكثير مما كان يخيل الينا. هنا
قد لا
يكون مستحباً كشف غوامض الفيلم بتفاصيلها، حتى وإن كان ثمة دائماً من بين
المتفرجين
من يفقه ذلك منذ القسم الأول من الفيلم ثم تغيب عنه هذه الفرضية في دوامة
لقاءات
وتحقيقات همها ترسيخ الفكرة القائلة إن ثمة، في الأمر، مؤامرة سلطوية، وأن
الطبيب
مدير المستشفى (بن كنغسلي) والأطباء المعالجين، بل حتى عدداً من المرضى، هم
كلهم
جزء من هذه المؤامرة... في النهاية، إذاً، سنكتشف ما لا يقل عن أن الفيلم
قد وضعنا
داخل عقل وذاكرة تيدي دانيلز في لعبة خداع ماكرة، وأن الموضوع الأساس
والحقيقي هنا
انما هو دانيلز نفسه، وأن تشاك زميله في التحقيق انما هو في حقيقة الأمر
طبيب
معالج، وأن المرأة المفقودة التي يجري التحقيق من حولها، لا وجود لها، هي
بالأحرى
صورة من زوجة دانيلز، الذي حين تقلب أحرف اسمه، سيتبين انه هو مشعل النار
في
شقته...
لقد عاش دانيلز أمام أعيننا طوال الساعتين
الأوليين من فيلم يبلغ زمن عرضه ما
يقارب الساعتين ونصف الساعة، تحت هوية ليست
هويته: ذاكرته وأحلامه صنعتا له هوية
قُدِّم لنا بها... وفي هذا بحد ذاته ذلك الرابط التي يصل، مثلاً، بين هذه
الشخصية
التي يلعبها ليوناردو دي كابريو هنا، وشخصيتين أخريين لعبهما في فيلمين
سابقين
لسكورسيزي (في «عصابات نيويورك» كما في «المرحلون»)، ما يضعنا أمام احتمال
غامض بعض
الشيء، في أن تشكل هذه الأفلام الثلاثة، نوعاً من ثلاثية حول الهوية، هاجس
مارتن
سكورسيزي منذ سنوات عدة... بل انه لن يصعب علينا ان نجد ما يغرينا بأن نضيف
الى
القائمة فيلماً آخر لسكورسيزي لعب فيه ليوناردو دي كابريو دور البطولة
أيضاً: «الطيار»
عن حياة هوارد هيوز. اننا نعرف ان سكورسيزي حقق هذه الأفلام الأربعة،
انطلاقاً من نصوص لآخرين... كما انطلاقاً من حيوات مدونة، كان من الصعب،
تصور
التقارب بينها. ولكنها إذ تحولت الى أفلام... وأفلام سكورسيزية تحديداً،
راحت تبدو
المعالم الموحدة بينها، في الجوهر... وفي مقدمها انشغال المخرج بالتساؤل
حول ذلك
الشيء الغامض الذي هو الهوية. بيد أن هذا التساؤل، حتى وإن كان سيبدو
مهيمناً على «شاتر
آيلند» هيمنته على الأفلام الأخرى التي نتحدث عنها، فلن يحول الفيلم الى
بحث
فلسفي، أو سيكولوجي حتى... بل سيبقيه عند حدود السينما: السينما المفاجئة
والممتعة
والقاسية في آن معاً. السينما التي يعرف سكورسيزي سرّ لغتها المدهشة
وأسئلتها
المقلقة، كما دأبه دائماً.
الذات أيضاً وأيضاً
والحقيقة ان الذين وقفوا قبل سنتين أو ثلاث
مدهوشين، حين اختار مارتن سكورسيزي،
من بين ستة أو سبعة مشاريع كانت أمامه لخوض
فيلم جديد بعد «المرحلون» و «أضئ
النور»، رواية دنيس ليهان «شاتر آيلند»
هذه، مع انه كان أمامه أعمال أكثر طموحاً
وأهمية (منها فيلم تدور أحداثه في القرون الوسطى الفرنسية، وآخر عن سيرة
فرانك
سيناترا، يبدو أنه سيباشر في انجازه قريباً، على رغم مشاكل قضائية تعترضه)،
هؤلاء
المدهوشون، ستزول دهشتهم حين يشاهدون «شاتر آيلند» ليروا كيف أدرك سكورسيزي
بسرعة
الإمكانات الفنية التي تحفل بها رواية ليهان - راجع مكاناً آخر في هذه
الصفحة -،
ومن أبرزها، امكان أن تستجيب، الرواية، سينمائياً لتطلعه الى مواصلة طرح
أسئلته
الخاصة على سينما يخطئ من يعتقد بسرعة انها ليست بعد كل شيء سوى سينما
ذاتية، بل
مغرقة في الذاتية، من النمط الذي جعل حتى شخصيات مثل فتى «عصابات نيويورك»
أو
المنتج وهاوي الطيران المجنون في «الطيار» تبدو وكأنها تنويع على شخصية
سكورسيزي
نفسه، وكما بدت عبر أنواته الأخرى، منذ البداية.
