من بين مئات الأفلام التي شاهدتُها
خلال العام 2009، أكان ذلك في الصالات الباريسية، مهرجانات السينما
المحلية،
والعالمية، أو المُشاهدات المنزلية،.. فإنه من المُجحف بحقّ الإبداع
السينمائي
المُتنوع الأساليب، والاتجاهات اختيار أفضل فيلمٍ من بينها.
بالنسبة لي، كلّ
واحدٍ منها يمتلك جمالياته الشكلية، والمضمونية، يمنح المُتفرج متعة خاصة،
يُحرض
مخيلته، ويُثير أحاسيسه.
ولن أتحايل على نفسي للمُفاضلة بين " Antichrist"
لمُخرجه "لارس فون ترير"، و"
Inglourious Basterds"
لمُخرجه "كانتاين
تارانتينو"،..
ولن يكون الأمر بسيطاً في التفضيل مابين "نصّ مللي غرام نيكوتين"
لمُخرجه السوريّ "محمد عبد العزيز"، و"واحد صفر" لمُخرجته المصرية "كاملة
أبو
ذكرى"،...
أو "كما قال الشاعر" لمُخرجه الفلسطينيّ "نصري حجاج"، و"محارم، محارم"
لمُخرجه السوريّ "محمد ملص"،..
أمام هذه المُعضلة التي لا أرغب التورّط فيها،
فإنني سوف أذهب بعيداً إلى أقصى حدود الاختلاف، و"الاستفزاز"، كما فعلتُ
يوماً مع "السينما
التجريبية"، ومهدتُ لها في الثقافة السينمائية العربية حتى تسللت بهدوءٍ
إلى الذائقة ـ النخبوية على الأقلّ ـ، ومن ثمّ المهرجانات
.
وبنفس العناد،
أرفعُ اليوم راية "السينما الهندية" التي يعشقها الملايين، ويتماهون مع
حكاياتها،
ويعتبرون أبطالها أنصاف آلهة.
بالمُقابل، وانطلاقاً من أحكامٍ مُتسرعة، أو
مُتعالية، ومشاهداتٍ قليلة جداً لإنتاج هذه السينما المُتعددة اللغات،
والثقافات،
ينعتها ملايين أخرى بنمطية قصصها، وميلودراميتها.
فيما يخصّني، كنتُ أذهب إلى السينما ـ حتى إدمانها ـ بهدف العيش في عوالم
الأحلام، والخيال، وكانت تشدّني، بالتحديد، البطولات الملحمية
التي يُجسّدها هرقل،
ماشستي، وشمشون الجبار،.. والأفلام الكوميدية، الاجتماعية، والعاطفية، مثل:
الخطايا، أفلام إسماعيل ياسين، إحنا
التلامذة،..وكلّ الأفلام التي كان يُشارك في
بطولتها ثلاثة من نجوم السينما المصرية أيام زمان، ..وبالطبع،
الكوميديا الموسيقية،
وميلودرات السينما الهندية، مثل : " Sangam"
لمُخرجه "راج كابور"،
" Junglee"
لمُخرجه " Subodh Mukherjee"، و" An Evening In Paris:
لمخرجه " Shakti Samanta"،
...قبل أن أتحوّل تدريجياً إلى أفلام فلليني، أنطونيوني، غودار، تروفو،..
وأتباهى
بثقافتي السينمائية الجادة، ومن ثمّ إقامتي في باريس، واكتشافي للسينما
التجريبية،
أساليبها، جمالياتها، اتجاهاتها، وتياراتها، واستمتاعي النخبويّ بالأفلام
المحروقة،
المثقوبة، الخطوط الهندسية، الصور المُنشطرة، والأصوات المُغايرة للصورة،
..
والعودة من جديدٍ إلى الأفلام الهندية، الكاوبويّ، الرعب، والمُغامرات،...
عودةٌ "ما
بعد حداثية" إنّ صحّ التعبير.
طوعياً، وباقتناعٍ، تخطت السينما الفكرة
العقيمة التي يمضغها النقد السينمائيّ العربي، ويجعلها "انعكاساً
للواقع"،...ولم
تعدّ تلك الأفلام التي يُقال عنها مُلتزمة، وجادّة تشغلني كثيراً، وفقدَ
هذا
التصنيف "النضاليّ" معناه.
بالنسبة لي، لا يوجد فيلمٌ جيدٌ، وآخرٌ سيئٌ بشكلٍ
مطلق، ولم يكن الجمهور كتلة واحدة، ولن يكون، ومن واجبنا احترام تعددية
أذواقه،
والكفّ عن ازدرائه، والتعالي عليه، وما هو سخيفٌ اليوم من وجهة نظر النقد
السينمائيّ، رُبما يصبح غداً من كلاسيكيات السينما، وهو السبب
الذي يجعلنا نشاهد
بكثيرٍ من الابتهاج، والمُتعة السينما المصرية أيام "الأبيض، والأسود"،
بغضّ النظر
عن مستوياتها النوعية، كما يتعيّن علينا بأن لا نعتبر "تجارية الفيلم"
نعتاً
تحقيرياً، لقد كان اختراع "السينما توغراف" مشروعاً تجارياً للفرنسييّن
"الأخوين
لوميير" حققا منه ثروةً طائلة، وبالتوازي، أضاف إليها الفرنسيّ "جورج
ميليّيس"
جانباً فنياً إبداعياً، واستخدمها وسيلة للفرجة، والتسلية، ورحل عن هذا
العالم
مُفلساً.
