كُلّ سِينمَائِيّ وثائقِيّ، مَهْمَا كَانت جِنسِيَّته وَمهما كَانت
تَوجُّهاته
وَانتمَاءَاته، مَدِينٌ بِطريقة أو بأخرى إِلى المُخرج الهُولندي جوريس
إيفانس (Joris Evens)
الذِي يُعْتَبَرُ من أهمّ أقْطَاب السّينما الوثَائِقِيَّة على غرار
الأمريكي روبار فلاهرتي
(Robert Flaherty)
وَمُوَاطِنِهِ الهُولندي يوهان فَان دار
كوكن
(Johan Van Der Keuken).
يُمَثِّلُ جُوريس إِيفانس الذِي وُلِدَ سَنة 1898
وَتُوُفِّيَ سَنة 1989 المَثَل النَّاصِع لِلسِّينما الوَثَائِقِيَّة التِي
وفَّقَت
بامتيَاز بَيْنَ الالتزَام الإِيديُولُوجِيّ وَالسِّيَاسِيّ
وَالالتزَام الشِّعْرِي
وَالجَمَالِي، إِذْ أَبْرَزَ دَوْر الصُّورَة الفَعَّال فِي التَّعْرِيف
بِقَضَايَا
الشُّعُوب أَيْنَمَا وُجِدَتْ وَفِي مُنَاصَرَتِهَا.
تَكَوَّنَ جوريس إِيفَانس
سِيَاسِيًّا وَتَمَرَّسَ عَلَى النِّزَاعَات الفِكْرِيَّة
وَالسِّيَاسِيَّة
أَثْنَاءَ زِيَارَتِهِ إِلَى الاتّحَاد السُّوفيَاتِي سَنَة 1930، وَهُنَاك
اخْتَلَطَ بِكَثِيرٍ مِنَ المُنَظِّرِين وَالمُخْرِجِين المَسْرَحِيِّين
وَالسِّينِمَائِيِّين الذِينَ كَانُوا فِي خِدْمَةِ رِسَالَةٍ
وَاحِدَة وَهيَ
تَصْوِير الوَاقِع كَمَا هُوَ. وَعِنْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى هَذَا البلد سَنة
1931،
أَنْجَزَ أَفْلاَمًا وَثَائِقِيَّة قَصِيرَة تَتَمَحْوَرُ جُلُّهَا حَوْلَ
الحَرَكَة الصِّنَاعِيَّة النّاشئة التِي كَانَ يَعِيشُهَا
الاتِّحَاد
السُّوفيَاتِي، مُرَكِّزًا أَسَاسًا عَلَى تَصْوِير أَفْرَان المَعَامل
الضَّخْمَة.
مُنْذُ ذَلِكَ الحِين، اعْتَبَر جُوريس
إِيفَانس نَفْسَهُ "رَجُلاً يَحْمِلُ
الكَامِيرًا"، حَسب عِبَارَتِهِ، وَظِيفَته الأَسَاسِيَّة
التِّجْوَال فِي كُلّ
أَنْحَاء العَالم حسب الصُّدَف وَالضَّرُورِيَّات، لِنَقْلِ مَخَاض الوَاقع
وَتَقَلُّبَاته الحَثِيثَة وَخَاصَّةً الصِّدَامِيَّة وَالمَأْسَاوِيَّة
مِنْهَا.
جُورِيس إِيفَانس هُوَ رَحَّالة السِّينمَا الوَثائقيّة العَالَمِيَّة.
كَانَ مَوْجُودًا فِي إِسْبانيَا حِين انْدَلَعَتِ المُوَاجَهة الدَّامِيَة
بَيْنَ
الجُمهُورِيَّة الإِسْبَانِيَّة الفَتِيَّة وَجَيْش
وَمِيلِيشيَات الجنرَال
"فرانكُو" المَدْعُومَة مِنْ قِبَل الفَاشِيِّين وَالنَّازِيِّين.