دنيس ليهان من بوسطن الى هوليوود كاتباً
ومخرجاً وممثلاً
هل هناك عملية شد وجذب، خفية أو غير خفية بين «أكبر» مخرجين عاملين في
هوليوود
في زمننا هذا: مارتن سكورسيزي وكلينت ايستوود؟ اننا نعرف طبعاً
أن هذين الفنانين قد
تجابها، أوسكارياً، غير مرة قبل الآن. في
مرة أولى كان الفوز من نصيب ايستوود عن
فيلمه «طفلة المليون دولار» - فيما فشل
«عصابات نيويورك» في المنافسة على أهم
أوسكارات ذلك العام -.
وفي مرة ثانية كان الفوز من نصيب سكورسيزي، حين أعطي الجائزة
الأوسكارية السامية عن «المرحلون»، الذي كان يجابه «رايات آبائنا» في
المنافسة
نفسها... طبعاً عند هذا المستوى من الكلام، قد يبدو من الصعب الحديث عن شد
وتجاذب
بين كبيري هوليوود هذين. ولكن إذ ننتقل بالحديث الى الكاتب دنيس ليهان،
الذي كان
ايستوود قد حقق انطلاقاً من رواية بديعة له فيلمه «نهر المستيك» (2003)،
سنجدنا
أقرب الى الإجابة نعم عن السؤال الذي افتتحنا به هذا الكلام. فالحقيقة ان
ايستوود،
منذ أنجز هذا الفيلم الذي نتحدث عنه، وحقق الفيلم نجاحات كبيرة، حتى في
اعطاء واحد
من أبطاله (شون بن) أوسكار أفضل ممثل، أبدى رغبته في العودة الى أدب ليهان،
وبالتحديد الى روايته «شاتر آيلند» التي كانت قد ظهرت عام عرض «نهر المستيك»
نفسه.
لكن المشروع تعثر يومها. وإذ انهمك ايستوود في تحقيق مشاريعه التالية،
«اكتشف»
سكورسيزي وجود الرواية التي كانت شركة «بارامونت» قد اشترت حقوقها. وهكذا
بالتدريج
لم يعد المشروع مشروعاً لإيستوود بل أصبح مشروعاً لسكورسيزي.
طبعاً، لنا ان نتخيل هنا كيف كان من شأن «شاتر آيلند» ان يكون لو حققه
ايستوود... بل لنا ان نتخيل حلماً سينمائياً غريباً: أن يحقق
صاحب «غران تورينو»
و «نهر
المستيك» فيلماً آخر عن «شاتر آيلند» ليتاح لملايين المتفرجين أن يقارنوا
بين عملين فذّين - بالتأكيد - ومقاربتين مدهشتين - بالتأكيد أيضاً - للنص
نفسه.
وفي انتظار تجلّي مثل هذا الحلم وانكشاف انه حلم لا أكثر وأنه غير
قابل للتحقق
عملياً، نتوقف قليلاً عند هذا الكاتب الذي نكاد نقول انه برز
فجأة، ان لم يكن في
فضاء الأدب الروائي الأميركي الجديد، فعلى
الأقل في فضاء السينما الهوليوودية. فهذا
الكاتب المولود في بوسطن، في أقصى الشمال الشرقي الأميركي عام 1965، لم
ينتظر تحقيق
كلينت ايستوود فيلماً عن رواية له، حتى يدنو من عالم السينما، الذي اقتبس
عنه، حتى
الآن أفلام كبيرة، إذ الى جانب «نهر المستيك» وفيلم سكورسيزي الأخير، هناك
أيضاً
فيلم «ذهب، يا حبيتي، ذهب»... (2007). لكن هذا ليس كل شيء، إذ نعرف ان
ليهان كتب
وأخرج أواسط سنوات التسعين فيلم «جيرة»، الذي رأى كثر تشابهاً محيراً بينه
وبين
سيناريو فيلم «ويل هانتنغ الطيب» الذي كتبه مات دايمون وبن آفليك وأخرجه
غاس فان
سانت... والذي ظهر بعد عام من فيلم ليهان. اضافة الى هذا كتب هذا الأخير
ثلاث حلقات
من مسلسل «ذا واير» التلفزيوني الذي أنتجته شركة هـ. بي. أو... وهذه
الحلقات هي «جنود
ميتون» (2004) و «لاجئون» (2006) وأخيراً «توضيحات» (2008)...
وكذلك نجده في
دور ثانوي كممثل في حلقة عنوانها «أرض وسيطة»...
بقي أن نذكر ان الفيلمين السابقين المأخوذين عن دنيس ليهان «نهر
المستيك»
و «ذهب...
يا حبيبي، ذهب» قد حققا فوزاً وتسميات في جوائز الأكاديمية (الأوسكار)،
فهل لنا أن نفترض ان «مصيراً» كهذا قد يكون من نصيب «شاتر آيلند» في جوائز
الأوسكار
المقبلة؟ طبعاً حين يكون اسم المخرج مارتن سكورسيزي، لن يبدو هذا الاحتمال
بعيداً... اللهم إلا إذا برزت منافسة من كلينت ايستوود وكان الدور دوره هذه
المرة!
الحياة اللندنية في
16/04/2010 |