تبقى الافلام التي تكتب للسينما لها طعم، وبصمة
تختلف كثيرا عن تلك التي تأخذ مصدرها من عمل ادبي او سيناريو منقول عن
كتاب، او حادث تاريخي حيث ان السينما في اشتغالاتها المتنوعة ولجت عالم
الرواية والافكار ذات الاحداث الخاصة بالشعوب والاشخاص، وحتى السير الخاصة
ببعض النماذج المؤثرة في التاريخ.
ان خصوصية الافلام المعتمدة في صناعتها وانتاجها على مايكتب لها لتقديمه
رؤية بصرية متكاملة قد اعطى زخما ودفقا قويا للسينما كأداة جمالية تعني
بالادهاش والمتعة في آن واحد.
ولان السينما هي مجموعة عوامل تؤدي غايتها من عدة اشتغالات فنية وصناعية
الى مكملات اخرى عديدة من ديكور ومواقع تصوير الى ابتكار وحدات متلازمة
وتكميلية كالاكسسوارات والموسيقى وكل فريق يكمل الاخر في سبيل انتاج وحدات
بصرية ومضمونية تهدف الى خلق منظور جمالي لايخلو من اجماع في العمل، لذلك
تكون السينما قد تجاوزت مصادرها التقليدية في المساهمة بتنميتها من قبل
اطراف قد تكون السينما آخر اشتغالاتهم!.
ولو تأملنا واقع الافلام التي انتجت على طول تاريخ نشأة السينما سوف نلاحظ
ان كل الافلام التي كتبت على يد مشتغلين في السينما من مخرجين الى كتاب
سيناريو الى منتجين كانت اكثر قربا في فهم عملية انتاج الافلام ذات النزعة
الجمالية الخاصة بالسينما، لان رافدها الاساس قد تم بناؤه على ذلك الوعي
بأن السينما انتاج وصناعة بصرية وجمالية، ولتترك حرية الحركة والاختيار
لصناعها المهرة من ولوج عوالم مبتكرة ومذهلة لتأسيس فن لايخلو من ادهاش من
هذا الوعي، والفهم المستبطن للداخل السينمائي، ومن خلال تجربة متفردة في
صناعة السينما، كأداة ايصال بصري لمجموعات تنتظر كل مايحرك هواجسها، اشتغل
المخرج والمؤلف والمنتج بول هاكيس على المحركات الجمالية لاستكشاف ماهية
الحدث والحبكة المخصصة لبناء فيلم قد نسج بطريقة اختصاصية لبلوغ الهدف
الدرامي في ابعاده البنائية المتحركة على عدة شخوص.
لقد نسج المخرج احداث عمله في ليلة واحدة، وحتى نهايتها الموحية بدلالات
وترميزات كانت اقرب الى الاشتغال البصري مبتعدا عن تضمينها بالكلام، والذي
اشتغلت عليه اكثر الافلام التي اعتمدت الحدث الواحد والمتصل بزمن وحدث واحد
وفي مكان واجواء واحدة.
ان المناخ المعتمد في تسلسل احداث الفيلم يشي بمتشابهات ومركبات متقاربة في
كتابة السيناريو، اذ ان الاحداث تبدأ في مدينة لوس انجلوس، وهي المكان الذي
يعيش فيه المخرج، والذي تعرض في احد الايام الى اعتداء من قبل بعض قطاع
الطرق الموجودين بكثرة في الاحياء الخلفية لمدينة لوس انجلوس ومحاولة سلب
حياته، ولكنه نجا بأعجوبة، هذا ماذكره في احدى المقابلات الخاصة معه، لكن
الامر مختلف بشكل كبير في الاحداث المتسلسلة في الفيلم، حيث لاوجود لظلال
الحادث الذي مر به مخرج وكاتب الفيلم، لكن هناك اشارات تدل على ان الكاتب
قد استنبط هذه الاحداث ليفسرها ويعطيها مفتتحا قرائيا وثقافيا، وليدلو
بدلوه في الكشف عن الحياة التي يعيشها اولئك الابطال في مدينة تضج
بالانفعال والتداخل الاجتماعي الذي يسود تلك العلاقات المأزومة.
اكثر من تسعة ابطال، واكثر من تسع حكايات، مترابطة في نسق فني عالي
المستوى، وليتم تقديم قراءات ومقاربات تنتج فعلا واحدا يشتغل عليه المخرج
حتى آخر مشهد في الفيلم.
