لا أعرف لماذا يصر "البعض"، أي بعض من يكتبون عن الأفلام ويمارسون
"الانتقاد"
السياسي، ويفتشون دائما عن قيمة سياسية كبرى في هذا الفيلم أو ذاك، فرض
رأيهم
المسبق العقائدي الجاهز على مخرج موهوب مثل خالد يوسف، يريدونه أن يصبح
بطلهم
المنشود في السينما؟
إن آفة فيلم خالد يوسف السابق "دكان شحاتة" كانت تكمن
تحديدا في هذا "الهاجس" الملح بتسييس ما لا يمكن تسييه بالضرورة، أي
الانتقال من
دراما تشيكوفية بكل ما يمكن أن تعكسه من دلالات كبيرة (نفسية واجتماعية،
وسياسية
أيضا بلاشك) إلى جعل فيلمه حقيبة ضخمة منتفخة بكل ما يمكن وما
لا يمكن تصوره من
مواضيع و"مانشيتات" سياسية، عن الانفتاح الاقتصادي وما جلبه من فقر
وتناقضات طبقية
واسعة، ومشكلة القهر الذي تمارسه السلطة، وأزمة المياه والرغيف والتلوث
والعشوائية
وانتشار العنف.. وغير ذلك، عشرات الأشياء التي أضرت بالدراما الأصلية التي
كان يمكن
أن تكون كافية بدلالاتها الداخلية الخاصة، دون حاجة إلى الإحالة إلى كل هذه
الأشياء.
ولاشك أن خالد يوسف تعلم أن يتجنب هذا الحشو والخلط والادعاء في فيلمه
الأحدث "كلمني شكرا" الذي يعتمد على سيناريو كتبه باقتدار وتركيز، سيد
فؤاد، مستمدا
عناصره من الواقع دون أن يكون بالضرورة فيلما "واقعيا"، ففيه بالتأكيد من
المبالغات
كل ما يلزم لتوليف كوميديا (لا أراها أبدا هزلية) بل فيها الكثير من
الجوانب
الإنسانية التي تتعلق بشخصية الإنسان البسيط الذي يسعى بكل الطرق، وحتى
أكثرها
تدنيا، ربما من وجهة نظرنا، للتواجد والاستمرار في الحياة،
والقدرة على تحقيق الذات
وسط واقع شديد القسوة والتوحش.
ويمكنني أن أؤكد دون أن أخشى بالاتهام بالوقوع
في غرام المشاهدة في حد ذاتها (أي الفُرجة المجردة) أنني استمتعت كثيرا
بالفيلم،
وضحكت كثيرا وأنا أشاهد تلك الشخصيات المكتوبة جيدا التي تتحرك
في بيئة مرسومة
ومجسدة بشكل أكثر من ممتاز، ليس فقط من خلال الديكورات التي تنبض بالحياة
بكل
تفاصيلها، بل وأيضا بسلوكياتها وأنماطها وتناقضاتها واستخداماتها الخاصة
للغة
الشائعة، وصراعاتها الصغيرة التي يمكن أن تكبر، وارتداداتها
إلى الخير رغم امكانية
انحرافها في اتجاه الشر، وقبل هذا كله، وجودها المحسوس في قلب عصر
الاتصالات
الحديثة: الهاتف المحمول (الموبيل)- الذي يستمد منه عنوان الفيلم نفسه،
والأطباق
اللاقطة، والتليفزيون الفضائي، وشبكة الانترنت.
هذه العناصر كلها موجودة في
الفيلم، ليس كديكورات خلفية أو كأدوات تعبر سريعا في فضاء
الفيلم، بل في أساس وقلب
الكوميديا، التي فيها الكثير بلاشك، كما ذكرت، من المبالغات بل وبالمواقف
الميلودرامية التي تتصف أيضا بالمبالغات كما هو معروف، وهذا ليس عيبا كما
قد يتصور
البعض، بل مقبول تماما في فيلم يلمس الواقع بطريقته الخاصة
التي تميل إلى السخرية
منه، دون "تحليله" تحليلا سياسيا، وتوجيه الإدانات المباشرة كما يطالب
البعض.
بطل الفيلم "ابراهيم توشكى" (الذي يقوم بدوره عمرو عبد الجليل) يعتبر
في
حد ذاته نموذجا يجمع كل صفات الإنسان الحائر، الذي يحاول باستماتة
الاستفادة من
التغيرات العشوائية التي طغت على مجتمع الحارة الشعبية التي يعيش فيها مع
أمه التي
كافحت من أجل تربيته (تقوم بالدور شويكار)، يريد أن يتزوج من
"عبلة"، لكنه مرتبط
بشكل ما، بـ"أشجان". والنموذجان مختلفان تمام الاختلاف، ما بين الفتاة التي
تصلح
زوجة تقليدية، والمرأة المقتحمة المغوية اللعوب التي فرضت عليها ظروفها
الشخصية
أيضا استغلال امكانياتها الممكنة من أجل البقاء.
و"توشكى" نموذج كوميدي فذ للبطل
المضاد المهزوم باستمرار الذي يفشل في التمثيل فيتحول إلى مجرد
"كومبارس"، ويفشل في
التجارة، فيلجأ إلى الاحتيال على شركات الهاتف المحمول لكي يبيع خدمة تناسب
زبائنه
العاجزين عن الاستخدام الحقيقي لهذه السلعة الحديثة لأنهم بساطة، لا
يمتلكون ثمن
المكالمات، فيكتفون عادة بإرسال رسائل قصيرة للطرف الآخر تقول
له "كلمني..