وَلَقَدْ
أَفْرَزَتْ تَجْرِبَته هُنَاك رَائِعَة مِنْ رَوَائِع السِّينما
الوَثَائِقِيَّة
عنوَانها "أَرْض إِسْبَانيَا" (Terre d’Espagne)
أَنْجَزَهُ سَنَة 1938. هوَ فِيلم
متفَاعِل وَمُتَضَامِنٌ مَعَ فيلم آخر تَنَاوَلَ نَفْس الوَقَائِع أَلاَ
وَهوَ "الأَمَل" (L’Espoir)
للأَدِيب وَالمُخْرج الفِرَنْسِي "آندري مَالرُو"
(André Malraux)
الذِي كَانَ مِنْ كِبَار المُنَاصِرِين لِلْجُمْهُورِيِّين
الإِسْبَان.
ثُمَّ انْتَقَلَ بعد ذلك إِلَى الصِّين، وَهي من البُلْدَان المُحَبَّذَة
لَدَيْه،
حيثُ صَوَّرَ فِيلمًا بِعُنْوَان "الأَرْبَعُمائة مِلْيُون" (Les Quatre cents millions)
وَيُعَدُّ هَذَا الفِيلم الوَثَائِقِيّ الذِي أَنْجَزَهُ سَنَة 1939
مِنْ
الأَفْلاَم الطَّلاَئِعِيَّة الأُولَى التِي وَقَفَتْ إِلَى جَانب
الثَّوْرَة
المَاوِيَّة نِسْبَةً إِلَى "مَاو تسي تُونغ"
(MaoTsé-tung)، الزَّعِيم الصِّينِي
الشَّهِير. كَمَا اهْتَمَّ أَيْضًا بِمَا يَحْدُث فِي الوِلاَيَات
المُتَّحِدَة
الأَمْرِيكِيَّة، حَيْثُ صَوَّرَ، سَنَة 1940، فِيلمًا مَوْسُومًا
بِعُنْوَان
"السُّلْطَة وَالأَرْض"
(Le Pouvoir et la terre)،
حَاوَلَ مِنْ خِلاَلِهِ فَهْمَ
تَنَاقُضَات المُجْتَمَع الأمرِيكِي وَرَصْدَ البَوَادِر الأُولَى
لِرَغْبَة
الوِلاَيَات المُتَّحِدَة الأمريكيّة فِي الاسْتِحْوَاذ على العالم. سَنَة
1946،
حَطَّ جُوريس إِيفَانس الرِّحَال بِأَنْدُونِيسْيَا أَيْنَ صَوَّرَ فِيلمًا
يَحْمِلُ عُنْوَان "أَندُونسيَا تُنَادِيك" (L’Indonésie t’appelle).
وَبَعْد
اسْتِرَاحة شِعْرِيَّة فِي العاصمة الفرنْسِيَّة بَارِيس حَيْثُ أنْجَزَ
سَنَة 1957
فِيلمًا رَائِقًا بَرْهَنَ فِيه أنَّهُ مِنْ كِبَار "شُعَرَاء
المُدُن"، عنوَانه
"نهر السَّان التَقَى بِبَارِس"
(La Seine a rencontré Paris)، عَادَ جُورِيس
إِيفان مُجَدَّدًا إِلَى الصِّين لِيُخْرِجَ مَجْمُوعَة مِنَ الأَفْلام
نَسْتَشِفُّ
مِنْ خِلاَلِهَا نَظْرَته المُعْجَبَة وَالنَّاقِدَة فِي الآن
للِنِّظَام
الشُّيُوعِي القَائِم آنذاك. كَانَ يَبْحَثُ، وَهوَ المُغْرَمُ بِتَصْوِير
الشُّعُوب وَالمَجْمُوعَات، عَنْ بَلَدٍ يُجَسِّدُ تَجْسِيدًا مَلْمُوسًا
حُلْم
السَّعَادَة وَالعَدَالَة وَالحُرِّيَّة. قَادَتْهُ قَدَمَاه، سَنَة 1961،
إِلَى
كُوبَا "فِيدَال كَاسترُو" (Fidel Castro)
حَيْثُ صَوَّرَ فِيلمًا بِعُنْوَان
"يَوْمِيَّات سَفَر"
(Carnet de voyage).