مناخ بارد في آخر ايام اعياد الميلاد، حيث هناك اشارات سيميائية لايقونات
ترمز لبابا نؤيل مع وجود بعض النيونات الخاصة بالاحتفالات واعياد رأس
السنة، في المحال التجارية وعلى واجهات بعض الفنادق المتناثرة في مدينة لوس
انجلوس مع تساقط (الوفر) وهذا ايحاء بصري بأن الاحداث تجري في ليلة باردة
لتقدم شحنات من الانفعال والترقب من ان اغلب الابطال يشعرون بشيء وكأنه
العدم.
قدم المخرج بول هاكيس قراءة بصرية وجمالية، مدركة لفكرة التداخل الاجتماعي
والتعدد في وجود اكثر من شخصية تنتمي الى امكنة عديدة في العالم حيث هناك
الاسيوي من كوريا وايران، وهناك اللاتيني والمكسيكي، ونماذج طاغية للزنوج
في اكثر محاور الفيلم حساسية، حتى ليخيل للمتتبع بأن البطولة المطلقة كانت
للنماذج ذوي البشرة السوداء! مثل المنتج والممثل المساعد دون تشيدل في دور
ضابط الشرطة وتيرانس هاورد مدير التلفزيون وزوجته التي لعبت الدور بشكل
بارع تاندي نيوتن بدور كريستين، اذ تبدأ الاحداث بعودة كاميرون وزوجته
كريستين الى منزلهما، حتى اعتراض ضابط الشرطة ومساعده قاما بالدورين الممثل
مات ديلون ورايان فيليب، ليقوما باستفزازهما بطريقة اكثر عدوانية وليس لها
علاقة بمخالفة اوتجاوز على القانون، ويقوم الضابط المسؤول عن الدورية
بتتفتيش كل على حدة ومن ثم يقوم بالتحرش بزوجة كاميرون بترك يده تسرح كما
تشاء على جسد كريستين لتؤشر سلوكا عنصريا واضحا، لتمتد على علاقتهما ولتؤثر
فيها بشكل جاد.
يقوم المخرج باستخدام المتناقضات، والمفاجآت في بناء احداث الفيلم، ليبدو
المشهد الاول قد تم بناؤه على فكرة استفزازية، لكنه في مشهد آخر يفند هذا
الاجراء ويضعنا في تفسير آخر، اذ يبدو ان هدف المخرج باعتباره كاتبا
للسيناريو هو شرح الطبيعة البشرية في اكثر الزوايا عتمة حيث لاوجود للايمان
بشيء على الاطلاق من حيث تثبيت المواقف وبناء الافكار، مثلا في مشهد آخر
عندما تتعرض كريستين الى حادث انقلاب سيارتها وتنقلب رأسا على عقب يقوم
الضابط بانقاذها بطريقة سوبرمانية لاتخلو من التضحية في نفسه لاخراجها قبل
انفجار السيارة جرّاء تسرب البانزين منها، لتقوم كريستين بمعانقته بقوة،
بعد ان كانت تصرخ في وجهه وهي على حافة الموت بأن يبتعد عنها كونه قد تجاوز
عليها في مرة سابقة من دون مبرر، ومن خلال معانقتها له تشعرك بمدى حاجتها
لمنقذ او حبيب وكأنها تفتقد ذلك.
ومن خلال فك شيفرة هذا الحادث نكتشف ان المخرج قد اشتغل على ثيمة اخرى لها
علاقة بذلك التوحد والعزلة التي تضرب اغلب ابطال الفيلم واحيانا كثيرة
النفس البشرية في جانب من جوانبها المعتمة والغامضة.
