لا تتوقّف
العروض السينمائية في فرنسا عن تقديم الجديد والقديم، معاً. باريس نموذج
أول، بل
أساسي. المدينة شاسعة. صالاتها كثيرة. نشاطاتها أيضاً. الحراك السينمائي
فيها لا
يهدأ. يُنتج أنماطاً شتّى من المُشاهدة والمتابعة. برامج
ودعوات ولقاءات. إطلاق
العروض الفرنسية لأفلام فرنسية وغير فرنسية لحظة استثنائية يهتمّ بها عاشقو
الفن
السابع. يستغلّها موزّعون وسينمائيون وجمعيات وعاملون في الحقل البصري،
لترويج
تجاري يستفيد منه عشّاق هذا الفن. في باريس، عشرات الصالات
والشاشات موزّعة هنا
وهناك. عشرات الأفلام الجديدة مُختارة لبرمجة أسبوعية تتبدّل صباح كل يوم
أربعاء.
هناك عروض صباحية دائماً. أحياناً، لا تعثر
على مقعد شاغر، هذه الصبيحة أو تلك. هذا
جزء من الحراك السينمائي الباريسي. الاستعادات لا تتوقّف عن
تقديم روائع الفن
السابع، التي باتت عنواناً جوهرياً في الذاكرة الإبداعية البصرية الغربية.
المكتبات
السينمائية أمر آخر. محلات بيع أشرطة الـ «دي في دي». الكتب السينمائية.
هناك
اهتمام واضح بالصُّوَر والملصقات. بأشياء متعلّقة بفيلم، أو
خاصّة بسينمائي. معارض.
احتفالات متفرّقة، والعنوان واحد: السينما.
كل ما تحتاج إليه في المجال
السينمائي هذا موجودٌ في فضاء باريس وجغرافيتها. في شارع. في
مبنى. في مجمّع
سينمائي. النقاش لا يأبه لمكان. المقاهي تتحوّل إلى حيّز له، غالباً.
الحيوية
السينمائية تلك مُتعِبة، لكنها باهرة في جعل المرء المهتمّ أفضل حالاً.
المكتبة
السينمائية
«السينماتيك الفرنسي» مَعلم من المعالم الأساسية للمدينة. لم يعد
ممكناً التغاضي عن زيارته. وجوده في منطقة واقعة على تخوم الضواحي
الباريسية
(بيرسي)
جعله أجمل. المَعلم المذكور بعيدٌ عن ضجيج العاصمة. هذا يتيح مناخاً أهدأ.
في «السينماتيك الفرنسية» نشاطات عدّة، أبرزها: معرض «فانوس سحري
وفيلم مرسوم» (14
تشرين الأول ـ 28 آذار 2010). اللافت للانتباه كامنٌ في العنوان الفرعي:
«400
عام من السينما». هذه صدمة. إيجابيتها أقوى إبداعاً. منذ سنين طويلة، بدأت
الصورة
المتحرّكة تفرض حضورها. «اللعبة» القديمة شكّلت أساساً لأحد
أبرز فنون القرن
العشرين وأهمها. الرسوم التي تتحرّك وفقاً لحركة الأوراق المرسومة عليها،
فتحت
أبواباً ساحرة أمام المخيّلة البشرية لابتكار أجمل فن، وأكثره تأثيراً في
النفس
والروح والعقل والانفعال.
في المعرض المذكور، نماذج كثيرة ومتفرّقة أرّخت
السيرة المديدة لهذا النمط من التعبير الفني. الكاميرات
المستخدمة. الأدوات.
الرسوم. الألوان. الأشكال. انعكاسات الضوء والصورة. التقنيات. المواضيع
المختارة.
هناك قسم خاصّ برسوم بورنوغرافية. بـ
«أفلام» جنسية. لم يعد التصنيف مهمّاً. في
القرون القديمة، الجنس حاضرٌ. التعبير عنه أيضاً. جرأة أم
تمرّد على واقع؟ لا فرق.
هناك رسوم تروي حكاية، وآلات تنقلها إلى الحائط المتحوّل الى شاشة للفن.
القديم
بديع. إنه ركيزة الحاضر والحديث. لا يُمكن التغاضي عنه أبداً. لا يُمكن
السماح
باندثاره. التغاضي والاندثار جريمة تستدعي أحكاماً قاسية على مرتكبها في
غَربٍ
مصمَّم على الاحترام والعدالة. الذاكرة ليست لفرد ارتبطت به
فقط، بل لجماعات بشرية.
