منذ بضعة أفلام يبلور كوستا غافراس
أنماطاً سينمائية هجينة وغير صارمة تتجه الى قطع العلاقة مع التجارب التي
صنعت
أهميته ومكانته ضمن الفيلم السياسي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ولكن
من دون
التنكر لهذا الماضي. ملل؟ نهاية مرحلة؟ انهيار القضية؟ أو صعوبة في ايجاد
ما يُلهم؟
قد يكون هذا كله معاً. مثال على هذا الانهيار الفظيع، فيلمه الجديد "عدن في
الغرب"،
الذي يصوّر مهاجراً غير شرعي اسمه الياس، آتياً من مجهول، يصلح لأن يكون من
سلالة
شارلو، لو لم يكن على قدر من السذاجة وتدبير الذات، على طريقة شخصيات مسرح
الدمى.
هذا الأسمر الوافد الى قارة الرجل الأبيض، تطارده السلطات الفرنسية
العنصرية بدءاً
من شواطئ العراة وصولاً الى باريس، تلك العاصمة التي يحلم بالمجيء اليها.
يتعمد
غافراس التغافل عن الأسئلة السياسية المتعلقة بواقع الهجرة في فرنسا خصوصاً
وأوروبا
عموماً، ويأتينا بفيلم مغامراتي يزخر بالكليشيهات ويعبق بروح الميثولوجيا
المغرية،
لكن هذا كله يذهب به الى نظرة جد تعميمية وأحادية الجانب، على موضوع يجري
تناوله
بالكثير من الخبث والنفاق في المجتمع الأوروبي (مراجعة قضية اريك زيمور).
بالنسبة
الى مخرج "حالة حصار" و"الاعتراف"، فمحنة الهجرة متعلقة بالكبت الجنسي
والسماء
الملبدة بالغيوم. الأنكى أننا نعلم كم هي نبيلة نيات هذا الرجل المحب. فويل
لسينما
تقول عكس ما يريد مخرجها.
·
لماذا هذه المقاربة الكوميدية
لموضوع خالص
الجدية؟
-
لا أجد أن الفيلم يقوم على الكوميديا فحسب. له ايضاً جانب جدّي. كنت
أنوي أن اعالج موضوعاً باتت معالجته رائجة اليوم على نحو خفيف. هناك ميل
سائد اليوم
في السينما، يقوم على اظهار المهاجرين باعتبارهم اناساً يجلبون معهم
المآسي، وهم
تالياً مصدر خطر للمجتمعات التي ينخرطون فيها. لا أعتقد انهم كذلك. بل أرى
فيهم
فئات حقيقية في المجتمع تمتلك احتمالات تأقلم كثيرة، وبعضهم يتحلى بالجمال،
ويجب
تقبلهم على هذا الأساس.
·
عندما تقول "جمال"، هل تقصد
المظهر الخارجي؟ لم أفهم
قصدك!
-
أتكلم عن الجمالين الداخلي والخارجي. إلياس مثلاً، ليس شخصاً سلبياً.
ليس لصاً. أو لنقل انه من الممكن أن يسرق لكن فقط عند الحاجة الملحة.
يتعامل إلياس
مع الآخرين على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن".
·
لكن هذا تحصيل حاصل، فلِمَ
الاصرار على القول إن جماعة معينة تضمّ أناساً طيبين، هذا لا يحتاج الى
تأكيد!
-
ليس تحصيلاً حاصلاً. انظر قليلاً الى ما يحصل اليوم في فرنسا مثلاً: هناك
شك مزمن
في أهلية هؤلاء. استمع الى ما يقال عنهم. حيناً يقال انهم لصوص، وحيناً
انهم
مسلمون. بعض اليمين المتطرف يقول ان كثرة السود ستحول المجتمع الفرنسي
مجتمعاً ذا
غالبية من السود. حتى انه قيل ذات مرة إن هناك الكثير من السود في فريق كرة
القدم
الفرنسي. أعتقد ان العنصرية تبدأ من هذا المكان. كلنا بشر: هذه هي فكرة
الفيلم.
·
بلدان أوروبية عدة في حالة
الدفاع عن النفس أمام هذا النوع من الهجرة
العشوائية، هذا كل ما في الأمر. أليس الخوف من الآخر مشروعاً في بعض
الحالات، في
رأيك؟
-
ليس من الطبيعي أن يكون الآخر مصدر خوف عشوائي بالنسبة الينا. ثلاثون في
المئة من الفرنسيين أصولهم أجنبية. وهؤلاء شاركوا في بناء فرنسا. اذا كانت
هناك بعض
المشكلات فيمكن معالجتها، لكن الاشارة بالإصبع الى الأجنبي، والشعور بالخوف
منه،
يعيداننا الى القرون الوسطى.