كَان هَاجِس جُلّ رَحَلاته البَحْثُ عَنْ
أَنْظِمَةٍ سِيَاسِيَّة ثَوْرِيَّة تُنْصِفُ النَّاس، تَصُونُهُمْ
مَادِّيًّا
وَاجْتِمَاعِيًّا وَتُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّعْبِير عَنْ
تَطَلُّعَاتهم
وَأَحْلاَمهم بِكُلِّ حُرِّيَّة. كَانَ يَبْغُضُ التَّبَعِيَّة
الإِيديُولُوجِيَّة
وَالسِّيَاسِيَّة، مُتَصَدِّيًا لِقَمْعِ الحُرِّيَّات وَلِلَجْمِ
الأَفْوَاه.
تَتَمَيَّزُ جلّ أفْلاَم جُورِيس إِيفَانس بِتَرْكِيزِهَا تَرْكِيزًا
مُكَثَّفًا عَلَى أَرْبَعَةِ عَنَاصِر هِيَ الأَرْض وَالمَاء وَالهَوَاء
والنَّار.
كَانَتْ مُمَارَسَتُهُ السِّينمَائِيَّة مُتَشَبِّثَة بِنَصَاعَة
الصُّورَة
وَجَدَلِيَّة المُونتَاج الحَامِي وَالسَّخن وَمَادِّيَّة الوَقَائِع التِي
كَانَ
يَنْقُلُهَا أَيْنمَا حَلّ. عِنْدَمَا سُئِلَ المُنَظِّر الفِرَنْسِيّ
قَاسْتون
بَاشْلاَر
(Gaston Bachelard)
الذِي اهْتَمَّ كَثِيرًا، من وُجْهَة فرُويدِيَّة،
بِالعَنَاصِر المَادِّيَّة مثل النَّار وَالمَاء وَبِرُمُوزِهَا
المُتَعَدِّدَة،
عَنِ المُفَكِّر أو الفَنَّان الذِي يُدِينُ لَهُ فِي بُحُوثِهِ وَفِي
مُقَارَبَاتِهِ التَّحْلِيلِيَّة، أَجَابَ دُونَ تَرَدُّد
إِجَابَةً بَاغَتَتْ كُلّ
النَّاس: "هُوَ المُخْرج وَالشَّاعر جُورِيس إِيفَانس. نَحْنُ قَرِينَان،
مُنْصَهِرَان فِي نَفْس الشَّوَاغل وَالاهْتِمَامَات".
الجزيرة الوثائقية في
16/03/2010
سلسلة رموز السّينما الوثائقيّة العالميّة ومناراتها
المُخرج
الهولندي يوهان فان دار كوكن
(Johan Van Der Keuken)
الهادي
خليل
يُعدّ المُخرج الهولندي يوهان فان دار كوكن
(Johan Van Der Keuken)
الذي وُلد بمدينة أمستردام سنة 1938 وتوفّي سنة
2001، من كبار المخرجين
الوثائقيّين في العالم إن لم نقل أهمّهم وأنبغهم إطلاقا. بدأ حياته كمصوّر
فوتوغرافيّ بعد أن درس السّينما في الخمسينات في المعهد العالي للدّراسات
السّينمائيّة بباريس، ثمّ انطلق، عند مطلع السّتّينات، في
إنجاز مجموعة من الأفلام
الوثائقيّة التي بَصَمَتْ ذاكرة عشّاق الفنّ السّابع وبيّنت مدى معانقة هذا
الضّرب
من الأفلام للإبداع وللشّاعريّة الصّافية. تمتاز أفلام يوهان فان دار كوكن
بالأهميّة التي تعطيها للفضاء ولكلّ الجزئيّات والتّفاصيل التي
يختصّ بها من أصوات
وسكّان وأنهج وأزقّة. في كلّ فيلم من أفلامه نحسّ بنبض الحياة وخاصّة حياة
المنبوذين والمهمّشين والمقهورين في مجتمعاتهم. يوهان فان دار
كوكن هو شاعر الفضاء
بامتياز.