الإبداع ليس حكراً على صانعه فقط، بل هو حقّ للجميع. تعاونت «السينماتيك
الفرنسية»
و«المتحف الوطني للسينما في توران» في
إيطاليا على تنظيم المعرض، بإشراف لوران
مانّوني ودوناتا بيزينتي كابانيوني. قدّمت «السينماتيك» ثمانية
عشر ألف قطعة. قدّم
المتحف ثمانية آلاف. الدقّة في عرض المقتنيات لافتة للانتباه. كل شيء واضح
أمامك.
المعلومات. التواريخ. الأنماط المستخدمة في صناعة آلة أو في رسم صورة.
الآلة نفسها.
الصورة أيضاً.
الذاكرة وأهميتها. الماضي وجماله. هذا ما دفع الفرنسي هنري
لانغلوا إلى البحث عن القديم. أسّس «السينماتيك» قبل أكثر من نصف قرن، كي
يقف
حائلاً دون موت الذاكرة. هوسه بالسينما جعله أميناً لقناعة
أولت اهتماماً كبيراً
بالماضي. بحث عن نتاجاته القديمة. واجه تحدّيات جمّة. خاض معارك شرسة.
الانتصار
الأخير له كسينمائي حصّن التاريخ من الغياب. في المبنى نفسه، هناك متحف ضمّ
أدوات
وأزياء وصُوَراً وتقنيات شتّى، متعلّقة كلّها بمراحل أساسية من
التاريخ العريق
للسينما. أفلام مؤثّرة في تبديل نمط، أو في مقاربة مسائل. الأساسيات أولاً.
أي
الأفلام التي حفرت عميقاً في الماضي، عندما أسّست شكلاً ما للتعبير.
الأفلام
الصامتة. شارلي شابلن. بدايات السينما الألمانية التعبيرية.
عناوين لافتة من
السينما الروسية. الأدوات المستخدَمة في أفلام عدّة. أو في صناعة الأفلام.
نماذج لا
تختصر زمناً، بل تفتح نافذة لإطلالة ما عليه. لا تختزل حكاية، بل تحثّ على
فتح
صفحتها الأولى، على الأقلّ. لا تقيم في الماضي، بل تحوّل
الماضي إلى حافز لفهم
الإبداع الذي ساهم في تطوّر البشرية.
لا تكتمل الزيارة من دون المكتبة.
المعلومات عنها مثيرة: اثنان وعشرون ألف كتاب مختصّ بالتاريخ والتقنيات
واقتصاد
السينما. هناك دراسات نظرية وتحاليل وأبحاثٌ نقدية. اللغات عديدة: الفرنسية
والإنكليزية والإيطالية والألمانية. أربعمئة وأربعون مجلّة
متخصّصة بشؤون نقدية،
فرنسية وأجنبية، تعني المُشاهد العادي والمتخصّص معاً. واحد وعشرون ألف
رسمة خاصّة
بتصاميم الديكورات والأزياء. ثمانية وثلاثون ألفاً وخمسمئة صورة
فوتوغرافية، التقط
كبار مصوّري البلاتوهات بعضها. عشرون ألف مجلة صحافية خاصّة بالأفلام صدرت
في فرنسا
منذ العام 1945. مصادر الكترونية متفرّقة. غُرفٌ مخصّصة
بمشاهدة أفلام منسوخة على
أشرطة «في. أتش. أس.» و«دي. في. دي.»: سبعة آلاف فيلم روائي صامت وكلاسيكي
وحديث
الإنتاج.
في المقابل، هناك عروض دائمة واحتفالات مستمرّة. لوريل وهاردي. سينما
الأبعاد الثلاثية. غوردون دوغلاس. بيدرو كوستا. جيم كاري. أندريه فاجدا.