ولهذه الأسباب، سوف أتوقف اليوم عند فيلم "Saawariya" (من إنتاج عام
2007
الذي عُُرض في باريس بتاريخ 29 يوليو 2009).
ووُفق المعلومات الواردة في
الموقع الرسميّ للفيلم،
" Saawariya"
تعني "المحبوب"، ويمكن أن ينطبق هذا التوصيف
على علاقة مُعتنقي الهندوسية بالإله "كريشننا"، وعلى صعيدٍ
أكثر تسامياً، تشير إلى
"الحبيب" الذي يعيش حالة حبٍ دائمة، ويتحمّل اختبارات الزمن، ويصمد
أمام كلّ
العقبات.
أحداث الفيلم مُستوحاة من قصةٍ بعنوان "ليالي بيضاء" للكاتب الروسيّ
"
فيدور ديستويفسكي" منحها
(Sanjay Leela Bhansali)
بعداً جغرافياً عالمياً من خلال
ديكوراتٍ مسرحية تخيّرها مزيجاً من أماكن مشهورة في عواصم عالمية.
راج (Ranbir Kapoor)،
شاعرٌ جوّال، ومغني حالم، ذات يومٍ يصل إلى إحدى
المدن، ويبدأ العمل مغنياً في ملهى فاخر تديره غولابجي
(Rani Mukherji)
واحدةٌ من
عاهرات أحد الأحياء الساخنة، ويقيم في فندق السيدة ليليان
(Zhora Seghal)
التي سوف
تُعامله مثل ابنها.
في إحدى الليالي المُقمرة، يلتقي بسكينة
(Sonam Kapoor)،
ويذوب عشقاً في غرامها، شابةٌ غريبة الأطوار، كانت تقف في منتصف الليل فوق
جسرٍ
يقسم المدينة منتظرةً حبيبها إيمان
(Salman Khan)
الذي وعدها بأنه سوف يعود في ليلة
العيد، ولهذا لن تستطيع مبادلة "راج" أكثر من الصداقة.
هناك أكثر من سببٍ
يُفسّر الإشارة إلى هذا الفيلم :
اكتشافي المُتجدّد للسينما(ت) الهندية(تاء الجمع مقصودة)، وفهمي لآليات
إنتاجها
التي تتوافق تماماً مع هدف السينما الجوهريّ : الفرجة.
الفيلم ساحرٌ في كلّ
تفاصيله الجمالية، صورةً، وصوتاً، وحتى حكايته التي تحيد قليلاً عن
المسارات
الحكائيّة في السينما الهندية.
عناصر الصورة المُزخرفة بدقةٍ متناهية، تطغى
عليها الألوان الزرقاء في تناغمٍ مُذهلٍ مع الملابس، وألوانها.
تؤكد الإضاءة
الليلية المُوزعة في الأمكنة الجانب الحلميّ للأحداث المُتداخلة في
أزمنتها،
وتجعلها مزيجاً من حكايات "ألف ليلة، وليلة"، والزمن الحاضر .
التأكيد على فكرة
التسامح الاجتماعي، والديني، التيمة/الهاجس الكبير للسينما الهندية.
تجسيد حالة
فريدة من الحبّ الذي لا يكون حصراً من نصيب الشخصية الرئيسية، حيث تتخير
"سكينة"
حبيبها "إيمان" المُسلم، الغريب الهائم في أرجاء الدنيا.
يبتعد الفيلم عن "بكائيات"
السينما الهندية، ويمنح الشخصيات الثلاث (سكينة، راج، وإيمان) أبعاداً
إنسانية تُوازن مابين العقل، والعاطفة.
يمنح السيناريو صورةً إيجابية مختلفة
لشخصية العاهرة (كما قدمها المخرج نفسه في فيلمه
"Devdas"
عام2002).
يُبهجنا
الفيلم بموسيقاه، واستعراضاته الغنائية الراقصة.
تألق مفردات البناء السينمائي
للفيلم: حركـات الكاميرا، الإيقاع، الألوان، الملابس، الديكور، الإضاءة،...
ومع
أنّ بطلات السينما الهندية يتمتعن بجمالٍ خارق، لا يمكن نسيان
" Sonam Kapoor"
الذي
تمهل الله في خلقها.
باختصار،
" Saawariya"،
فيلمٌ ساحرٌ في جماله، إنسانيّ في
أحداثه، مُدهشٌ في بنائه السينمائي، أتحفنا به "Sanjay Leela Bhansali"، واحدٌ من
مبدعي السينما الهندية المُعاصرة، وبفضل فيلمه الخارق " Devdas"
الذي عُرض في
مهرجان كان عام 2002 نبّه العالم إلى ثراء، وتعددية، وتنوع السينما
الهندية
"الجماهيرية".
الجزيرة الوثائقية في
07/03/2010 |