أمّا السّمة الثّانية التي تُميّزه عن بقيّة
المخرجين، فإنّها تتعلّق بالأولويّة القُصوى التي يوليها
للصّمت في جلّ أفلامه. ليس
هنالك لا ثرثرة ولا خطابات مسهبة ولا لغة مباشرة. فهو فنّان يأخذ كلّ وقته،
عند
تصوير كائن بشريّ أو مكان أو شيء ما، يترك الصّورة تسير على رِسْلِهَا،
مُدْرِكًا
أنّ الإخراج الوثائقيّ يتطلّب كثيرا من التّبصّر والتّأنّي
والتّمهّل ونبذ
التّلصّصيّة. وهذا الجدب في الدّيباجة الشّكليّة لجلّ أفلامه يذكّرنا
بأفلام المخرج
الفرنسي الشّهير روبار بريسّون (Robert Bresson)
الذي اعتمد الصّمت والتّجويد على
مستوى كلّ المكوّنات الفيلميّة كركيزة أساسيّة وجوهريّة في نظرته
الجماليّة، مثلما
تُبيّنه لنا أفلاما روائيّة خالدة على غرار "النّشّال"
(Pickpocket)
و"امرأة ناعمة"
(Une femme douce)
و"ملائكة الخطيئة"
(Les anges du péché)
و"المال"
(L’argent)
الخ. كان يوهان فان دار كوكن معجبا كثيرا ببريسّون وبثباته الدّؤوب في
نفس المنهج
السّينمائي. لذلك لُقِّبَ المخرج الهولندي بـ"ِبريسّون" السّينما
الوثائقيّة.
أمّا بالنّسبة إلى مضامين أفلامه، فهي تتمحور
أساسا حول قضيّة فاقدي البصر وقضيّة نُصْرَة الشّعب الفلسطيني
ونضالاته. ففي سنة 1964، صوّر يوهان فان دار كوكن فيلما بالأبيض والأسود عنوانه "الطّفل
الأندونيسي"
(Indonesian Boy)
يدوم 40 دقيقة. وهذا الفيلم هو أوّل تجربة للمخرج الهولندي مع
عالم فاقدي البصر وخاصّة الأطفال منهم. اهتمامه بالأطفال العميان، سيتوطّد
بإخراجه،
سنة 1966، لفيلمٍ مهمّ يُعتبر إلى حدّ اليوم درّة مسيرته
السّينمائيّة وذروة تمشّيه
الإنساني، عنوانه "الطّفل فاقد البصر"
(L’enfant aveugle).
يروي هذا فيلم حياة طفل
اسمه "إيرمان سلوب"
(Herman Slobbe)، مدقّقا في كلّ حركة يقوم بها هذا الطّفل
المهرّج والذّكيّ وبكلّ كلمة يقولها، من خلال علاقاته بمحيطه وبأفراد
عائلته وخاصّة
أمّه، ومع الشّارع ككلّ. الظّاهرة التي استرعت انتباه فان دار كوكن في
تصويره
لفاقدي البصر هي القدرة الفائقة والمذهلة لدى هؤلاء على التقاط
الأصوات والتّمييز
الدّقيق بين مختلف أنواعها وطاقتهم الخلاّقة في تحديد خاصيّات الفضاء الذي
يتحرّكون
فيه.
بعد ذلك، انطلق يوهان فان دار كوكن، في مطلع السّبعينات، في تصوير
سلسلة
من الأفلام الوثائقيّة يمكن تسميتها بـ"أفلام المدن". فصوّر المغرب وتونس
والكاميرون والبيرو وإسبانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وكان همّه
الأساسي في
هذه الأفلام إبراز بعض خصائص العلاقة المُعقّدة والشّائكة بين الجنوب
والشّمال.