مايكل
بالّهوس. هذه عناوين خاصّة بالشهرين الأولين من العام الجاري
فقط (ماذا عن المقبل
من أيام العام نفسه؟ ماذا عن الأعوام اللاحقة؟). متتاليات مستمرّة في رسم،
أو في
إعادة رسم ملامح أساسية في التاريخ السينمائي. في الشهرين الأولين هذين،
هناك عروض
استعادية عدّة: أفلام قصيرة وطويلة للوريل وهاردي. احتفالٌ
مهمّ بثنائي لامع في
السينما الضاحكة. فقدان الأفلام الكوميدية الجدّية حالياً، دعوة إلى
استعادة سلوك
ضاحك لا يخلو من عمق إنساني. التقنيات المستخدمة حديثاً، كالأبعاد
الثلاثية، لها
تاريخٌ حافل في صناعة السينما. مخرجون كبار. هل ذكرتُ جيم كاري
أيضاً؟ مشاهدة، أو
إعادة مشاهدة نتاجه السينمائي المتناقض، قد تكون متعة للمهتمّ.
زيارة «السينماتيك»
موفّقة. الوقت، مهما طال، فإنه لا يكفي. لكنه مليء بغذاء روحي. أتاح
إلقاء نظرة أولى على تاريخ مجبول بالتحدّي ومواجهة المخاطر. معقود على
حماية
التاريخ. الزيارة جميلة. الوقت قليل. لا يُمكن بلوغ مرتبة
عالية من التعبير الصادق
عن شعور ألمّ بزائر «السينماتيك الفرنسية» للمرّة الأولى. الشذرات السابقة
انطباع
عفوي أمام معنى أن يثابر شعبٌ ومجتمع على حماية تاريخ خاصّ وذاكرة جماعية.
وأن
يشاهد الزائر بعض هذين التاريخ والذاكرة معاً.
الحراك السينمائي الفرنسي لا
ينضب. أفلام عدّة معروضة حالياً في صالات باريسية متفرّقة،
معظمها لن يعثر على طريق
له إلى بيروت. أيامٌ أربعة في باريس لا تكفي لمتابعة كل شيء، لكنها تتيح
فرجة
جذّابة ومفيدة ومثيرة للنقاش: «بصوت واحد» وثائقي لكزافييه دو لوزان.
«غانسبور،
حياة بطولية» روائي لجوان سْفار. «شقيقان» روائي لجيم شيريدان.
أفلام أخرى يُمكن
التعليق النقدي عليها لاحقاً.
«بصوت واحد». عنوان أول: الموسيقى. عنوان ثان:
فلسطين/ إسرائيل. متشعّب هو في أزقّة متفرّقة، لكن الأساسي واضحٌ: تجربة
إنشاء فرقة
موسيقية/ غنائية من فلسطينيين وإسرائيليين، يهود ومسيحيين ومسلمين، تقوم
بجولة فنية
في مدن فرنسية عدّة. السؤال الذي دفع الموسيقي جان ـ إيف لابا دو روسّي إلى
هذا
الاختبار، ملتبس: هل يُمكن جمع أناس منتمين إلى «طرفين»
متنازعين بشراسة، في
السياسة والوجود والحياة، على أرض واحدة، هي الموسيقى؟ السؤال مفتوح على
تساؤلات
أخرى: هل يُمكن تجاوز السياسي، من أجل الفن؟ هل يُمكن التلاعب بالمفاهيم
والأشياء
كلّها، التي أرخت ظلالاً من العنف والدم والشقاء على شعب وبيئة
وحياة، بحجّة أن
الفن أكبر من السياسة، وأهمّ من النزاع؟ لا يُمكن فصل السياسة عن أي شيء
آخر، في
منطقة مُقيمة في النزاع والعنف. الادّعاء أن الموسيقى، مثلاً، جامعةٌ
أطرافاً
متنازعة، خطوة إلى اكتشاف عبثية اللقاء ومتاهته. التجربة
المذكورة ناجحة شكلاً.
اللقاء أفضى إلى جولة مهمّة (2006)، تعرّضت لخضّات كادت تقضي على التجربة.
أظهر
الفيلم أن فلسطينيين «قصدوا» إهانة إسرائيليين. رفع إشارة الانتصار مثلاً.