وقد تم تجسيد هذه الثيمة في العائلة الايرانية التي تملك محلاً للبقالة
تعيش منه وتعرضها الى خلل في باب المتجر ليقوم باستدعاء احد العاملين
اللاتينيين باصلاح القفل لكن الامر لم يجرِ بالصورة الصحيحة مما يستدعي من
الاب الايراني بالهجوم على عامل اصلاح الابواب واطلاق النار حين كانت ابنته
قد قفزت اليه لتحميه لتطيش الرصاصة الى لاشيء، كونها فارغة اصلا حين غيرت
ابنة الايراني الرصاصات الاصلية بالفارغة، لتكون الصدمة مشتركة للبطلين في
عدم تصديق موت ابنته من جراء الرصاصة وصدمت الايراني كونه قد اطلق الرصاصة
على طفلة لينسحب اللاتيني الى بيته وهو يجهش بالبكاء كون الملاك الذي يحرسه
قد انقذ الطفلة من الموت وهو على اكتاف ابنته التي تعمل طبيبة واكثر
عقلانية منه وهذه اشارة مهمة واضحة على شعور اغلب الاعراف المتواجد ورغم
تنوعها في المدن الامريكية واعلان قلقها المتواصل في عدم وجود الفة بينها.
وهناك اشارات عديدة ازدحم بها السيناريو، لتكون متداخلة احيانا ونافرة
احيانا كثيرة، مثل علاقة الضابط بأبيه الذي يعاني من مرض البروستات والكآبة
التي تلف تلك العلاقة، والحياة المليئة بالأكاذيب والمظاهر التي تسود حياة
جين قامت بالدور ساندرا بولوك وريك قام بالدور براندن فرايزر وهو مرشح
لمسؤولية ادارة المدينة، وعلاقتهما التي لاتخلو من رتابة وادعاء بعد ان
سرقت سيارتهما رغم انهما لايعيران لها اهمية حيث الزوج مشغول بعمله والزوجة
تعاني الوحدة حتى سقوطها من سلم البيت والتواء كاحلها لتنتهي في آخر الامر
بعناق خادمتها ولتعترف لها بقوة بأنها خير صديق لها في الحياة! وهذه اشارة
ثانية لطروحات النص التي تؤكد على الاحساس بالوحدة، وحتى النموذجين
الاسودين انطوني وبيتر يمارسان اعمالها البغيضة في الاتجار في الافيون
وسرقة السيارات.
اشارت عديدة وردت في الفيلم وكانت اغلبها آراء قيلت بالعرب والمهاجرين
والزنوج، خاصة ريك حين ذكر له احد مساعديه بأن يستنجد بأحد العراقيين واسمه
صدام ورفض ريك ذلك على انهم لم يزالوا يعانون من صدمة صدام فكيف به
الاستنجاد بأحد مروجي حملته الدعائية وهو يحمل اسم صدام.
وهناك حالات رفض عديدة كان السيناريو يبثها هنا وهناك على اغلب شخوص الفيلم
مثل احراق الضابط سيارته بعد ان اطلق الرصاص على الزنجي الذي تطارده الشرطة
بمن فيهم اخوه ضابط الشرطة، حيث يترك جثته على حافة احد الشوارع المعزولة
ويقوم بأحراق سيارته لتكون ملعبا للاطفال الساهرين في ليلة باردة وهم يرمون
عليها بالخشب وبعض المواد لتزداد نارها اشتعالا، حتى وجود كاميرون الزنجي
والذي عاش صدمة الضابط حين قام بتفتيشهما هو وزوجته ومواجهته البائسة لرجال
الشرطة ورفض ان ينصاع لهم الاّ بعد تدخل الضابط الشاب الذي احرق سيارته
احتجاجا على قتله ذلك الزنجي الهارب ليكون حضوره وهو يتأمل النار المشتعلة
في السيارة وكأنه يشعر بالدفء بعد يوم حافل بالبرودة والانهزامية!.
نجح المخرج كثيرا في ادارة عمله، وتوزيع كادره على عدة محاور، وبانتقال
مذهل في اصطياد مشاهد الفيلم بطريقة فذة ومنفردة، حيث جزّأ اللقطات كلاً
على جانب ورغم وجود اكثر من حدث، وكان المونتاج هائلا في متابعة متتالية
الاحداث وكأنها حدث واحد، التصوير كان بارعا في مكان واحد رغم تعدد زوايا
الاختيار في التصوير، مما يذكرنا بأعمال سينمائية اخرى مثل فيلم شورت كارت
وماغنوليا اللذين يطرحان نفس الاشكالية في تعدد المواقف والاحداث والقصص
بين واحد وآخر لكن في بناء واحد للحكاية بطريقة محكمة.
