السينما من وجهة نظر المخرج السينمائي العالمي بير باولو بازوليني هي
فن شعري بحت وليس فنا نثريا او حكائيا، وشعرية السينما تأتي من خلال التعمق
في الواقع والحقائق الانسانية وليس التزييف او تصوير الواقع بشكل سطحي
ساذج، من خلال هذا الموضوع سنحاول الغوص في الأسلوب الشعري الاخراجي
لبازوليني عبر التمعن في استخدماته للالوان باعتبارها دلالات واستعارات
وليس بهرجة زائفة.
يميل بازوليني في اغلب افلامه الى استخدام لون الارض وهو لديه الاقرب
للون بشرة الجسد الانساني ولديه حب ونزعة للون التراب لذلك لا يخلو اي فيلم
من افلامه من استعراض للبيوت الطينية والتي تظهر وكأنها امتداد للارض
والانسان جزء من هذه الارض كونه مخلوقا ترابيا يتحرك على هذا التراب ويسكن
بداخله اي انه يربط بين الانسان ومصيره ومستقبله بمصير ومستقبل الارض ويوجه
رسائل بطرق غير مباشرة لنقد عنف الانسان وقسوته والدمار الذي يمارسه ضد
الارض بسبب الحروب الكارثية كما نجد ذلك في فيلمه "ميديا" حيث النهاية
المفزعة عندما تقوم ميديا بحرق بيتها وحرق اطفالها انتقاما من جشع زوجها
وماديته وميكافليته والذي لم يقدر تضحيتها بان تركت اهلها وتعاونت معه في
سرقة الكنوز والرمز الديني لقومها وتخلت عن الدين والالهة في سبيل الحب
ولكن الزوج تخلى عنها للزواج بالاميرة من اجل ان يكون ملكا، والنهاية هي
استعارة لفظاعة الحروب وخاصة الدمار الذي حل بالعالم بسبب القنبلة الذرية.
في بداية هذا الفيلم نشاهد مشهدا رائعا طويلا حيث تشرف ميديا على طقس
ديني للتضحية بشاب وتقطيع جسده وتوزيع هذا الجسد والدم على اجزاء من الارض
القاحلة، هنا نرى فعلا قاسيا وبربريا ولكن كون موت فرد يعني حياة امة وارض
فهو فعل مقدس ويكشف ايضا عن قسوة الالهة ونرى الجميع يشترك في هذا الحفل
المقدس حتى الاطفال والنساء يقومون بأخذ اجزاء من الجسد لدفنها بأماكن
متفرقة وطلاء بعض اوراق الاشجار بدم الضحية، كثيرا ما يربط بازوليني اللون
الاحمر بلون الارض، ولهذا الربط دلالات متعددة اسطورية ودينية والغرض ليس
مجرد استذكار لبعض الأساطير او توثيق لها بل يحاول المخرج التعمق في
الاسطورة وسردها من وجهة نظره الذاتية لخلق عالم ميتافيزيقي يمتزج فيه
الرعب والالم مع الحلم واللذة.
يحرص بازوليني في معظم افلامه على استخدام اللقطات الطويلة ليعطي لكل
متفرج فرصة اختيار وجهة نظره وكثيرا ما تستعرض الكاميرا بلقطات بانوراما
للوجوه والمباني وهذا الاستخدام ايضا لخلق اسلوب فني تشكيلي، ففي فيلم
"اوديب ملكا" مثلا نجد المجاميع التي تهلل فرحا بموت الوحش الذي هدد
مدينتهم نجدهم يتحركون بعدة اتجاهات خطوط مستقيمة ومتعرجة ونجد تحركا
للالوان المتعددة، ويقوم بازوليني بخلق لوحات تشكيلية مدهشة بالمزج بين هذه
الالوان ونجده يحرص على التنوع في الملابس واستخدام قبعات واقنعة غريبة كما
في فيلمه عن المسيح وفيلم ميديا واوديب وغيرها، وهو يعشق الشرق لثرائه
اللوني وصور معظم افلامه في الشرق مثل اليمن والهند وايران والمغرب العربي
وسوريا والنيبال وافريقيا ولا يقتصر المخرج على تصوير الثراء اللوني ومفاتن