·
لماذا هذا العنوان "عدن في
الغرب" الذي يحاكي
عنوان فيلم "غرب عدن" لايليا كازان؟
-
عدن هي الفردوس، والمعروف أن الكثير من
العواصم الأوروبية مثل باريس أو برلين أو لندن يُنظَر اليها من جهة شعوب
البلدان
الفقيرة باعتبارها الجنّة على الأرض. يشاهدون من خلال الأفلام وشاشات
التلفزيون كم
الحياة سهلة وممكنة ويقولون لأنفسهم "هذا هو المكان الذي يجب أن أذهب
اليه". في
الواقع، بلداننا هذه لا تشكو من شيء، طبعاً مع التحفظ الشديد عن بعض
السياسات وسوء
استخدام السلطة.
·
ما الجانب الشخصي في الفيلم،
كونك أنت أيضاً جئت الى فرنسا
بصفتك مهاجراً قبل أن تتجنس عام 1966؟
-
قصتي مختلفة قليلاً. ما إن تموضعت في
فرنسا حتى أردت ان أحمل جنسية هذا البلد وأن أكون مواطناً فرنسياً بصفة
كاملة.
والحق أن فرنسا قبلتني ويمكن القول حتى انها رفعت من شأني كثيراً، فصرت
فرنسياً من
دون أن أفقد حساسيتي اليونانية. الفيلم شخصي لكن لا يمكن اعتباره سيرة.
الفرق بيني
وبين الياس، هو انه جاء بصفة غير شرعية، أما أنا فكان وضعي قانونياً كوني
كنت جئت
الى باريس للدراسة. لكن صحيح أنني عشت بعض المواقف التي عاشها الياس، مثلاً
الخوف
من الغريب في نظرة... نظرة الآخر حين يسمع لهجتك فيقول في قرارة نفسه "ماذا
جاء
يفعل هذا الغريب هنا؟". عشت ايضاً المتاعب مع الشرطة، لكن لا استطيع ان
أنكر انني
التقيت اناساً طيبين شرّعوا أمامي أبوابا مغلقة.
·
خلافاً لإلياس الذي يحمل
ملامح اتنية، فأنت تشبه أي أوروبي...
-
هذا صحيح، لكن اليوم في فرنسا هناك
الكثير من الفرنسيين الذين يشبهونه. بعض الفرنسيين سمر وآخرون سود.
المستغرب أن بعض
هؤلاء، وهم فرنسيون ولدوا في فرنسا، غير مقبولين في المجتمع، فقط لأن
بشرتهم داكنة.
·
فيلم آخر عن الهجرة غير الشرعية
اسمه "أهلاً" [فيليب ليوريه] صادف نزوله الى
الصالات بالتزامن مع فيلمك. ما رأيك فيه؟
-
انه لفيلم بديع. لكن مخرجه ينظر الى
الأشياء من الضفة المقابلة لضفتي، فيصوّر مهاجراً يريد الرحيل ويتعاطى مع
الجانب
المظلم للهجرة. اما أنا فجعلت من المهاجر شخصاً ايجابياً يريد المجيء الى
فرنسا
لحياة أفضل.
·
لكن، لماذا أردت أن تجعل من
المهاجر شخصاً ساذجاً بعض
الشيء؟
-
ليس ساذجاً، إنما لا يعرف شيئاً. يجهل اللغة ويجهل العادات، وهو في طور
الاكتشاف الدائم للأشياء. في كل مرة، عليه ان يتأقلم مع استحقاق جديد. لكن
حالما
يتفهم الوضع، يتأقلم. أعتقد أن اشخاصاً من هذا النوع يعبرون البحار
ويستطيعون
التكيف مع واقع جديد، هم ذوو عزيمة، وعلى البلدان التي تستقبلهم أن ترحب
بهم لأنها
في حاجة الى مثل هؤلاء الناس الذين يضحّون بما يضحّون به للوصول حيث يريدون
الوصول.
·
ما المغزى من جعله يُستغَلّ
جنسياً لمرتين متتاليتين؟
-
ما من أحد أكثر
رقة وهشاشة من المهاجر. يُمكن استغلالهم في العمل وفي السرير وفي الشارع.