أروع المشاهد كان المشهد الاخير حين تنتهي الاحداث بعد تسليم الزنجي الثاني
الهارب. الوافدون من آسيا وهم يقبعون داخل سيارة مغلقة تم تهريبها من آسيا
حيث وقعت بيد اللصوص لتهريب البشر الى امريكا حيث يفتح لهم الباب ليخرجوا
وسط دهشتهم من الاضواء والشوارع المكتظة وامام واجهة احد المطاعم التي
تزدحم بالطعام وشرائه لهم بعض الاطعمة وانسحابه منتشيا بفعلته التي تؤكد
خلاصة من طريقة عيشه المليئة بالاجرام حيث ينتهي المشهد بارتفاع الكاميرا
تدريجيا على كادر الممثلين لتبدأ بالارتفاع رويدا رويدا الى ان تقف سيارة
لامرأة زنجية وهي تريد التسوق من متجر قريب تقوم سيارة اخرى بالاصطدام بها
من الخلف ليبدأ حوار جديد بين المرأة الزنجية وهي تخاطب العائلة التي
اصطدمت سيارتهم بها عن هل انتم امريكيون؟ وهم يؤكدون لها ذلك وهذه اشارة
ذكية من المخرج على حالة التوتر الذي يعيشه بعض الامريكيين من الاخر. بعد
ذلك تستمر الكاميرا بالارتفاع ليصبح المشهد وكأن المتحاورون من الكادر مع
الشوارع والمحال التجارية وحدود المدينة واخوانها وكانها تتلاشى مع سقوط
الوفر المتزايد ليعطي انطباعا مذهلا ان الذي يجري هو امر مفروغ منه وسوف
يحدث باستمرار، وكأن الكاميرا وهي تخفي معالم كل تلك الاحداث تشبه الى حد
بعيد ان هناك عينا اخرى تسجل وقائع اخرى في مكان آخر من المدينة التي
يغطيها البرد والوفر المتساقط بهدوء على انغام موسيقى كانت هادئة على الرغم
من صخب الاحداث التي مرت على اغلب ابطال الواقعة.
سبق للمخرج والمؤلف بول هاكيسن ان كتب نصا سينمائيا لفت الانتباه بعنوان
واحد مليون دولار يا صغيري الذي اخرجه الممثل كلينت ايستوود. حصد الفيلم
ثلاثة جوائز اوسكار كأحصل فيلم وافضل مونتاج وافضل سيناريو عام 2005.
الإتحاد العراقية في
14/03/2010
فيلم «مهما أرادت لولا» للمخرج المغربيّ نبيل
عيّوش
الرقصُ
الشرقيّ وسيلة استشراقيّة معاصر
هيثم
حسين
حين كتب المفكّر الراحل إدوارد سعيد مقاله عن
الراقصة الشهيرة تحية كاريوكا، بعد أن قابلها في القاهرة 1989، تباينت
المواقف والرؤى حيال ذلك، استهجن البعض أن يكتب مفكّر بثقل وحجم إدوارد
سعيد عن راقصة شعبية مثل تحية كاريوكا، لا دور لها في الثقافة. صنّف آخرون
اهتمام سعيد بالإرضاء، وهو البعيد عن ذلك البعد كلّه. لكنّ إدوارد سعيد كان
يعلم ويدرك أبعاد الدور الحقيقيّ الذي تقوم به راقصة شهيرة .
