قصة الفيلم أضحت معروفة تماما. فالمخرج الأميركي (من أصل ألماني) رولاند
ايمريش حقق في العام الماضي فيلمه المثير للجدل (2012)، ليضع العالم في
مواجهة طوفان وشيك يقود إلى نهايته وغرقه في غمر مائي عظيم، يوم الحادي
والعشرين من شهر كانون الأول عام 2012. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار إن
أحداث الفيلم تدور في عامنا هذا، فإنه لم يتبق على وقوع الطوفان المدمر سوى
عامين. كان ايمريش في فيلمه متطابقا مع أساطير شعوب المايا والأزتيك
البدائية التي تقول بهذه النهائية الفجائعية، وإن كانت لا تخلو من تشابكات
وتعقيدات ميزت الكثير من روايته «المجحفة بحق العين والبصر»، حيث يغدو معها
افراغ الكأس ضروريا حين يطّف ماؤها من أجل بلوغ «مرتبة النور» بحسب راهب
بوذي يقوم بتفسير معنى الطوفان لتلميذه في جبال التيبت القصية.
في فيلم (2012) يتوجب على الخبير الجيولوجي الأميركي أدريان هلمسلي (العامل
في أحد مناجم النحاس في الهند) أن يشهد على معلومات تؤكد أن اندفاعات شمسية
عملاقة ستسبب خراب الكرة الأرضية بالكامل، وستفرغ الكوكب من محتواه البشري
بتأثير طوفان يغمر اليابسة فيه، بحيث يكون أمام نخبة ناجية أن تعيد تشكيله
ثانية بعد انحساره عن افريقيا وبقائها مرتفعة قليلا، فيما تختفي القارات
الأخرى من القاموس الجغرافي المتداول حتى وقت قريب.
يقوم هلمسلي بعد حصوله على «امتياز» المعلومات من مصدر هندي بالسفر إلى
الولايات المتحدة ليطلع آخر رئيس لها قبل وقوع الكارثة (لعب الدور داني
غلوفر) ومستشاريه على أنباء هذه العاصفة الشمسية. وبالفعل فإن الاشارات
الأولى لهذا الانفجار تجيء من تجفاف بحيرة نموذجية في ولاية كاليفورنيا
بشكل مفاجئ، ويضطر هنا كاتب قصص الخيال العلمي، الفاشل في هذا المضمار كما
يقدمه الفيلم، جاكسون كورتيس، مراقبة ما يحدث، بعد أن التقى بمهووس أميركي
يملك اذاعة خاصة به، يبحث من خلالها عن شهرة عشر دقائق فقط قبل أن يفوته
قطار الحياة نهائيا، وهمه أن يعرف الناجون بأنه أول من استشعر «مؤامرة»
الآخرين للبقاء أحياء.
بحسب الفيلم، فإن الباقين على قيد الحياة، المحتملين بالطبع، يجب أن يكونوا
محصنين ماليا، ليتمكنوا من ركوب (الطوف النووي) الذي يتم تجهيزه في بحيرة
عملاقة في جبال التيبت. وعلى كل راغب بالنجاة دفع مليار يورو إن أراد تفادي
الغرق في أتون الطوفان المهلك. هذا ما تطلعنا عليه ابنة الرئيس الأميركي
عندما يتم عقد «صفقة النجاة» مع ثري عربي في أحد فنادق لندن الفخمة. فهو
سيصعد الطوف مع زوجاته الأربع على هدي الشيكات، وليس لأي شيء آخر، وهي تهمس
للدكتور هلمسلي بذلك، في مايبدو عليه غارقا بانتقاء «العينات الانسانية»
التي يجوز لها الانتقال والصعود إلى الطوف بدقة انتقاء اللوحات النادرة
التي كانت تعمل عليها الدكتورة السمراء الفاتنة ويلسون، ابنة الرئيس، قبيل
وقوع كارثة الطوفان الكوني.