كلام
سياسي. ارتداء قميص مكتوب عليه فلسطين. إسرائيليون عديدون
متشنّجون. لكن الفلسطيني
أقدر على التراجع وتهدئة الأمور. تفاصيل قد يرى أحدهم التعليق عليها إثارة
لغرائز
شعبوية أو خطابية مجانية. لا. هناك مسائل مهمّة جداً: مغنية إسرائيلية
ارتدت
الكوفية. استاء كثيرون منها. ردّ زوجها ومدير أعمالها بأن
ارتداءها الكوفية خطوة
تجاه المغنّي الفلسطيني الذي شكّل ثنائياً غنائياً معها. عندما غنّى هو
للسلام، وضع
يده على قلبه. خطوة في مقابل خطوة. يريد الثنائي سلاماً. يقيمان الحفلات
معاً.
يغنّيان بلغتين (بالعربية أحياناً) كي يسمعهما الجميع. الفرقة كسرت جليداً.
صبي
إسرائيلي قال إنه خاف من الفلسطينيين أولاً، قبل اكتشافه أنهم مثله. شابة
فلسطينية
وجدت الإسرائليين أناساً عاديين. بُعدٌ إنساني وأخلاقي سائدٌ
في فرنسا دائماً.
الغناء والموسيقى مدخلٌ إلى التعارف والتواصل واللقاء. الأهمّ كامنٌ لاحقاً.
السياسة حاضرة. حرب تموز 2006 في لبنان سبّبت مقتل فلسطيني عضو في الفرقة.
الحزن
عارم. إسرائيليو الفرقة حزنوا عليه. تشاوفٌ أم تصنّع أم انفعال حقيقي؟
المنطقة
تغلي. الجنون متحكّم بها. لكن التجربة الموسيقية مهمّة.
الجنون أيضاً
الجنون، بشكل آخر، حاضرٌ في «غانسبور». العلاقة بين الفيلمين هذين
مستندة إلى
الموسيقى أيضاً. في الأول، محاولة لجعل الموسيقى مدخلاً إلى السلام، أو إلى
ما
يشبهه، أو إلى وهمه. في الثاني، تعبيرٌ عن فقدانه. أي فقدان السلام
الداخلي. سيرج
غانسبور مغنّ يهودي متمرّد على كل شيء. هذه مادة غنية
بالمعطيات، لإعمال المخيّلة
في إعادة رسم ملامح تاريخ وشخص ونزوات. سيرة الرجل معروفة. حكاياته مع
الإعلام، ومع
حقائق ثابتة ومفاهيم سائدة، أكثر من أن تحصى. علاقاته وخيباته وانكساراته
والخراب
الذي أحدثه أحياناً، هنا وهناك، أمور ثرية بمواد درامية فاقعة
الجمال. جوان سْفار
لم يشأ البحث في الحقيقيّ. كتب في نهاية الفيلم أن أكاذيب سيرج غانسبور
تعنيه أكثر.
حرّضته، ربما، على اختبار تجربة إخراج فيلم
عنه. جاء المخرج من عالم فني آخر:
الأشرطة المرسومة. الفيلم مائل إلى هذا العالم بشدّة. لكنه مصقول بحرفية
سينمائية
واضحة. ليس الفيلم سيرة تأريخية كلاسيكية. إنه قراءة في أعماق النفس
والروح، وفي
المتاهات الجمّة التي سقطا فيها. إنه متابعة حسّية للبؤر
السوداء في أعماق رجل
وآلام فنان. هذا فيلم متوتر، لتوتر شخصيته الرئيسة. التاريخ والسياسة
حاضران، لكن
الحياة اليومية أبرز وأهمّ. النساء اللواتي عرفهنّ. الأعمال الفنية التي
عزفها
وغنّاها، قبل أن يؤلّف ويُغنّي. نتاجاته. تمزّقاته النفسية
وبديله المصنوع بغرائبية
بديعة. المرض والتمرّد. الفضائح التي صنعها. أمورٌ عدّة مثيرة للانتباه
ومحرّضة
للشغف في الفيلم. أحدها: قدرة الأداء والشكل الخارجي للممثلين على التشابه
مع
الشخصيات الحقيقية. إيريك إلموسنينو مثلاً. تشابهه الخارجي
وسيرج غانسبور مدهش.
الأداء أيضاً، بانفعالاته وصخبه وخيباته وتمردّه وقسوته وهشاشته وعشقه.
احتساء
الخمر وتدخين السجائر. حركة اليدين والوجه. طريقة المشي والكلام. التشابه
فظيع،
شكلاً ومضموناً.