وما يمكن أن تقوم به، وقال بأنّه يكتب عن رمز من رموز الفنّ والتسلية
الشعبية التي كان لها دور في الحياة الفنية العربيّة، إذ أنّه ركّز من خلال
تأكيده على لغة الجسد على أنّ للجسد المغوي سطوة، وسلطة، لا تقلّ عن أيّة
سلطة أحياناً، ولاسيّما بعد معرفة التأثير الذي كانت تخلّفه رقصات تحيّة
كاريوكا في النفوس، وتشعّب دورها من مسرح الرقص إلى مسرح الحياة، ولم يكن
اهتمام سعيد الصادم براقصة شرقيّة وليد مصادفة، لأنّه كان من مُعجبيها في
مراهقته، ولأنّ الرقص الشرقيّ يعدّ وسيلة ذات مفعول مزدوج، من الوسائل التي
يمكن النيل بها من الشرق وتقزيمه، أو من الوسائل التي يمكن عبرها تعظيم
الشرق، وذلك عندما ينظر إليه على أنّه وسيلة للترفيه فقط، لا يمتّ إلى
الفنّ بصلة، ولا يشكّل إرثاً حضاريّاً، يمكن الاستفادة منه.. لا يخفى ما
يلعبه الرقص من دور هامّ في الحياة، في حياة مَن يتجاهلون تأثيره، ومَن
يفصحون عنه، في الوقت نفسه. وقد جرت العادة أن يكون الرقص الشرقيّ
إكسسواراً في الحفلات، مُتغاضىً عن دوره، على الرغم من تهافت العيون على
نهش جسد الراقصة، وتفحّص كلّ ثنياته وتمايلاته. ومع انتشاره في العالم، لم
يعد شرقيّاً خالصاً، بل ظلّ ملتصقاً بالشرق كميزة، ما يدفع الكثيرات إلى
اللجوء إلى الشرق رغبة في تعلّم الرقص الشرقيّ في موطنه، والاستفادة من
خبرة الراقصات الشرقيّات.. عبر التركيز على هذه العلاقة، التي تتضمّن رغبة
الغرب في التلاقح مع الشرق، وإن كان عن طريق وسيلة فنّيّة، ينطلق فيلم «ما
تريده لولا» للمخرج المغربيّ نبيل عيّوش، بطولة «لورا رامسي، كارمن لبّس»،
محاولاً أن يقدّم الاستشراق بصورته المعكوسة الإيجابيّة، الشرق الجاذب
لفضول الغربيّين، الشرق الساحر، الشرق المَركز، الشرق المؤثّر، لا ذلك
الشرق المتخلّف الذي ينتظر الغرب لينقذه من كوارثه، ولا لاتّخاذ الاستشراق
وسيلة للسيطرة والتغلغل..
- حكاية لولا:
يصوّر الفيلم قصّة «لولا» وهي فتاة أمريكيّة مولعة بالرقص الشرقيّ، تترك
عملها كساعية للبريد، لتلتحق بصديقها المصريّ الذي تعرّفت إليه في نيويورك،
ونشأت بينهما قصّة حبّ لم تدم طويلاً، لأنّ الشابّ أدرك أنّها لن تتخلّى عن
ولعها بالرقص، وهو لا يستطيع انتظارها سنوات طويلة كي يؤسّس عائلة. يعود
الشابّ الذي ينهي دراسته في نيويورك إلى مصر. وعندما تكتشف لولا سفره،
تقرّر اللحاق به، تبيع مقتنياتها كلّها لتتمكّن من قطع تذكرة الطائرة، تذهب
إلى بيته، تستقبلها أمّه بالترحاب، وعندما يأتي الشابّ مساءً، يتفاجأ بها،
يصدّها عندما تحاول الارتماء في أحضانه وتقبيله، ثمّ يحاول مداراة الموقف،
يأخذها إلى الفندق، يبقى معها ليلة، ثمّ يطلب منها أن تعود إلى نيويورك،
يتحدّث لها عن الاختلاف الصادم بين البلدين، يروي لها التنافر في
السلوكيّات، والمعايير التي يتمّ بها الحكم على المرء، لكنّها لا تقتنع
بكلامه، ترمي إليه بالنقود التي يتركها لها، كما ترمي بتذكرة الطائرة التي
حجزها لها، ترفض أن تكون ساقطته، تقرّر البحث عن حلمها، الذي يتجسّد في
تعلّم الرقص الشرقيّ في موطنه الأصليّ، ومن راقصة تعرّفت إلى رقصها العجيب
الذي أذهب عقلها، وذلك عند صديقها المصريّ الآخر في نيويورك، حينذاك كانت
قد قرّرت تعلّم الرقص الشرقيّ على يدي تلك الراقصة «أسمهان»، التي تجسّد
دورها الفنّانة اللبنانيّة كارمن لبّس التي أبدعت وبرعت في الدور، ولحين
الاستدلال عليها تتسلّى بالرقص في ملهى ليليّ، ثمّ تبحث عن أسمهان التي
تكون قد اعتزلت الرقص وابتعدت عن الأضواء، بعدما التقطت لها صورة مع أحدهم
وهي في وضع شائن، فكانت أن وُصفت بالمنحلّة والخائنة، وتعرّضت للتهميش
والإقصاء، وظلّت مصدر الشؤم والسوء والخيانة. ترفض أسمهان بداية تعليم
لولا، لكنّها تتراجع أمام إلحاحها، ثمّ لا تلبث أن تتعاطف معها، بعدما
تعيدها لولا شيئاً فشيئاً إلى الواقع، حتّى تنجح في إزالة الستار الأسود
بينها وبين المجتمع، فتوصل إليها تحيّات بعض الأصدقاء، وثنائهم عليها، كما
تكون صلة الوصل بينها وبين العالم الخارجيّ، الذي يقدّر فنّ أسمهان، لكنّه
يبالغ في النيل منها على سلوكها الطائش الذي قامت به..