لا أحد يجزم بوجود مؤامرة هنا، فما يحدث هو تصرف جبار تسلكه الطبيعة
الثائرة، وعلى النخب الباقية أن تتعامل مع فرص نجاتها من دون هذه المؤامرة،
التي لاأحد ينسج خيوطها في هذا العماء الكوني، وبالتالي يصبح ملقى على
عاتقها أن تتصرف بالحكمة المطلوبة بغية انقاذ الجنس البشري من الهلاك
وحرمان الأساطير البدائية من امكانية تحققها بالكامل. والطوفان هنا لغة،
واشارات، ورموز، والأميركي بطيشه غير المدروس أحيانا يمكنه أن يتحكم به من
دون سائر النخب والمخلوقات الأخرى، حتى وإن كان كاتبا فاشلا ومغمورا مثل
كورتيس. فهو، باصراره على النجاة مع ولديه وطليقته من دون تلك المليارات
التي لا يملكها في الواقع، ينبري ليكون المثال. فهو يكفيه أن يبادل طائرة
صغيرة بساعة اليد حتى يضع عائلته و(خليل زوجته السابقة) على سكة النجاة
المفترضة وهو يقوم بذلك لأن (الخليل) تلقى مثل أي أميركي في ساعات فراغه
دروسا في التحليق المدرسي والخفيف، وينتهي بهم المطاف في طائرة أنطونوف
روسية عملاقة تعود ملكيتها إلى الملاكم الروسي السابق كاربوف، ورجل المافيا
القوي في الوقت الحالي، والذي لسوء حظه لم تسعفه ملياراته وسوء أخلاقه
ومكره بأن يحظى بنجاة مماثلة، فيقضي على حواف الطوف، لأنه ليس مهيأ كي يكون
من النخب المنتقاة.
الصورة التي قدمها لنا المخرج ايمريش في الفيلم مقنعة تماما وتعج بالمؤثرات
الكومبيوترية «الخارقة». فهو يحاكي الكارثة الكونية بتقنيات كفيلة باقناع
من يشاهدها، بأنه يقف فعلا على أطراف مأساة واقعة لامحالة، خاصة وأن
المقدسات الدينية لجميع سكان المعمورة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، حتى
تسيطر فكرة جديدة، فعلى الناجين وحدهم بعد الطوفان المؤكد أن يعيدوا تأسيس
الأوطان الجديدة من دون هذه المقدسات بحسب الأمكنة التي تقودهم حظوظهم
إليها. ولا تعود فكرة الوطن القديم مهمة، طالما أن الطبيعة المتجبرة تلطفت
بالبعض وأهلكت البعض الآخر. فالذي يحدث بعد عام 2012 سيكون مختلفا تماما.
لا مقدسات ولا أوطان، بل بشر هائمون على وجوههم ينتظرون انحسار الماء
بالكامل، ليعيدوا النظر في مكونات الحياة الجديدة التي يعاد بناؤها انطلاقا
من فكرة الصين المخلصة.
قد تغدو فكرة الفيلم بعد الانتهاء من مشاهدته جذابة، سينمائيا على الأقل،
خاصة وأن ايمريش ينجح بروايتها. ولكن كنا نعتقد من بعد مشاهدته أن الطوفان
العظيم لن يتعدى حدوثه على الشاشة الكبيرة، أو أنه يظل في أحسن الأحوال
فيلما محملا باشارات من مختلف الحجوم والأنواع، وأن ما يحدث فيه ليس إلا
قراءة بصرية في أساطير شعوب المايا المهداة إلينا من دون ذلك «التشذيب
المراوغ» الذي ظهرت عليه في الفيلم، وأن ايمريش نفسه مولع بهذه الأساطير
ويحاكيها بطريقته المشفرة التي يمكن «التفرس» من وجهات نظر مختلفة. اذ يمكن
للبعض في مثل هذه الحالة الملتبسة أن يمد أذرع تحليلاته، فيذهب إلى ماهو
أبعد من شاردات رأس المال المعولم الذي بات يتركز على شكل استثمارات عملاقة
في كلا البلدين المعنيين بالأحداث المدمرة. فخبر العاصفة أول ما يجيء من
الهند، في ما تشهد الصين على بناء الطوف النووي في إحدى بحيراتها. وإذا ما