خلال جولته في هذه المدن، لم يصوّر الأماكن المركزيّة ولا الشّخصيّات
المرموقة ولا
أحداث معروفة، ولكنّه اعتنى بظواهر اجتماعيّة تخصّ أساسا الفئات
الاجتماعيّة
المسحوقة والبناءات القصديريّة التي تعجّ بها بعض العواصم
الغربيّة. كما اعتنى أيضا
بتصوير الشّباب الإفريقي والعربي المغترب في مدن غربيّة مثل هولندا. كانت
له القدرة
في ربط علاقات حميمة مع كلّ النّاس الذين صوّرهم، ينصت إليهم بانتباه، لا
يتدخّل
كثيرا ولا يُطلق الأسئلة الثّرثارة وكأنّه عند تصوير شخوصه
يجعل نفسه واحدا
منهم.
كان يوهان فان دار كوكن معروفا بمؤازرته للقضيّة
الفلسطينيّة وبتنديده للسّياسة والممارسات الصّهيونيّة. في سنة 1980، صوّر
فيلما
متميّزا عنوانه "الفلسطينيّون"
(Les Palestiniens)،
ركّزه على أُمّهات الشّهداء
والسُّجناء الفلسطينيّين اللاّت مازلن يقاومن ويناضلن كلّ يوم من أجل نصرة
الحقّ
أمّا بالكلمة أو بالزّغاريد أو بتزويد أطفالهن بالحجارة.
الجزيرة الوثائقية في
09/03/2010
رُمُوز السينما الوثائقية: روبار فلاهرتي
الهادي خليل - تونس
إنّ المُخرج الأَمْرِيكي، مِنْ أَصل إِيرلَنْدِي،
روبار فلاهرتي
(Robert Flaherty)
الذي وُلِدَ سَنة 1884 وَتُوُفِّيَ سنة 1951، هُوَ
دُون مُنَازع أَهمّ مُخْرج عَرَفَتْهُ السّينما الوَثائقِيَّة، تَأَثَّرَتْ
به
أَجْيَال مِنَ السّينمائيّين الوَثَائِقِيِّين الكِبَار مِثْلَ
الهُولَنْدِي
جُورِيس إِيفانْس (Joris Ivens)
والفِرَنْسِي جَاكْ إِيفْ كُوسْتُو (Jacques-Yves Cousteau)
والسّوِيسرِي رِشَارْ دَنْدُو
(Richard Dindo)
وَغَيْرِهم.
اتَّسَمَت تَحْقِيقاتُهُ الفِيلمِيَّة التِي
رَكَّزَهَا على الغَوْصِ فِي عَادَات وَتَقَالِيد سُكّان المنَاطق
النَّائِيَة
والمَجْهُولَة التِي لَمْ تَطَلْهَا التّكنُولُوجيَا وَأَنْمَاط الحَيَاة
الحَدِيثَة، بِمِسْحَةٍ "رُوسُّويَّة"، نِسْبَةً إِلَى
فَيْلَسُوف عَصْر الأَنْوَار
الفِرَنْسِيّ "جَان جَاكْ رُوسُّو"
(Jean-Jacques Rousseau)
وَنَظَرِيَّاتُهُ
الشَّهِيرة المُتعلِّقَة بِالإِنْسَان البِدَائِي الذِي بَقِيَ
يَعِيشُ فِي
تَفَاعُل وَانْسِجَام وَتَكَامُل مَعَ الطَّبِيعَة.
هُنَالِك
شُعوب
وَمَجْمُوعَات بشرية أَغْرَت رُوبَار فلاهرتي وَأَبْهَرَتْهُ بِحُكْمِ
مُحَافَظَتِهَا عَلَى سُلُوكٍ مَعِيشِيّ مُتَوَاشِجٍ مَعَ
تقاليد أَصِيلَة
مَوْرُوثَة أَبا عَن جدّ، فَهِيَ قَطْعًا الشُّعُوب التِي تَعِيش فِي
الأَصْقَاع
الثّلجيّة النَّائِيَة.