بعد عدّة دروس، تتطوّر لولا بسرعة مذهلة، يكتشفها مدير فرقة رقص «ناصر
راضي» الذي يحاول جذبها إلى فرقته، تصدّه بداية خشية من أنّ يكون مبيّتاً
التحرّش بها، لكنّها تفرح عندما تكتشف أنّه يقول الحقيقة، يتفاجأ بطلبه
منها أن ترقص في حفلة زفاف أحد أبناء المشاهير في مصر، وعندما تقول لولا
لأسمهان ذلك، ينتاب أسمهان شيء من عدم الرضى، تحدّثها قليلاً عن ناصر، ثمّ
تترك لها حرّيّة الاختيار والقرار، تخرج لولا إثر ذلك من عندها محبطة
قليلاً، لكنّ العجوز الذي يعمل في بيت أسمهان، يخبرها بأنّ ناصر رجل شريف،
وبأنّه إذا قال لها بأنّها ستبرع فإنّ ذلك يعني بأنّها ستبرع بالفعل. كما
يحدّثها العجوز عن أسمهان وبراعتها في الرقص، يروي لها بعض الحكَم والعبَر،
وفي يوم الزفاف، تطلب أسمهان من لولا الاستعجال لشراء ثوب الرقص، تكون فرحة
لولا كبيرة، تصرّ على أسمهان التسوّق معها وانتقاء الفستان لها، تتراجع
أسمهان أما إصرارها وإصرار العجوز وابنتها، وعندما تختار لها فستاناً
مناسباً، تساوم البائع على ثمنه، يخفّض البائع لها في السعر، ويهديها
فستاناً آخر، تقديراً منه لها، واعترافاً باستثنائيّتها، ما يعيد إليها
ثقتها بنفسها، ويفسح لها مجالاً لتعيد ترتيب علاقاتها واندماجها مع
واقعها..
تنجح لولا نجاحاً منقطع النظير في إحياء الحفلة، يحتلّ اسمها الصفحات
الأولى من الصحف، تغدو الراقصة الشرقيّة الأشهر في مصر، ترقص في أشهر
الفنادق، تحقّق حلمها في تعلّم الرقص الشرقيّ وإجادته، ثمّ تقرّر، بعد
تحقيقها لحلمها، أن تعود إلى ديارها، وفي الحفلة الأخيرة لها، توجّه تحيّة
خاصّة إلى مَن تعتبرها رمزاً من رموز مصر، الراقصة الشرقيّة أسمهان، لكنّ
تحيّتها تقابَل بداية بالصمت الذي يقطعه تصفيق ناصر راضي الذي يعشق أسمهان،
ولا يكلّ من إرسال الرسائل إليها، لتتبعه موجة من التصفيق.. تكون أسمهان
حاضرة في الحفلة، تراقب ٍ، تسارع بالخروج بعدما تهديها لولا نجاحها، يتبعها
ناصر لكنّه لا يتمكّن من اللحاق بها، لينجح فيما بعد بالتقرّب منها، بعدما
تفتح رسائله الكثيرة، وبعدما تفتح له باب بيتها، وباب قلبها الذي أوصدته في
وجه الحبّ، ردّاً على العنف الذي واجهها به العالم عندما أحبّت..