الطبيعة والجغرافيا بل يحاول دائما التعمق في الروح الانسانية باعتبار ان
الشرق ما زال يحتفظ بثرائه وغنى روحي وانساني و ليس مثل الغرب الذي دمرته
الماديات وأفقدته الاحساس بالعالم الميتافيزيقي وروعته الالوان الاكثر
استخداما في معظم افلام بازوليني هي اللون الاسود والرمادي والابيض والاحمر
ثم الاخضر والازرق. ويخلق من التمازج والصراعات من خلال الالوان ليغوص بنا
الى عالم مفزع او حالم بطرق ذكية وغير مباشرة كونه يعتمد اسلوبا فريدا هو
الجدل الذاتي الحر غير المباشر ويجعل شخصياته هي من يرى الاشياء ونحن نرى
الاشياء والطبيعة والاحداث من وجهة نظر هذه الشخصيات. ويتعمد احيانا
التشويش على رؤيتنا للاحداث بالتصوير ضد الشمس وجعل ضوء الشمس يقهر عدسة
الكاميرا كما هو مشهد قتل اوديب لابيه وحراسه فمع كل حدث عنيف وقتل جندي
يكون ضوء الشمس حائلا ومانعا ضدنا وهذا الاجراء هو عكس لرؤية المخرج
بازوليني والذي كان ضعيف البصر وذلك بسبب ابيه الذي اعطاه علاجا لعينيه وهو
صغير، واحيانا يدور الحدث العنيف وخاصة القتل في ظلام دامس وتتعمد الكاميرا
الوقوف بعيدا واظهار الحدث من بعيد، ونجد ان الكاميرا تهتم كثيرا باظهار
الموت وقسوته مثلا استعراض الكاميرا للجثث المرمية واظهار البثور في فيلم"
اوديب ملكا" بعد اصابة المملكة بالطاعون وكما في فيلم " الف ليلة وليلة"
والتي نرى فيها جثثا معلقة على المشانق في الصحراء، لدى المخرج حرص على
اظهار الجسد الميت في حالات بائسة وطرح اسئلة واثارة جدل حول الموت بطرق
غير مباشرة.
في فيلم "اوديب" في البداية نجد حضورا طاغيا للون الاخضر واللون
الابيض لباس الام وهنا الاخضر دلالة للحنين الى الحضارة الزراعية القديمة
وهو تذكير بما تمتلكه ايطاليا من روح وصفاء و نرى اللون الاخضر من خلال
وجهة نظر الطفل وفي الجزء الثاني من الفيلم يغيب اللون الاخضر لتسيطر
الالوان الاخرى القاسية الاسود والرمادي واحيانا الاحمر حيث في بداية هذا
الجزء تستعرض الكاميرا منظرا لطبيعة قاسية: جبال قاحلة وصحراء وحضور للون
الازرق لون السماء وكانها هنا شاهد عيان او تراقب ما سيحدث لهذا الانسان
الذي سوف يصارع قدره ويتحداه ولكن نهايته ستكون مأسوية بالتزوج من امه ثم
فقع عينيه لنعود الى الزمن الحاضر حيث اوديب مع مرشده يجول في عدد من
الاماكن في روما ثم يستقر اخيرا ويشعر بالراحة عندما يعود لمكان طفولته حيث
اللون الاخضر اي انه عاد الى احضان امه.
في فيلم " ميديا" نجد الرجل الحصان هذا الكائن الاسطوري يقوم بتربية
جازون وتلقينه دروسا روحية ويناقش معه افكارا فلسفية حول السعادة والانسان
والطبيعة ويطغى على المشهد حضور اللون الاخضر وجازون هنا هو استعارة
للانسان العصري فرغم العمق الانساني والروحي الا انه يتمرد لهذه التربية
ويسلك كل الطرق لتحقيق اهداف شخصية وتكون النهاية مؤلمة بسبب انانيته وهو
هنا ليس الضحية بل الجاني وهو البربري وليست ميديا وسبب تعاسة ميديا تخليها
عن ارضها وجذورها وانتقالها الى عالم لا يقدس الارض والروح.