شكرا".
واسم ابراهيم توشكى يحيلنا مباشرة إلى المشروع العملاق المعروف الذي
انتهى إلى الفشل، في تعليق ساخر على فكرة الطموح الذي هو في الحقيقة، أكبر
كثيرا من
الواقع.
هناك بالطبع شخصيات أخرى تدور في فلك الفكرة الأصلية للفيلم، أي
التحايل من
أجل الاستمرار في الحياة في مجتمع مأزوم، أصبح الكثيرون فيه مهمشين،
وعلاقتهم
بوسائل الاتصال الحديثة: شقيقة أشجان مثلا تتحايل من أجل استخدام شبكة
المعلومات
الدولية (الانترنت) للحصول على ثمن مكالمات اضافية تقوم ببيعها
لصاحب دكان تأجير
الهواتف المحمولة، فهي أيضا تبيع نوعا من "الوهم" المثير أو الخيال،
بطريقتها
الخاصة، لكنها تنجرف وراء عالمها الالكتروني الذي يصبح بديلا عن العالم
الحقيقي،
فتجري وراء سراب الهجرة إلى الخارج والزواج من رجل ثري، وسرعان
ما تعود مهزومة
مرتين بعد أن اتضاح ان الأمر كله لم يكن سوى نوعا من الاحتيال!
وهناك صاحب
المخبز الذي يطلق لحيته ويدعي التقوى لكي يستغل الناس، ويبيع الدقيق
المدعوم في السوق السوداء، ثم لكنه جزء من الشلة القديمة التي تجمعه مع
ابراهيم منذ أيام
الطفولة، ويتمتع بالتالي بالقدرة على مواجهة الذات، وعندما تواجهه كارثة
شخصية
بوفاة ابنه، يثوب إلى رشده ويقرر العودة عن أفعاله السيئة،
تأكيدا لفكرة الشر
الطاريء الذي يفرضه الواقع الصعب، على أناس طيبين في قرارة قلوبهم.
وهناك ضابط
الشرطة الذي يتصور أنه يطبق القانون بينما هو في الحقيقة يقمع محاولات
البسطاء في
الحصول على القليل من التسلية حتى من خلال اختراقهم لمباريات البطولة
الدولية لكرة
القدم التي بيعت حقوقها لمحطة فضائية.
هناك إذن نوع من "الكوكتيل" الذي يلمس
الكثير مما يدور في واقع هذه الفئة من الهامشيين في المناطق العشوائية
المصرية،
ولكن دون اقحام للسياسي على حساب الإنساني، ودون أن يصبح
الفيلم محاضرة مملة عن
سلبيات الانفتاح الاقتصادي العشوائي وسياسات الدولة.
هناك براعة في الأداء من
جانب كل الممثلين الذين شاركوا في الفيلم، وتمكن خالد يوسف
كعادته، من السيطرة
عليهم وتوظيفهم، وهو ما يجب أن يحسب له بينما ينكره عليه دائما المناهضون
لأفلامه،
فقط لأنها لا تحقق لهم من يطلبونه مسبقا من تغلييب الأيديولوجي على الفني.
ويجب ألا
ننسى أن في هذا الفيلم وجوها جديدة سيكون لها شأن في السينما
المصرية
مثل حورية
وصبري فواز.
وهناك براعة في نسج الأحداث، والانتقال فيما بينها، والقدرة على
تحقيق إيقاع سريع متدفق ملائم تماما لفيلم كوميدي، واستخدام جيد لشريط
الصوت
بأغانيه الشائعة، وموسيقاه، وفي قلب ذلك، الاعتماد الأساسي
البارز على بطل- لابطل
(يقوم
بدوره ببراعة الممثل الذي ولد مجددا أخيرا عمرو عبد الجليل) يربط بين
الشخصيات والأحداث، ويتداخل في كل مشهد، ويبدو عفويا في استخدامه للغة
واشتباكه
التلقائي مع غيره من الشخصيات، وقدرته على إشاعة جو من البهجة
حتى في أحلك
اللحظات.
ويستخدم خالد يوسف ببراعة كل تفاصل الديكورات الجيدة الخارجية للحي
الشعبي، مثل المواسير الضخمة التي يجتمع عندها أفراد الشلة، والبيوت
المتجاورة
والدكاكين والأسطح، كما يجيبد تحريك واستخدام الأطفال
والمجاميع الكبيرة من
الممثلين الثانويين.
ربما يكون هناك بض المغالاة في استخدام تعبيرات ذات مغزى خاص في سياق
احوار، أو
بعض الإفراط في استخدام التعليقات اللفظية. لكن من المؤكد أن هذه التعليقات
تبدو
ملائمة تماما لهذه الشخصيات القريبة- الغريبة التي تتحرك أمامنا والتي لا
نملك سوى
التعاطف معها جميعها، وحبها وفهم ظروفها، والاشتراك معها في محاولاتها
الحصول على
بعض لحظات السعادة الضائعة.
"كلمني شكرا" فيلم بسيط لا يتحذلق ولا يدعي كثيرا،
يصور ويعرض، يسخر ويعلق على ما يجري في الواقع اليوم، ولكنه أيضا يُمتع
ويُضحك
ويُصبح تجربة مثيرة في المشاهدة تحقق التفاعل بين المتفرج
والشاشة، وهذا هو أساس
السينما. وليس مطلوبا منه أكثر من ذلك.
الجزيرة الوثائقية في
14/04/2010 |