تكرّر لولا مثلاً كان قد علّمها إيّاه صديقها «زكريا عاكف»، وهو المثل
المقتطع من بيت شعر للمتنبّي: «ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه/ تجري الرياح
بما لا تشتهي السفن». ليغدو المثل المقتطع، الذي يغيّر المعنى برمّته: «كلّ
ما يتمنّى المرء يدركه»، لولا تتمنّى أن تبرع في الرقص، فتدركه، بالتعب
والجهد والعناد والسفر على الرغم من المصاعب كلّها.. تكون مأخوذة بالرقص
الشرقيّ، تعتبره درّة شرقيّة، تصل إلى درجة الطرب فيه، تلك الدرجة التي
تنسى نفسها، تترك جسدها يتحرّك على إيقاع روحها، تفسح المجال لقواها
الداخليّة بأن تستمتع بالطرب، وتطرب له.. حيث تبلغ درجة من السموّ الروحيّ،
يتطهّر فيها الجسد من مادّيّته..
-الرقصُ نقطة تلاقٍ بين الشرق والغرب:
يحاول الفيلم أن يرصد العلاقات المتشابكة التي تربط الولايات المتّحدة
بالعالم العربيّ، من خلال وسيلة فنّيّة، تكون نقطة اتّفاق وتلاقٍ بين
الجميع، لا خلاف عليها، يُؤثر عدم الخوض في القضايا الإشكاليّة الكثيرة،
وعلى الرغم من أنّه يقع في مطبّ البحث عن مصالحة واجبة، لا تكون بتلك
البساطة التي يقترحها، لكنّه يبقى مقترحاً جماليّاً، واجتهاداً
سينمائيّاً..
يخرج فيلم «مهما أرادت لولا» الرقص الشرقيّ من تلك الغرف المغلقة، ومن تلك
الأقبية التي تحتكره من خلال الاعتماد على الأضواء الخافتة، التي تفضح
الأجواء، وتفصح عن النيّات، وتوحي بأنّ هناك ما يقترف في «أتونها»، وفي
غضون تلك الفترة التي يختلسها الساهر من نفسه، أو يتحايل بها على بعضٍ ممّن
قد يلومونه في ذلك، ليعمّم المستور، ويكشف عن المخبوء.. يأتي الفيلم، ليزيح
النقاب عن بعض تلك الأسرار التي تغلّف الرقص الشرقيّ، وتبقيه طيّ الكتمان،
بحيث تضفي عليه هالة من الاستجنان، وعلى الأجواء المصاحبة له حالاتٍ
وهالاتٍ من الصخب الممتع الذي يُتغزَّل به.. أي يعلن حديث السرّ، ولا
يتكتّم عليه، مع بعض المبالغة في ردود الفعل إزاء الراقصة «أسمهان»، وهذا
يعتبر في العرف المتّبَع خروجاً على المألوف، خاصّة، أنّ الثقافة العربيّة
تحاول في كثير من الأحيان الالتفاف على التسميات بعدم التصريح بها، بل
الاكتفاء بالإيماء إليها أو الإيحاء بها..
يبتعد الفيلم عن فكرة تسويق الجسد أو تسليعه، بل يحاول ردّ الاعتبار إليه،
يوصل رسالة تقول إنّه لا بدّ من الإقرار أنّ الرقص الشرقيّ يسكن كلّ بيت،
ويستصدر القرار في كثير من الأماكن. كما يمكن القول إنّ الفيلم يخاطب
الدواخل، يثير المكنونات، يثوّر الرغبات التي يستحيل إشباعها، لا بالنظر من
دون حذر، ولا بالجهر من دون تكتّم.. حيث الانثناء والانحناء والتطاير يغزو
العيون ويدخل المستقرّ.. لم يأبه صنّاع الفيلم، لتلك المقولات التي تبقي
الشرق رهينَ الرقص ومجالس الأنس، ولا أسير عوالم ألف ليلة وليلة، بل خالفوا
القول، خلطوا الشرقيّات بالغربيّات، فكانت اللوحات الساحرة المؤدّاة، التي
تصرّح أنّ الرقصَ امتياز شرقيّ مفتخَر به، كما يغدو الرقصُ الشرقيّ وسيلة
استشراقيّة معاصرة، تقرّب، وتحبّب، لا تنفّر أو تكرّه.. ولولا الدور الهامّ
الذي يلعبه الرقص في حيواتنا، لما توقّف إدوارد سعيد عند تحية كاريوكا وكتب
عنها ما كتبه.. ناقداً وكاسراً الادّعاءات الاستشراقيّة التي حاولت أن تبقي
الشرق بتلك الصورة المقوْلَبة التي يريدها الآخرون عنه..
الإتحاد العراقية في
14/03/2010 |