يدرك المتابع للقنوات الفضائية العربية في ذكرى مولد سيدنا الهادي
محمد صلى الله عليه وسلم المأزق الذي تعيشه هذه القنوات كي تملأ ساعات بثها
في ذلك اليوم (الذكرى) بالمنتجات الفنية التي تصلح له، وتناسبه، وتتصيد
جمهورها به، ولن نقول هذه المرة تليق به، فأعمال من هذا النوع (اللائق) كما
نتمنى معدومة إلا في أضيق الحدود.
تلك الذكرى كانت تمر قبل سنوات قليلة باحتفالات "مسجدية" والسلام،
تنقل عبر التلفزة الرسمية، يحضرها الملك أو الرئيس مع جوقة تضم كادر وزارة
الأوقاف والشئون الدينية وفريقا للإنشاد والابتهال الديني يرافق ذلك خطبة
عصماء عن قداسة هذه الذكرى المباركة.
كان يكتفى بهذا القدر في قنوات رسمية كانت تنفرد وتتفرد بالإطلالة
التلفزيونية على جمهور دوما ما غيب عنه الشأن الديني، وحتى حينما يحضر فإنه
يكون بـ"القطارة" على شكل برنامج ديني أسبوعي أو احتفالية يتيمة وفقيرة
وفلكلورية بهذه المناسبة أو تلك.
اليوم اختلف الأمر وانقلب، أو هكذا يفترض، اختلفت القنوات وتكاثرت لحد
العشوائية، ومعها تغير مزاج الجمهور، وأصبح التدين مشهدا ينمو باضطراد
وأصبحت الحاجة لأعمال دينية أمرا ملحا وهاما ومركزيا، وتحديدا في مناسبة
كميلاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحد يحوز على مكانته المركزية
في ضمير ووجدان هذه الأمة التي لا تكتسب معنى إلا انطلاقا منه ولا تمنح
قيمة إلا بالنظر إلى رسالته العالمية.
إذن.. أصبحت هناك مئات القنوات الفضائية، العشرات منها إسلامية
والمئات منها عامة تغازل الجمهور في مناسباته الدينية حتى لو لم يكن لها أي
علاقة بالدين (هذا إن لم تكن تهاجمه وتقدم ما يخالفه ويهدمه).
ومادام المشهد على هذا النحو فسيكون السؤال: ماذا تقدم هذه الفضائيات
في هذا اليوم؟
على مذبح المناسبة
سيبدو السؤال السابق فاتحا بابا للخوض في مأزق تعيشه هذه القنوت التي
لا تجد إلا مجموعة قليلة من الأعمال الدرامية أو الفنية التي تتناول هذه
المناسبة، غير أن جلها لا يصلح للعرض إلا من باب التندر عليه وكشف عيوبه
ونقاط ضعفه، اللهم باستثناء عمل واحد يتيم وهو "الرسالة" (1976) للمخرج
السوري الراحل مصطفى العقاد الذي ما زال يأسر المشاهدين رغم تكرار مرات
العرض والمشاهدة تباعا.
وأمام عدم وجود أعمال منجزة قديمة تليق بالمناسبة أو جديدة تقدم
لجمهور متحفز ومنتظر وخبر العمل الفني الجيد، والغث من الرديء، أصبحت تخرج
الأعمال الفنية التي تتعاطى مع رحلة سيدنا محمد وسير رسالته من الأدراج
فينكشف ومن المشاهد الأولى لها عورها وخطاياها مثل فيلم "هجرة الرسول" الذي
عرضته بعض القنوات مؤخرا.
جاء الفيلم مستفزا وحافلا بالضعف ومحتفيا بالركاكة والسذاجة على
أصولها، وهو عمل لو كان هناك من تقييم فني له لكان القرار أن يجمع من
القنوات ويوضع في الأدراج ويدمغ بكلمات "لا يصلح للعرض".
أعمال فنية في غاية السوء أصبحت تقدم على مذبح المناسبة التي هي منها
براء، فالأخير (أي هجرة الرسول) على سبيل المثال لا الحصر في غاية السوء من
حيث جميع مفرداته الفنية، وحسبنا نتحدث هنا عن الشخصيات الكاريكاتيرية التي
قدمها (لا نقول رسمها) سواء للكفار أو المسلمين، فهو يسرف في تخيل صورة
قريش قبل الإسلام فيستعرضها مليئة بالرقص والمجون والفسوق والجنس.. إلخ.
ينمط الكفار جميعهم، كأنه يريد أن يكرهنا على كره أمثال: أبو سفيان وأبو
جهل وأبو الحكم...إلخ من خلال "شواربهم المعقوفة"، وصدورهم العارية
المشعرة، وأصواتهم القبيحة المخيفة وحقدهم الأعمى الذي يقطر دما... إلخ.