الجنون أيضاً وأيضاً. هذا شكل آخر له. في «شقيقان» لجيم
شيريدان، نبع الجنون من قسوة اللحظة المفروضة على المرء. خيار من اثنين لا
ثالث
لهما: الصداقة ورفقة السلاح، أم الحبّ والعائلة. الجندي ملتزم
الصداقة ورفقة
السلاح، لكنه رجلٌ له انفعالاته وشغفه. أرض المعركة: أفغانستان. بل المجتمع
الأميركي. انتقل جيم شيريدان من أدغال النزاع الدموي بين الكاثوليك
والبروتستانت
(«باسم الأب»، 1993. «الملاكم»، 1997) إلى متاهات البيئة الأميركية
والضياع القاتل
الذي ألمّ بالولايات المتحدّة الأميركية إثر جريمة الاعتداء الإرهابي عليها
في
الحادي عشر من أيلول 2001. تقديم الشخصيات والأحداث بطيء. الإيقاع عادي.
المعالجة
بسيطة. الشكل المعتمد في سرد الحكاية أوحى، مراراً، بأن خللاً
ما أصاب الفيلم.
شيئاً فشيئاً تتصاعد حدّة الأزمة. الأزمة نفسية أولاً وأساساً. العلاقات
القائمة
داخل العائلة الواحدة منذورة للارتباك. تومي كاهيل (جايك
غيلّينهايل)، أحد
الشقيقين، عبثيّ. رفض الانصياع لنظام العائلة. أُطلق سراحه من السجن (سرقة
مصرف)
قبل أيام من سفر شقيقه سام (توبي ماغواير)
إلى أفغانستان. التمزّق حاصلٌ. كل واحد
منهما مختلف تماماً عن الآخر. لحظة التحوّل كامنةٌ في سقوط
طائرة الهيليكوبتر في
جبال أفغانستان. الخبر الأول: مقتل سام. مراسم جنازة ودفن. هذا كلّه عادي.
التبدّل
طرأ على تومي. بات مقرّباً من عائلة سام. ابنتا الأخير أحبّتا عمّهما
كثيراً. لكنها
العودة. عودة سام. كان معتقلاً. وفي الإعتقال، «دُفع» إلى قتل رفيق سلاحه،
في واحد
من المشاهد الدرامية العنيفة المعتادة. العودة مفتاح تبدّلات:
أولها، انزلاق سام
إلى الشكّ، إحدى الخطايا القاتلة. القتل أيضاً خطيئة. ارتكب الفعلين. مارس
الخطيئتين. سقط في المحظور. بات عنيفاً. الضياع أوصله إلى الفراغ. إنه يذوي.
الاعتراف بجريمة القتل علّق الفيلم في التباس المقبل من الأيام، بالنسبة
إلى أفراد
العائلة كلّها. جيم شيريدان خبيرٌ في إثارة الهلع والقلق. التشنّج في تصوير
المشاهد
وتوليفها، مستلٌّ من حجم التشنّج داخل العائلة، والأحداث المرافقة للحياة
اليومية
لأفرادها.
كلاكيت
الحياة تقلد
السينما
نديم جرجورة
إنها فترة استراحة
حقيقية. منذ زمن بعيد، لم تنتبه إلى ضرورة اتّخاذ إجازة. الإجازة مهمّة إلى
أقصى
درجة ممكنة. الابتعاد عن الحيّز الجغرافي الخاص بحياتك وراهنك و«روتينيك»
اليومي،
مسألة جوهرية. ضرورة يُفترض بالمرء ألاّ يتخلّى عنها أبداً.
الانتقال الجغرافي من
بلد إلى آخر، يُقابله انتقال بصري بين أنماط سينمائية متفرّقة، شكلاً
ومضموناً. هذا
منوط بمن عشق السينما، وعاش تفاصيلها. بمن اعتبرها اقتراباً من واقع لم
يحدث، لكنه
سيحدث. المسألة واضحة. السينما سبقت الحياة. باتت الحياة
تقليداً للسينما. نسخة
منها. شبيهة بها. الإجازة مُهمّة. إنها إضافة نوعية، تتيح للمرء تنفّساً
طبيعياً
خارج إطار الوظيفة. خارج إطار التقليد المعتَمَد في ممارسة اليومي.