يتعمد المخرج اظهار روعة جمال الجسد الانساني وجماله ثم يظهر بؤسه
وشقاءه بعد الموت ولعل هناك عدة مشاهد في فيلم "الف ليلة وليلة " مثلا ذلك
الصبي الجميل الذي يظهر عاريا ويلعب مع ذلك الشاب المسحور ثم يقوم الاخير
بقتله وهو في غير وعيه او قيام الجني او الشيطان بقتل الفتاة الجميلة التي
ارتبطت بحب الامير، ويختار المخرج شخصيات واجسادا بألوان متعددة ويعطي
اهتماما وقداسة للون الاسمر مثلا بدور في "فيلم الف ليلة وليلة" ويشتغل
بازوليني على الجسد الانساني العاري بطريقة مختلفة وخاصة ومن شاهد فيلم "
سالو" سيرى كيف يحلق بازوليني ويتعمق في بؤس الروح وتعاستها من خلال الجسد
العاري ونشعر بالتعاطف والبكاء ونتقزز ونحن نشاهد بعض الاحداث بسبب عنف فئة
سادية فاشية تهين كرامة الروح قبل انتهاك كرامة الجسد.
في هذا الفيلم يقوم اربعة من زعماء الفاشية بإحضار مجموعة من الشباب
والفتيات من قرى ريفية ويسجنونهم بقصر واسع ويفرضون عليهم قانونا ساديا
للاستمتاع بأجسادهم جنسيا والتلذذ بقهرهم واغتيال إنسانيتهم بكل وحشية ولكل
شاب وفتاة لون ولكل وجه جماله وبراءته وهنا كان الاشتغال على الجسد
الانساني رائعا باعتباره المنفذ الى الروح.
الموت يتحول الى قصيدة مفزعة ووضعية الجسد لها دلالاتها الميتافيزيقية
ومشهد حدث موت ايترو في فيلم "ماما روما" والذي يكون مصلوبا يصرخ وينادي
امه ويعتذر ولكن الموت لا يقبل اعتذاره.
في هذا الفيلم اشتغل بازوليني على اللون الاسود وهو هنا ليس تشاؤميا
ولكن لاظهار حقيقة الواقع ففي اغلب المشاهد تظهر ماما روما مرتدية ملابس
سوداء وفي احد المشاهد تكون خارج المدينة لبيع جسدها كونها تمتهن الدعارة
وعندما تحاول التخلص من هذه المهنة والفرار الى روما يقوم القواد بمتابعتها
ويهددها بالفضح وكشف حقيقتها امام ابنها، تعود للعمل وفي احد المشاهد نراها
في مشهد خارجي وتبدو الاضواء في العمق لكنها بعيدة تكون ماما روما بلباس
اسود وحولها ظلام ووجهها منير باضاءة خاصة وهي تتقدم نحونا كي تحافظ على
انارة وجهها ولكن جسدها قريب هو جزء من هذا المحيط وكلما تحاول التخلص من
واقعها تجد من يعيدها بقوة للحضيض هذا الظلام هو استعارة متعددة لواقع لا
يقبل الاعتراف بها كأم وإنسانة تحاول التحرر من ماض مزرٍ.
بازوليني لم يصور افلامه في استديوهات مغلقة بل كان يعشق الاماكن
المفتوحة والطبيعة بكل بهجتها وقسوتها ويعشق الاماكن العامة كالشوارع
والمحطات والقرى الفقيرة ويظهر الناس الفقراء والمقهورين ويدع الكاميرا
تتأمل لون بشرتهم وجماليات الوجوه ويبرز ضحكاتهم ورقصهم وغناءهم وملابسهم
الريفية وعالمهم الروحاني والبدائي باعتبارهم منبعا او ذاكرة بساطة وطيبة
وروح الانسان قبل ان تدمره عناصر التمدن وتعبث بمصيره سياسات برجوازية
ميكافيلية مادية ومنحطة.
استخدام الالوان ليس لمجرد اظهار الخارج بل في الكثير من الاحيان تأتي
لكشف الباطن والداخلي للشخصيات فالملبس او القناع او تلك القبعات الغريبة
التي يميل لاستخدامها كثيرا ما يكون لها دلالات اسطورية وروحية اضافة الى
جمالياتها التشكيلية المدهشة والفنتازية.
لا يمكننا ان نوفي من خلال هذا الموضوع جميع العناصر الجمالية
والشعرية لاستخدامات الالوان في سينما بازوليني لكننا حاولنا على الاقل
اعطاء تصور عنها من خلال هذه الرحلة القصيرة والسريعة كوننا ونحن نشاهد
افلام بازولني علينا ان نمتلك الوعي باننا نحلق في عالم شاعر ولا يسعى لخلق
تأثير نفسي بل يميل الى العالم الميتافيزيقي ويدع لنا فرصة للتخييل والتذوق
لكل لقطة للغوص في عالم الحلم والدهشة.
إيلاف في
26/02/2010 |