سنضحك، كمشاهدين كثيرا عندما نرى تلك الأشكال من الكفار ومن طريقة
كلامهم وجملهم التي يرددونها والتي تحولت لاحقا إلى إفيهات يستخدمها الشباب
في أحاديثهم الشقية وفي بعض الأعمال الكوميدية، ذات الأمر انعكس على شخصيات
المسلمين الذين بدوا ضعفاء جميعهم ومنكوشي الرءوس وبحركات بلهاء وأصوات
هامسة ومستسلمة.. إلخ دون ذلك الوهج النوراني الذي نراه يظهر في أبطال
رائعة العقاد.
وبينما فضلت قنوات أخرى عرضه فإن بعضها لم يعرضه إلا من سنوات ثلاث
(كالقنوات المصرية مثلا) وذلك بعد 34 عاما على إنتاجه، رغم أنه الفيلم
الوحيد الذي يستحق العرض من مجمل الأعمال الفنية التي أنتجت لغاية اللحظة.
ذلك الفيلم الذي يعد بمثابة معركة حضارية مليئة بأحاسيس الاعتداد
بالنفس وأصالتها، ويجمع بين الأمانة والموضوعية والجمالية المشهدية في رقة
وحميمية، إضافة إلى العمق في مادته العلمية والتاريخية.
هذا العمل اليتيم عندما نراه اليوم يدين أطرافا عديدة منها القنوات
الفضائية والدول والمنتجين والفقهاء والشيوخ وكل من لهم علاقة بقضية كهذه،
ويطرح أسئلة من نوع: لماذا يحرم جموع المشاهدين من أعمال فنية مبدعة تجتهد
في استعراض مقاطع من سيرة نبينا محمد صلى الله وسلم وتغور عميقا فيه وتسقط
من خلاله على واقعنا وحالتنا الإسلامية الراهنة؟
فلم نر معالجات فنية تأخذ من وهج رحلة سيدنا محمد وما تلاها من مراحل
لتضعنا مع ذلك الماضي، فكيف والطلب منها أن تسقط بعودتها للماضي على واقعنا
اليوم الذي أصبحنا فيه مطالبين بالدفاع عن نبينا من تهم الإرهاب والعنف..
إلخ.
طموح عشوائي
فمع كل احتفال بمولد سيد البشر أصبحنا نستحضر المطالبة بإنتاجات
سينمائية تقدم رسولنا الكريم، وهو جزء من مأزقنا الحالي المتمثل في أن
الغرب الذي يحضر في كل تفاصيل حياتنا يرى فينا إرهابيين وقتلة وهو ما انعكس
على نبينا محمد الذي أصبح موضوعا لمعارك وصراعات دينية لا يبدو أن لها آخرا
حتى اللحظة.
الكارثة هنا هي بساطتنا وسذاجتنا التي تبدو وتتجلى في كثير من البرامج
الحوارية التي استضافت من لهم علاقة وارتباط بالمنتجات السينمائية والفنية
المختلفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو من عرف لهم باهتمام بالأعمال
الدينية والتاريخية للحكي عن مواقفهم ورؤاهم حيث بدا كأن فيلما سينمائيا عن
الرسول صلى الله عليه وسلم سيكفينا شر "القتال" والنهوض وتغيير أنفسنا.
فالمنتجات المرتقبة ذات الميزانيات المفتوحة ينظر إليها كأنها الحل
السحري لتغيير نظرة الغرب إلينا أو أنها ستلعب دورا جوهريا في تقديم نبي
الإنسانية إلى ما يفترض أنهم أعداء الإنسانية!!
الأمر في حقيقته لا يتوقف على عمل فني موجه نصطف خلفه بكل أمانينا،
وكأن هذا الغرب كله يقف على قدم واحدة منتظرا فيلما سيشاهده ليقبل على
الإسلام ويعترف بتسامحنا وعظمة رسالة نبينا.
إنه طموح ارتجالي لن يحقق ما نطمح إليه، إنه طموح عشوائي تماما كوصف
"فلتة" الذي قالته إحدى الفنانات المعتزلات عن النبي صلى الله عليه وسلم في
أحد البرامج التلفزيونية.
"فلتة".. هكذا نطقتها الفنانة المدافعة عن نبينا بشعبية تلائم طريقة
تفكيرنا تماما.
ناقد فني ومحرر في النطاق الثقافي والفني في شبكة
إسلام اون لاين.
إسلام أنلاين في
28/02/2010 |