وقد أَحْدَثَ فِيلمه الشّهِير "نَانُوكْ"
(Nanouk)
الذِي
صَوَّرَهُ بَيْنَ سَنَوات 1919–1922، رَجَّةً كُبْرَى لأَنّهُ فتَحَ
أَعْيُن
العَالم عَلَى شُعُوب مَنْسِيَّة كَان يَعْتَقِدُ الكَثِير من الناس أنّها
من صُنع
الخَيَال وَأن لا وُجُود لَها في الواقع.
يَرْوِي فلاهرتِي، فِي هذا الفِيلم، حَيَاة "نَانُوك"
العَائِلِيَّة وَكُلّ الصّعُوبَات التِي يُواجِهُهَا لكسب القُوت
وَالمُحَافَظَة على أُسُس العَائِلَة. فِيلمُهُ خَالٍ مِنَ
الفُولْكلُورِيَّة
السِّيَاحِيَّة التِي كَانَت سَائِدَة فِي أَغْلَب
الرُّوبورتَاجَات السَّاذِجَة
التِي أُنْجِزَتْ عَنْ هَذِهِ الشُّعُوب الغَابِرَة، مُتَّخِذًا مَنْحى
حَمِيمِيًّا
وذَاتِيًّا فِي قَطِيعَة كُلِّيَّة مَعَ النَّظْرَة الاستعلائية التِي
تَدَّعِي
التَّقَيُّد بِـ"المَوْضُوعِيَّة" وَبنوَامِيس "التّحْقِيق
العِلْمِي".
كَان
رُوبار فلاهِرْتِي مُغامرًا حَقًّا، مَفْتُونًا بِالعوالم الخَفِيَّة،
تَحْدُوهُ
النَّزعَة التَّجْرِيبِيَّة والبَحْث عنْ حضَاراتٍ تَعَوَّد على اكتشافها
إما خلف
العَواصف الثّلجِيَّة أَوْ في أعماق البِحَار. فَفِي سَنَة 1926، صَوَّرَ
رَائِعَة
أُخْرَى من روائع السّينما الوَثَائِقيّة بِعُنوَان "مُوانا" (Moana)، وهيَ
حصِيلَةُ ثَلاث سَنَوات قَضَّاهَا المُخْرج الأَمْرِيكِي فِي
جُزُر "سَامُوا" (Samoa)
فِي بُحار الجَنُوب.
عِنْدَمَا يُسْأَلُ عَنْ سِرّ العَلاَقَة
العَاطِفِيَّة الوَطِيدَة بَيْنَهُ وَبَين شُخُوصِهِ وَعَنِ "الحِيَل"
التِي
يَلْجَأُ إِلَيْهَا لِتَرْوِيضِهَا وَحَثِّهَا عَلَى الجهر التِّلْقَائِي
بِكَثِير
مِنَ الحقَائِق، يُجِيبُ دُون تردُّد: "إِنَّنِي أَتَعَاملُ مَعَ النَّاس
بِوَصْفِهم بَشَرًا لاَ حَشَرَات".
نُعِتَ فلاهرتِي بِـ"رُوبنسن كريزوي"
(Robinson Crusoé)
السِّينما الوَثََائِقِيّة، وَهي عِبَارَةٌ مَدْحِيَّة
وَتَنْوِيهِيَّة بِتَمَشِّيهِ المُتَشَبِّث بِمَا سُمِّيَ بِـ"غَيْرِيَّة
التُّخُوم" (L’altérité des limites)
لَكِنّها أَيْضًا عبارة تَنِمُّ لَدَى البَعْض
عَنْ نَوْعٍ مِنَ التّحَفُّظ حيَال نَظْرَته الفردَوْسِيَّة
لِلشُّعُوب
البِدَائِيَّة الضَّارِبَة فِي القِدم.
