ولعل هذا سبب تواجدها أغلب الأعوام في ترشيحات الأوسكار لأنها في كل
مرة تقدم وجهاً جديداً
وغير مألوفاً،
فبعد أن أدهشتني العام السابق بفيلمها الاستعراضي الكبير »ماما ميا« الذي
رقصت وغنت فيه أشهر أغاني فرقة الآباء، وقدمت دور أم في الستين تواجه رجالاً
ثلاثة عشقتهن في وقت واحد..
لدرجة أنها لا تعرف بالضبط من هو الوالد الحقيقي للابنة التي
أنجبتها بعد هذه العلاقة الثلاثية المعقدة.
وفي فيلمها الأخير (علاقات معقدة)
تعود ستريب لتقدم كوميديا موقف من نوع شديد الخصوصية تخيلنا أن نطلق عليه
اسماً مختصراً هو »هي بعد الطلاق«.
عجيبة حقاً هذه السينما الأمريكية..
التي تعرف تماماً شأن ميريل ستريب..
كيف تجدد نفسها باستمرار..
وكيف تقدم نماذج متقدمة من الكوميديات التي تناسب روح العصر.. وأهواء
الناس.
فبعد أن اعتقدنا أن زمن الكوميديا الذهبي في هوليوود قد انقضي برحيل
المخرجين الكبار الذين أعطوا هذه الكوميديا نسخها وقوتها وخصوصياتها كفرانك
كابرا وهوارد هوكس وبيلي وايلدر..
هاهي هوليوود تجدد نبضها الضاحك..
بأسلوب يتناسب مع تطور الأخلاق والتحرر الجنسي الذي تعيشه أمريكا في القرن
الحادي والعشرين..
والمختلفة اختلافاً
جذرياً عن أمريكا القرن الماضي المتزمتة والمتشددة أخلاقياً أحياناً إلي حد
التعصب.
تحرر في اختيار الموضوع..
وتحرر يصل إلي درجة الجرأة في الحوار..
وتحرر في المواقف كان لا يمكننا مجرد تخيله قبل
عشرة أعوام فقط،
وهذا ما يتضح تماماً
في هذا الفيلم الجديد الذي تقدمه لنا مخرجة شابة عرفت كيف تجتاز الخطوط
الحمراء كلها وكيف تكون ابنة عصرها بقوة وجرأة قد وصلت إلي أوج تألقها
وثقتها بنفسها وقدرتها علي تحريك ممثلة بحجم »ميريل ستريب«
بهذا الشكل الذي قد يؤهلها فعلاً
للفوز بالأوسكار الذي رشحت له أيضاً
هذا العام.
جين (وهو اسم ستريب في الفيلم)
مطلقة منذ عشر سنوات..
تعيش وحدها مع أولادها الثلاثة
(فتاتان وولد) وتدير مطعماً صغيراً تتفنن فيه في تقديم الطعام علي الطريقة
الفرنسية التي تعلمتها وأتقنتها في باريس.
الفيلم يبدأ في إحدي مدن الاصطياف في اسبانيا،
حيث الشمس والبحر والحرية..
وحيث تقابل »بطلتنا«
التي تعيش وقد اعتادت إلي حد ما علي وحدتها النفسية والجسدية معاً.. زوجها
السابق (جاك) مع زوجته الجديدة الشابة وابنه الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة
من عمره بعد.
هذا اللقاء..
يعيد لها كل ذكريات الماضي..
مرة واحدة.. ويشعرها بمرور الزمن عندما تقارن ما صارت إليه..
بحيوية وجمال الزوجة الجديدة الشابة.
ولكن في تلك الليلة التي تسبق عودتها إلي نيويورك..
تلتقي مرة أخري في بار الفندق الذي تقيم فيه بزوجها وحده.. لأن زوجته
الجميلة اضطرت للبقاء في غرفتها مع ابنها الذي مرض فجأة..
ومن حديث إلي آخر، ومن كأس إلي آخر..
ومن رقصة إلي أخري..
ينتهي الزوجان المطلقان إلي الفراش مرة أخري،
ولكن هذه المرة تبدو مختلفة تماماً عما كانت عليه علاقتهما الجنسية أثناء الزواج.
إن جين هذه المرة قد أصبحت هي
(المرأة الأخري)
التي يخون زوجها السابق زوجته الجديدة معها،
وتعتقد جين.. إن ما حصل كان مجرد مغامرة عابثة سببتها الخمر والوحدة، لذلك
تحاول أن تتناساها عند عودتها إلي نيويورك للاحتفال بتخرج ابنها من كليته.
وعندما تقابل صديقاتها وأغلبهن مطلقات،
في جلسة نسائية ربما كانت من أجمل مشاهد الفيلم حيث تتبادل فيها الصديقات
أحاديث صريحة عن حياتهن الجنسية وقابلية أجسادهن..