لا يملكون
الجواب عن أيٍّ من تساؤلاتهم ولا وجود قانونياً لهم اصلاً يمنحهم حق الشكوى.
المعتدي يعرف ذلك جيداً. يمكن أن تفعل بهم ما شئت. انه، لسوء الحظ،
"الفردوس
الغربي"، على رغم أننا يجب أن نشدد على ان هناك أناساً صالحين.
·
هذه هي
تحديداً المعضلة التي نواجهها عند تناولنا مواضيع مماثلة، اذ سرعان ما نقع
في
التبسيط الممل والتعميم المجحف، فيما السينما هي أولاً فن التعاطي مع
الحالات
الفردية! كيف يتجنب مخرج مثلك الوقوع في فخاخ الكليشيهات؟
-
منذ سحيق الزمان لا
تنجز السينما الا الكليشيهات. لا بأس بذلك. الأهم كيف نصنع هذه الكليشيهات.
الحياة
مليئة بها. أحياناً الكليشيه اصدق من أي شيء آخر، لأنه يقول الكثير عن حياة
نساء
ورجال. طبعاً، لم يكن هدفي من هذا الفيلم أن اصنع سلسلة كليشيهات. بالنسبة
اليَّ،
كان ضرورياً الا نعلم من أين يأتي الياس. لم أكن اريد منح هوية أو دين،
ولذلك السبب
أطلقت عليه اسم الياس وهو اسم متداول عند المسيحيين والمسلمين. أما اللغة
التي
يتكلمها فهي مخترعة. كنت اريد تقريبه الى انسانيته.
·
تولي الأهمية الى
البورليسك أيضاً والمغامرات الهزلية.
-
جاك تاتي كان يقول: لا داعي لفبركة
الكوميديا، فهي موجودة في كل مكان، ويكفي أن ننظر الى النساء والرجال من
حولنا. لا
تولد الكوميديا في الفيلم من أجل الكوميديا، بل ما يتعرض له الياس هو الذي
يوصل
الفيلم الى حافة الكوميديا التي هي بالاحرى تراجيكوميديا ساخرة. هناك
الكثير من
المواقف الهزلية في حياتنا اليومية.
·
أسمح لي أن أقول إنك لم تكن على
هذا
القدر من الخفة في ذروة نشاطك السينمائي قبل ثلاثة عقود؛ لم تكن تنظر الى
السينما
والحياة من هذا المنظور...
-
يجب أن تعلم شيئاً هو أن جيلين من السينمائيين
تعاقبا منذ دخولي السينما، وهذين الجيلان أقل طاعة واحتراماً ازاء الثوابت
مما كنا
نحن، وهذا شيء حسن.
·
هل الاجيال المتعاقبة بدّلت فيك
أشياء؟
-
بالتأكيد.
ينبغي مراقبتهم ومحاولة فهمهم، وهذا ليس بالأمر السهل.
·
ما ملاحظاتك على سياسة
الهجرة الفرنسية التي تدينها طولاً وعرضاً؟
-
اراها غير عادلة ولاإنسانية. لا
تحترم المهاجر. لا أقول انه يجب فتح الأبواب لكل المهاجرين وهم بالآلاف.
الاحترام
مفقود. حتى ازاء الفرنسيين من أصول أجنبية. اسلوب التعاطي معهم جد سيئ.
طبعاً هذه
الظاهرة ليست حكراً على فرنسا، فهي سائدة مثلاً في ايطاليا تحت سلطة
برلوسكوني.
الاوروبيون يريدون المهاجرين عبيداً لهم لكنهم يرفضون رؤيتهم أفراداً.
·
ألا زلت
تشاهد الأفلام؟
-
بالطبع. أمس شاهدت "تيترو" لكوبولا و"القيصر" لبافيل لونغين.
السينما اليوم في أزمة. من الجيد أن تكون السينما في أزمة لئلا نبقى في
مكاننا
ونصبح بورجوازيين، محاولين تكرار الأفلام نفسها كما الحال في هوليوود.
·
هناك
على الأقل نوعان من السينمائيين، أولئك الذين يستلهمون من الحياة والذين
يستلهمون
من السينما. من أيّ صنف أنت؟
-
أنا من النوع الذي ينتمي اليه كوستا غافراس. لي
وجهة نظري الخاصة. ليستلهم الآخرون مما يشاؤون. انا افعل ما يملي عليّ
احساسي. قد
انجح وقد لا انجح، لكني أخوض تجربة الاستماع الى صوت القلب.