كَانَ
فلاهرتي مُقِلاًّ فِي كَلامِهِ،
هُيَامُه الوَحيد هُو إِنجَاز الأَفْلام والتِّرْحَال وتجَنُّب الخِطَابَات
وَالتّفْسِيرات عن مَغَازِي أَفْلاَمه. كَانَ يُؤْمنُ أَنَّهُ لم يُزَوِّق
الوَاقع
وَلم يُحَرِّفْهُ وَأَنَّ تُهْمَة "المِثَالِيَّة" وَ"الفِردَوْسِيَّة"
وَ"الغرائِبِيَّة" التِي أُلْصِقَتْ بِهِ، نَاتِجَة عَنْ جَهْل النَّاس
بحَيَاةِ
هَذِهِ الشُّعُوب وَبتَضَارِيس بِيئَتِهِم وَأَنْمَاطِ عَيْشِهِمْ، لِذَا
اعْتَبَرَ، بِتَوَاضُعٍ صَادِق، أَنَّ مُهِمَّة أَفْلاَمِهِ
الأَسَاسِيَّة هِيَ
مُحَاوَلَة تَقْلِيص الهُوَّة بَيْنَ الشُّعُوب "المُتَحَضِّرَة"
وَالشُّعُوب التِي
بَقِيَتْ خَارِج سِيَاق مَا سُمِّيَ بِـ"التّقدّم".
مِثْلَمَا
تَوَغَّلَ
رُوبَار فلاهرتي فِي البِحَار والثُّلُوج بِنظْرَة المُحَقِّق
الإِتْنُولُوجِي،
فَإِنَّهُ تَوَغَّلَ أَيْضًا فِي عَوَالِم المُدُن الأَمْرِيكِيَّة
الكُبْرَى مِثْل
مُقَاطَعَة "مَانْهَاتِنِ" بِنيويورك، كَمَا يُبَيِّنُهُ فِيلم "جَزِيرة
الـ24
دُولار" (L’Ile aux 24 dollars)، الذِي يَنْتَقِدُ فيه المُخْرج ضَخَامَة بِنَاءَات
نَاطِحَات السَّحَاب وَغَطْرَسَتِهَا. فِي هَذَا الفِيلم، كَان فلاهرتي
وَفِيًّا
لنفس التّمَشِّي أَلاَ وهوَ إِنْجَاز وَثِيقَةٍ مَرْئِيَّة عَنْ مَا هُوَ
طَرِيف
وَمُتََفَرِّد فِي رُدُود فِعْل بَعْض الشَّخْصِيَّات تِجَاهَ
بِيئَتِهِمْ.
تَجَنَّبَ فلاهرتي تَجَنُّبًا كُلِّيًّا، فِي
نَقْدِهِ لِلْحضَارَة الأَمْرِيكِيَّة، البَيَانَات السِّيَاسِيَّة
وَالإِيديُولُوجِيَّة إِلَى حَدّ أَنَّهُ نُعِتَ بِالفَنَّان
غَيْر المُلْتَزِم
الذِي لاَ يَأْخُذُ بِعَيْن الاعْتِبَار العَوَامِل الاِجْتِمَاعِيَّة
والاقْتِصَادِيَّة التِي تَتَحَكَّمُ فِي مَصِير البَشَر.
هَذَا الرَّأْي فِيه
كَثِير مِنَ التَّجَنِّي وَسُوء التَّقْدِير بِمَا أَنَّ الالْتِزَام
الوَحِيد
الذِي كَانَ يُؤْمِنُ بِهِ رُوبَار فلاهرتي هُوَ "الالْتِزَام الشِّعْرِي"
(l’engagement poétique)،
أَيْ تلك النَّظْرَة السَّخِيَّة المُنْفَتِحَة عَلَى
بَهَاء العَالم وَعَلى مَبَاهِجِهِ وَعَلى مُبَاغَتَاتِهِ
المُسْتَحَبَّة.
الجزيرة الوثائقية في
02/03/2010 |