أصيب المرء بمسّ اقتصادي مبهم، يمكنه الزعم بأن كلا البلدين «العملاقين» قد
استفادا من وفرة هذا المال كما لم يستفد منه بلد على هذا الكوكب. وأما إذا
أراد المرء غير المسالم بطبعه، أن ينسب الرواية إلى نظرية المؤامرة، ففيها
الكثير من الجذور الحرة التي توحي بذلك، فعندما تتهاوى مقدسات الأمم
الدينية والتاريخية، يغض ايمريش النظر كلية عن «المقدسات الاسلامية»، ليس
خشية من أهلها على نفسه بالدرجة الأولى - وإن كان قد عبر عن ذلك في مكان
آخر بقوله إنه لا يريد أن يقدم رأسه هدية لحفنة من المتعصبين - ولكن لأن
استبعاد هؤلاء الناس من أجندة الحضارة الانسانية عن طريق تجاهل مقدساتهم
أسلم له. فهو بهذه الطريقة يسهم في استبعادهم وانكارهم، وبالتالي انكار
دورهم في عملية بناء الحضارة الجديدة بعد الطوفان. ولكن قد يفوت المشاهد في
الحالتين وهو يغادر الصالة المعتمة أن وكالة(ناسا) الفضائية الأميركية عادت
مؤخرا قبل أيام وصادقت على التقرير الذي أصدرته الأكاديمية الأميركية
للعلوم، والذي ذهب حد القول إن نهاية العالم ستحل في عام 2012، وذلك بتأثير
هبوب عاصفة على أكثر من 150 مليون كم مربع على سطح الشمس. وأشار في الوقت
ذاته دانييل بيكر خبير الأحوال الجوية الفضائية في جامعة كولورادو، وأحد
مستشاري وكالة (ناسا)، إلى أن أحد أسباب هبوب هذه العاصفة هي التكنولوجيا
التي أصبحت تستخدم بشكل متزايد، مؤكدا زيادة الكهرباء على سطح كوكب الأرض،
بحيث أن كتل (البلازما) التي ستأتي من الشمس قادرة على تدمير الكهرباء
الموجودة في ثوان ما يؤدي إلى كارثة. ورغم صعوبة تصور أن الشمس سترسل إلى
الأرض هذه الطاقة التي ستؤدي إلى هذه الكارثة بحسب بيكر إلا أنه ليس
مستحيلا، بالنظر إلى أن سطح الشمس هو بطبيعته كتلة كبيرة من البلازما
المتحركة التي تحمل جسيمات ذات طاقة عالية، وستكون العواقب وخيمة بحيث يتم
فقدان 70 بالمئة من سكان العالم.
يقفز بيكر فوق تلعثم شعوب المايا واختفائهم الغامض بسبب من توسع عاصمتهم
كما أشارت بعض البحوث الأنثروبولوجية المتعلقة بهم، وربما يوسع من دائرة
تدبيج ايمريش الفيلمي للكارثة المنتظرة. هنا تبدو الاشارات عن الطوفان
علمية ومؤكدة، ولم تعد خاضعة للحضن الأسطوري واللعنات، ذلك أن (ناسا) تكرر
على مسامعنا أن أسوأ عاصفة شمسية وقعت في أيلول عام 1859، وعرفت حينها باسم
(حدث كارينغتون)، وقام بقياسها في وقته أحد علماء الفلك البريطانيين، وهي
التي تسببت بانهيار أكبر شبكة عالمية للبرق والهاتف، في وقت كان استخدام
الكهرباء في بدايته، ولم يكن ممكنا لها أن تصل إلى التأثير الذي يمكن أن
تسببه كهرباء اليوم في حياة سكان الكوكب.
حقا... عندما يموت العلم في عصر العلم والكشوفات الجينية المذهلة يصبح
عسيرا على البشرية المروعة في الصميم أن تؤمن بوجوده على أجندتها الى درجة
تكيفها مع استغنائها عنه في لحظات الكوارث والجائحات الكبرى. أما الأسطورة
الميتة، فهي شأن آخر يمكن مقاربتها دائما من خلال الكهرباء الفيلمية التي
تغذي (البلازما) الانسانية المستحدثة في فيلم 2012.
المستقبل اللبنانية في
14/03/2010 |