درس الأدب الفرنسي والتاريخ والسينما، كون رؤى ناضجة رسم ملامحها بنعومة
على أوراق السيناريو، ثم نسجها في لقطات موحية كانت عنوانا للسينما
الجزائرية لسنوات طويلة.. إنه أحمد راشدي، مَن بزغ اسمه كعامل مشترك في
حكاوي الزمن الجميل.. فهو صديق للكبار: يوسف شاهين، وعبد الحليم حافظ،
ومصطفى أمين، ومهموم بالفن السابع وتفاعله مع قضايا وطنه، رئيسا لأول مركز
سمعيات وبصريات في الجزائر، شارك في إخراج الفيلم الجماعي «مسيرة شعب»
لتخليد حركة حرب التحرير الجزائرية، ومن أفلامه الشهيرة «علي في بلاد
السراب»، و«الطاحونة»، كما شارك في إنتاج رائعة يوسف شاهين.. وواصل إبداعه
السينمائي فكان «بولعيد» آخر أعماله السينمائية عن الثورة الجزائرية.
«الشرق الأوسط» في القاهرة قلبت معه أوراق الذكريات واستمعت لكلماته في هذا
الحوار:
·
كرمك مهرجان القاهرة السينمائي
العام الماضي.. هل كان لهذا التكريم معنى مختلفا؟
- مهرجان القاهرة السينمائي من أهم وأكبر المهرجانات العالم. وهو معقل
السينما العربية، وشرف لأي فنان عربي أن يكرم، كرمت عن ثلاثة أعمال
سينمائية وهم: «فجر المعذبين» و«الطاحونة» و«مصطفى بولعيد»، الذي أنتج في
منتصف عام 2009.
·
فيلم «بولعيد» كان احتفاء بأحد
مجاهدي الثورة الجزائرية الكبار، ما الجديد الذي قدمته، خاصة أن الكفاح
الجزائري رُصد سينمائيا في أعمال عديدة؟
- هو أول فيلم جزائري يتناول سيرة بطل بمفرده من أبطال الثورة الجزائرية..
والفيلم مختلف عن جميع الأفلام، التي قدمت في السينما الجزائرية، لأنه من
المعتاد أن البطل فيها هو الشعب وليس الشخص، وبولعيد كان القائد المحرك
للثورة مع مشاركته عددا من الثوريين. والتناول بعيد نسبيا عن حياته الشخصية
ويركز على دوره في الأحداث التي، أشعلت الجزائر حتى طرد المحتل.
·
وما القيمة المجتمعية للفيلم من
وجهة نظرك؟
- الفيلم يحاول نقل الكثير من المحطات المهمة في تاريخ الثورة الجزائرية
ويلتقط لحظات محورية، أهمها اجتماع القادة الستة برئاسة بولعيد ليفجروا
الثورة، وكان من بين هؤلاء الرئيس الجزائري السابق محمد بوضياف.
·
ترأست قبل ذلك لجنة التحكيم
لمهرجان دبي السينمائي، هل أضافت لك التجربة؟
- هو شرف لي وللجزائر، وفي الوقت نفسه هي مسؤولية، حيث ستحكم على عمل
الزملاء وفق قانون داخلي، ولو استطعت لقدمت الجائزة الأولى لكل فيلم، لأن
إنتاج فيلم عربي اليوم أصبح مغامرة. وطيلة أسبوع كامل عملنا بكل نزاهة
واضطررنا لمشاهدة كل الأفلام المتسابقة مع باقي أعضاء اللجنة.
·
ما تقييمك لحال السينما
الجزائرية الآن؟
- في الماضي، عانت السينما الجزائرية كثيرا ومرت بصعوبات عديدة، لكنها الآن
بدأت التعافي والوقوف على قدميها مرة أخرى، فعلى الرغم من عدد الأفلام
القليل فإنها تحمل مضمونا وتحدث تأثيرا إيجابيا لمشاهديها، لأنها تمتلك
جميع المؤهلات لإنتاج أفلام متكاملة من جميع الجوانب.