·
بعد 40 عاماً من
السينما، هل لا يزال ما يحمسك على حمل الكاميرا والتصوير؟
-
الحكايات التي من
حولي هي التي تحثّني على ذلك. لن أتوقف عن التصوير طالما أستطيع التعبير من
خلال
حفنة مشاهد متتالية. الأمر أشبه بمجالسة اصدقاء وإخبار القصص. انها لمتعة
هائلة!
·
هل يؤلمك الفشل الجماهيري وهل
يفرحك النجاح؟
-
الاستقبال الحسن الذي
يوفره المُشاهد لفيلم ما، أمر مهم، لكن لا نزال نجهل سرّ ذلك النجاح. لا
توجد وصفة.
جان كوكتو كان يردد: هناك قواعد لجلب المُشاهد لكن لا نعرفها. وأنا أقول:
لحسن
الحظ!
·
هل ثمة مواضيع يصعب عليك ايجاد
المال لأفلمتها؟
-
طبعاً. من السهل
ايجاد أموال اذا اردت انجاز كوميديا أو فيلم بوليسي، لكن المواضيع الجدية
التي
تتضمن قدراً من المخاطرة، مصيرها التعثر على أبواب شركات الانتاج.
·
هل من
تابوهات؟
- (بعد
تفكير). توجد تابوهات. ثمة موضوع لا يمكن المساس به هو الصراع
العربي - الاسرائيلي. انجزت فيلماً اسمه "هانا كا" قبل بضع سنوات لكنه لم
يجد
النجاح المطلوب (ضحك). لم أحاول العودة الى الصراع العربي - الاسرائيلي
لأنني لم
أكن أجد الحبكة الملائمة لطرحه. تطور الحوادث في تلك المنطقة كان اسرع من
القدرة
على الامساك بها. لا أزال في انتظار شيء عن هذا الصراع يخرج عما ألفناه...
·
خلافاً لسينمائيين آخرين، لا
تلعب ثقافتك المزدوجة دوراً مهماً في سينماك.
-
لم
يكن في امكاني انجاز أفلام كالتي أنجزها كلود شابرول ولوي مال لأن في بالي
هموماً
أخرى تؤرقني ايضاً. عشت تجارب أخرى، علماً ان الثقافة الفرنسية كانت
الأرضية التي
أسست عليها ثقافاتي الأخرى. لقاء الثقافتين هو الذي اتاح لي انجاز أفلامي.
لو عشت
وعملت في بلد آخر، لنقلْ في اليونان أو في أميركا، لما كنت أنجزت هذه
الأفلام.
ألم تتمنى أمام الصعوبات الانتاجية أن تكون "رساماً لا يحتاج الى أكثر من
ريشة"، كما تقول؟
-
طبعاً تمنيت ذلك (ضحك). لكن خياري استقر على السينما. ما كان
من الممكن لي أن اكون رساماً. المال في السينما عائق لكنه ليس العائق
الأكبر.
العائق في كل حال، يحفزك على القفز فوقه. والى الآن قفزت فوق اسوار
التحديات.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
استعادة
الفيللينية والحيوات المغشوشة
تستمر استعادة فيللني في «متروبوليس» (أمبير ــ صوفيل)
في الأيام الاربعة الاخيرة. هنا مقال أخير عن المعلم بقلم محمد رضا.
أفلام
فـيديريكو فيلليني ذاتية شأنه في ذلك شأن عشرات المخرجين، مع الفرق انه كان
ينفي
وجوده في أقرب تلك الأفلام الذاتية الى شخصيّته. مثلاً: «أماركورد»
(«أتذكر») يحمل
ملامح السيرة الخاصّة عبر سيل المشاهد المعبّرة عن ذاكرة ماضية. لكن
فيلليني كان
يقول انه ليس من بين أي من الشخصيات التي في هذا الفيلم. رغم ذلك، احدى هذه
الشخصيات الشابّة قد تكون هو: لقد اختاره فيلليني مشابهاً له في ملامحه
وطلب منه أن
يضع شالاً حول عنقه كما كان يفعل هو في معظم الأحيان.