وضرورة الممارسة..
لأنها مقياس علي حيوية الجسد وعنفوانه..
مشاهد لا يمكن إلا لامرأة مخرجة أن تحققها
بهذا القدر من العفوية والصراحة والحلاوة.
وفي حفل التخرج..
يتقابل الزوجان المطلقان مرة أخري،
ويخبر جاك زوجته..
بأنه قد تعلق بها فعلاً
وأنه أحس الآن وبعد عشر سنوات من الفراق كم كان مخطئاً في هجره إياها..
وأنه ليس سعيداً
بحياته الجديدة رغم شباب زوجته وجمالها..
إنه يحن إليها..
إلي ابتسامتها..
ودفئها، وطعامها الذي تجيد طهيه، وحرارة أنوثتها التي عادت إليه من جديد لتزيد من حرارته وتعيد إليه
الشباب الذي عجزت الزوجة الجديدة رغم شبابها عن إعادته له.
ولا تدري جين..
هل هو الثأر من الهجر القديم..
أم الوحدة الطويلة..
أم الفراغ الجنسي هو الذي يدفعها إلي تجديد هذه العلاقة
وعدم الاعتراض عليها والتصرف كما يتصرف الأزواج الذين يخونون زوجاتهم أو
أزواجهم..
وهنا يقدم الفيلم مشاهد كوميدية ضاحكة تعتمد علي الموقف ويزيدها حوار شديد
الذكاء قوة وحيوية.. بما تحمله الكلمات من صراحة حلوة تحقق الجرأة المطلوبة
دون أن تسقط مرة واحدة في الابتذال.
وفي
غمار هذا التردد وهذا الضيق..
وهذه السرية التي تعيش بها جين هذه العلاقة تبدو خيوط علاقة جديدة تظهر لها
في الأفق.. من خلال المهندس الذي يشرف علي تجديد ڤيلتها والذي يعاني هو
أيضاً من حسرة طلاقه من زوجته التي أحبها وهجرته لتتزوج أعز أصدقائه.
ومن خلال هذا التلاقي ترسم »نانسي
مايرز« خطوط كوميدياها..
مركزة التركيز كله علي موهبة ميريل ستريب وحضورها وألقها دون
أن تنسي ستيف مارتين وإليك بالدويف..
اللذين لعبا دور العاشقين اللذين يتنافسان
علي قلبها.
ستريب..
تعلن عن عبقريتها في الأداء في كل المشاهد التي
تظهر فيها دون استثناء..
قادرة علي التعبير عن أدق خلجات نفسها وعن
كل ما يدور في أعماقها، من خلال نظرة أو حركة أو إيماءة معجزة.
إنها تسيطر سيطرة مطلقة علي الفيلم،
وتمتد خلال شخصيتها المتغيرة حسب كل موقف وحسب كل شخصية تقابلها.. زوجها
السابق.. أو المهندس العاشق أو أولادها الثلاثة أو خطيب ابنتها الذي اكتشف
أن العلاقة الجديدة بين الزوج القديم ومطلقته..
وحاول إخفاء الخبر عن الابنة خطيبته.
السيناريو البارع الذي كتبته المخرجة بنفسها لا يترك للمتفرج لحظة
واحدة يلتقط فيها أنفاسه..
من خلال إيقاع سريع متدفق..
وأحداث متطورة تحمل إلي جانب الفكاهة والإضحاك تأملاً عميقاً في العلاقات
الزوجية والصلات الجسدية التي تصل بين الرجل والمرأة.. غموضها وحيرتها
وتخطبها..
وتوهان القلب البشري وعجزه عن معرفة اتجاهه الصحيح.
إنه درس في الحب..
وفي الجنس..
وفي الزواج.. يقدمه فيلم أمريكي طازجاً..
ساخناً شبيهاً
بـ(الكرواسان بالشوكولاتة)
الذي تعده جين..
ولا يستطيع من يتذوقه مرة أن ينساه بعد ذلك
أبداً.
كوميديا معاصرة..
من لون الزمن الذي نعيش فيه..
أشخاصها يتحركون أمامنا بجاذبية وسحر، ويكادوا أن يخرجوا من أعماق الشاشة البيضاء..
ليجلسوا بيننا ويتهامسوا معنا.
ما هو الحب الحقيقي..
وما علاقته بالجنس..
وما علاقة الجنس بالزواج..
وكيف يتخبط القلب البشري في ثنايا الحيرة والتردد.
قبل أن يصل إلي بر الأمان.
بل إن الفيلم ينتهي بأن يجعلك تسأل نفسك:
هل هناك حقاً بر أمان حقيقي في الحب؟
أخبار النجوم المصرية في
11/02/2010 |