·
وهل كانت المشكلة في التمويل في
السنوات الماضية؟
- التمويل مشكلة كبيرة في الجزائر، وخاصة أن الأموال موجودة ولكن
الميكانيزمات غائبة، كيف تموّل الأفلام؟ كيف تدعم؟ ما دور الدولة؟ ما دور
الشركات الخاصة؟ ما دور التلفزيون؟ كلها إشكاليات تحتاج للتوضيح والحل من
جانب القائمين على السينما الجزائرية.
·
برأيك، لماذا لم تعرض أعمال
سينمائية جزائرية داخل مصر؟
- كل شاشات العالم العربي تعرض الأعمال الجزائرية عدا الشاشات المصرية،
وأعتقد أن السبب هو اللهجة التي من الصعب أن يفهمها المصريون، لكن على
النقيض فالشعب الجزائري يفهم جيدا الشعب المصري، وبالإضافة إلى عدم إدراج
الأفلام الجزائرية داخل السوق المصرية.
·
وهل يمكن التغلب على عقبة اللهجة
بالترجمة أو الدبلجة؟
- هل يعقل ونحن عرب أن نلجأ إلى الدبلجة كي لا نفهم بعضنا بعضا، لا بد أن
نتعب قليلا لنقهر اللهجات، وعلى سبيل المثال قدم المخرج الراحل رضوان
الكاشف فيلم «عرق البلح» باللهجة الجنوبية وفهمته غالبية الشعب المصري رغم
صعوبة اللغة ولم يلجأ المخرج إلى الدبلجة.
·
متى بدأت صداقتك بالعندليب عبد
الحليم حافظ؟
- معرفتي بعبد الحليم حافظ تعود إلى بداياته في الغناء، لكن العلاقة بدأت
تأخذ شكل الصداقة عندما طلب مني التعاون معه في فيلم سينمائي، وكانت القصة
للراحل مصطفى أمين بعنوان «لا» وقد كتبها أثناء وجوده بالسجن، فكان يهرّب
قصاقيص من الورق لعبد الحليم حافظ وأعجب العندليب بها جدا، خاصة أنه طلب من
مصطفى أمين أن يبتعد في السيناريو عن كل ما يخص الغناء، كان يريد أن يقدم
نفسه كممثل فقط.
وأجرينا جلسات عمل لاختيار المشاركين في الفيلم، وكانت سعاد حسني مرشحة
للبطولة النسائية، وبدأنا معاينة أماكن التصوير، في إسبانيا والجزائر
ومصر.. وفي ذلك الوقت، كان السائد في أوروبا في السماح بالتصوير أن يتم
التأمين على المخرج والبطل، وكلما ذهبنا إلى شركة تأمين تطلب مبلغا كبيرا
جدا، بسبب الحالة الصحية السيئة لحليم بعد الكشف عليه. ولم يكتمل الفيلم
وتوفي عبد الحليم قبل بدء التصوير فيه.
·
ولماذا اختارك عبد الحليم لإخراج
هذا الفيلم؟
- عبد الحليم حافظ كان متابعا جيدا لأعمالي ونشاطاتي الفنية، وهو شخص لا
يعرف المجاملة في العمل، وكنا دائما نتكلم عن التعاون بيننا حتى جاءت هذه
القصة.
·
لكن القصة قدمت تلفزيونيا في عمل
من بطولة يحيى الفخراني؟
- اشتريت القصة من الراحل مصطفى أمين، وبموجب العقد لا يحق لأحد أن
يتناولها، ولكني فوجئت بإنتاج هذا العمل كمسلسل درامي ولم ألجأ إلى القضاء
بسبب صداقتي بالراحل مصطفى أمين وعبد الحليم حافظ.