طبعاً نستطيع، كمشاهدين،
اعتبار «أماركورد» فيلم سيرة الى حد ما. عنوانه يشير الى أن من يتذكّر هو
فيلليني
نفسه ومضمونه هو كل تلك الملامح التي حدثت في بلدته حيث وُلد. لكنه ليس
مرتّباً
بصيغة السيرة الذاتية. لذلك، « ثمانية ونصف» لا يزال أقرب الى السيرة
الشخصية من
سواه. بعد توقّف سنين إثر فيلمه «الحياة المترفة» بحث فيلليني عن تغيير في
السينما
التي يقدّمها ورأى أن ينتهج أعمالاً مختلفة عن منهجه السابق. لكن بما أن كل
أفلامه
بلا استثناء هي تعبير عن رؤيته الذاتية، فإن التغيير الحقيقي هو الانتقال
من سرد
الفيلم كقصّة الى سرده كبناء شمولي. أي من شكل «الشيخ الأبيض» و»لا سترادا»
الى شكل «روما
فيلليني» و»ساتيريكون» و»أماركورد»، الخ.
في «ثمانية ونصف» نرى مارتشيللو
ماستروياني يؤدي دور مخرج يحضّر لفيلم جديد. الفرصة متاحة هنا أمام فيلليني
ليدخل
عقل الشخصية التي تعبّر عنه عارضاً بعض صفحاتها، وهي الصفحات التي في باله
هو: كيف
يفكر؟ بم يفكّر؟ ما الذي يستوحيه ومن أين؟
لعلّه من غير المستحب بالنسبة الى
مخرجين ذاتيين سرد قصص حياتهم من دون قدر من المرح وآخر من السخرية. حين
ولج بوب
فوسي شؤون حياته في فيلمه «كل ذلك الجاز» (1979) أوجد حيّزاً للسخرية ولو
قليلاً.
بالنسبة لفيلليني فإن تقديم نفسه محاطاً بالنساء هو نصف واقع ونصف خيال
ينسجان
سخرية المخرج من عالم يعيش فيه هذا من دون أن يميد بالحوار الجاد بينه
كمخرج الفيلم
وبينه كمخرج داخل الفيلم.
لكن بناء فيلليني لعالمه هو الذي يستولي على أي من
أعماله التي اعتدنا عليها، مع العلم أن هناك من يؤثر أفلامه السابقة
لـ»ثمانية
ونصف» على تلك اللاحقة. لكنني أعتقد أن أفلامه اللاحقة هي أكثر فيللينية من
تلك
السابقة بسبب ذلك البناء الإستعراضي الكبير الذي تحتويه. ومسألة البناء هي
مسألة
أسلوبية والأسلوب ينتج عن الكيفية التي يرى المخرج أنه يريدها لكي يسرد ما
يريد
سرده. بالنسبة لفيلليني هذه الكيفية انتقلت من نظرة السرد القصصي التي يمكن
تشبيهها
بنظرة رجل يقف عند طرف الطريق ينظر اليه عميقاً، الى نظرة شاملة يجوب فيها
المخرج
في جوانب الحياة التي يصيغها بطريقته مؤلّفاً إياها من ذكرياته او من رؤيته
وغالباً
من الإثنين معاً.
في هذا النطاق، وبدءاً من «ساتيريكون» سنة 1968 شاهدنا له
جانراً جديداً من الأفلام هي تلك المبنية على فصول كبيرة كاملة ظهرت
بوادرها - مرة
أخرى- في «الحياة المترفة». كل فصل فيها يحمل مجموعة من الملامح الخاصّة
أهمّها هي
كيف يسرد المخرج وضعاً جامعاً وبتوازن بين «الحقيقة» و»الخيال». والحقيقة
ليس
بالمعنى «الحقيقي» للكلمة. أي أن فيلليني لا يقصد أن يوحي بأنه يملكها، بل
يعرضها
كما يراها. «ساتيريكون» فيلم مثالي في هذا الخصوص لأنه يمتلك نظرة الى
التاريخ «عن
بُعد»، او حسبما قال في أحد حواراته بعد سنوات من اتمامه لهذا الفيلم:
«المهم هو
التاريخ من وجهة نظر مَن؟». بالتالي، يستبعد المخرج أن يكون التاريخ واحداً
بالنسبة
لكل الناظرين اليه حتى في أي جزئية منه.
التاريخ يزور فيلليني او العكس في معظم
أفلامه خصوصاً في «فيلليني روما» و»أماركورد» و»كازانوڤا» و»السفينة تبحر»
و»تمرين
اوركسترالي» متضمناً قدراً من السخرية والحزن ونقدا للسائد موحياً بأن
التاريخ لم
يكن كما قرأناه.
النهار اللبنانية في
15/04/2010 |