·
هل تزوج عبد الحليم بسعاد حسني؟
- أنا كنت رفيق عبد الحليم في سنواته الأخيرة وأعرفه جيدا، وكنت معه دائما
حتى في سفرياته وفترة مرضه، وبرأيي حليم لم يتزوج سعاد، فقط كان يتعاطف
معها وهي كانت تحبه؟
·
وماذا عن عبد الحليم الإنسان؟
- لن يتكرر، ولم أر أحدا في بساطته، منزله في القاهرة كان مفتوحا طيلة
اليوم لأي أحد.. فقد كان يساعد كل من يتردد عليه وكنا نجلس أنا ومجموعة من
الأصدقاء المقربين في حجرة نومه من كثرة الناس في منزله، وكان يخرج ليتكلم
معهم ثم يعود إلينا، وذات مرة كان عندي خادمة كان تتمنى أن تلتقط صورة مع
عبد الحليم ولكن وزنها كان كبيرا ومن الصعب تحركها، وعندما أخبرت عبد
الحليم بهذا الأمر طلب مني أن نذهب سويا إلى منزلي تنفيذا لرغبتها.
·
هل عايشت مرحلة مرض عبد الحليم
ووفاته؟
- بالفعل.. كنت معه طيلة فترة مرضه، وقبل وفاته بيومين تركته للذهاب لباريس
لقضاء بعض الاحتياجات الخاصة، ومنحني ساعة كانت كبيرة نسبيا على معصمه
لإعادة ضبطها، وأعطاني ثلاثة آلاف دولار لشراء سيارة صغيرة، وبعد يومين
فوجئت بخبر الوفاة وسلمت الساعة والمبلغ إلى مجدي العمروسي، وبالمناسبة لم
يوص عبد الحليم بأي شيء، لأنه كان متفائلا وعنده أمل في الحياة.
·
هل ما زلت تسمع عبد الحليم؟
- لم أحب سماع عبد الحليم بعد موته، وذات مرة ذهبت إلى قبره فوجدت شبابا
يحملون جهاز كاسيت ثم وضعوه على قبره وعندما سألتهم عن السبب، فقالوا: إن
عبد الحليم كان يمتعهم وهو على قيد الحياة ورغبنا أن نمتعه بعد موته..
فبكيت كثيرا على هذا الموقف، ومنذ هذا اليوم قررت عدم سماع أي أغنية لعبد
الحليم.
·
ما رأيك في المسلسل والفيلم
اللذين تناولا حياة العندليب؟
- عبد الحليم يستحق أكثر من ذلك، ولكن لم يظهر العملان شخصيته الحقيقية..
كان عليهم أن يستعينوا بأصدقائه ويدققوا في المعلومات، فأنا مثلا أعرف عن
عبد الحليم الكثير، لكن لم يسألني أحد منهم.
·
كيف تعرفت إلى يوسف شاهين؟
- عندما كنت مديرا لمؤسسة السينما الجزائرية، جاءني خطاب من شاهين يطلب مني
مساعدته في تصوير فيلم «العصفور»، فقد كانت مؤسسة السينما الجزائرية معترضة
على قصة الفيلم، فأرسلت له كلمة واحدة (تعال).. اطلعت على السيناريو فوجدته
ممتاز جدا، ولم أعرف سبب الاعتراض، فالفيلم يتحدث عن حرب 1967 وبدأت
علاقتنا في التطور وأصبحنا أصدقاء أكثر وتعاونّا فنيا ثم توثقت علاقتنا
العائلية؟
·
ما رأيك في السينما المصرية
الآن؟
- تقدمت السينما المصرية كثيرا وتنوعت أعمالها وأعجبتني أعمال خالد يوسف
جدا، خاصة فيلم «دكان شحاتة»، كما بهرني فيلم «واحد صفر» للمخرجة كاملة أبو
ذكري، ويتمتع فيلم مثل «طباخ الرئيس» بجرعة جرأة كبيرة، فالسينما المصرية
في مرحلة تقدمية في الأفكار والمضمون، والأجيال الجديدة لديها فكر تعبر عنه
بكل صراحة وحرية.
·
هل تفكر في استعراض حياة باقي
أبطال الثورة الجزائرية بعد فيلم «بولعيد»؟
- بالفعل كانت الفكرة المطروحة إنتاج ثلاثة أفلام عن ثلاثة أبطال هم مصطفى
بن بولعيد وكريم بلقاسم والعقيد لطفي، فالشعب الجزائري كله شارك في الثورة،
كذلك هناك مئات الشخصيات الوطنية التي تحتاج إلى أفلام.
الشرق الأوسط في
09/04/2010 |