المهرجانات
السينمائية المُقامة هنا وهناك تتيح فرصة مزدوجة: الاطّلاع على
جديد الفن السابع،
واختبار معنى الإجازة. هذا يحدث في مهرجانات سينمائية عربية وغربية. مشاهدة
الأفلام
ترافقها إجازة مجبولة بشغف الكتابة والمتابعة.
أنت في إجازة الآن. أن تشاهد
أفلاماً. أن تتمتّع بها، أو ببعضها. أن تنساق إلى تلك اللعبة
المزدوجة. أن تخصّص
بنفسك وقتاً لا يتجاوز وقت المُشاهدة. وإذا تجاوزها أحياناً، فخيرٌ لك.
المُشاهدة
السينمائية اليومية غنى روحي ومعنوي ومعرفي. ليس دائماً. لكن غالبية
الأفلام تتيح
فرصة الاطّلاع، على الأقلّ. ليس تبريراً. هذه محاولة ذاتية
لقول أشياء عامّة.
المُشاهدة السينمائية إجازةٌ تُخرجك من إطار الوظيفة، أساساً. فكيف إذا
حدثت
المُشاهدة في مهرجانات سينمائية مُقامة هنا وهناك؟
في طنجة المغربية، احتفالٌ
بالسينما المحلية. في كليرمون فيران الفرنسية، احتفاءٌ بالفيلم
القصير. قبل برلين
ومهرجانها الدولي، تغريك باريس براحة مشوبة بتعب الانزلاق في متاهاتها
الجميلة.
تريدك مرتمياً في أحضانها المفتوحة على شغف
الحياة ونسيان الألم، على الرغم من صقيع
أوروبي لا يُحتمَل. ترغبُ في أن تنزع عنك أثقال الدنيا، وإن
للحظات، لأنها تمنحك
دفئاً لا مثيل له. لكنها أيام أربعة فقط. مع هذا، لا ينضب الهوس بها.
الأبنية.
الشوارع. الأشجار العارية. اللون الرمادي
المائل إلى بياض الثلج ورونق الهيام بها.
لا تمزّق في باريس، لمن سعى إليها رغبة في خلاص، أو سعياً إلى اغتسال موقّت،
يُحصِّن النفس والجسد من تشويه البيئة العائد إليها بعد وقت. لا سواد في
باريس، لمن
أراد تنشّقاً فعلياً لهواء أنقى، ولحرية لا تحدّها قيودٌ أو
التزامات، مع أن
تحوّلات متفرّقة أصابت الدنيا وناسها. في باريس، تتّسع الجغرافيا إلى أقصى
حدّ، أو
إلى أبعد جنون. تتطهّر الروح. نقاءٌ أليف تفتقده في يوميات القهر البيروتي،
فتعثر
عليه في أزقّة مبلّلة بأجمل مياه، وأبرعها اشتغالاً في منح
الزائر روعة الانغماس في
ملذّات مدينة وحيويتها.
في باريس، يزداد شغفك بالشاشة الكبيرة، لأن المدينة
صنعت مناخاً لا يوصف لهذه الممارسة. صنعت مناخاً لا بديل منه، ولا شبيه به.
نك هورنبي: «تربية»
هذه عادة سائدة في
الغرب. هناك ناشرون مهتمّون بكتب سينمائية متفرّقة. المكتبة السينمائية
الغربية
ثرية بهذا النوع من الإصدارات: إصدار سيناريوهات أفلام سينمائية متفرّقة
مطبوعة في
كتب، بهدف تقديم النصّ السينمائي (السيناريو فقط) إلى قارئ مهتمّ.
تزامناً مع
إطلاق عروضه التجارية الدولية، وجد سيناريو فيلم «تربية» لنك هورنبي
(إخراج: لون
شيرفنغ. تمثيل: بيتر سارسناد وكاري مولينان وألفرد دومولينا) طريقه إلى
النشر.
الترجمة إلى الفرنسية معقودة على إليزابيت كيرن. الناشر: «منشورات الجيب»،
سلسلة «10/ 18».
القصّة: هناك شبهٌ ما بالحكاية المعروفة للوليتا، ابتكار فلاديمير
نابوكوف. عام الأحداث الروائية والدرامية: 1961. الطالبة
المدرسية المراهقة جيني
(16
عاماً) لامعة. نجاحها أتاح لها فرصة الانتساب إلى جامعة أوكسفورد. لكن
لقاءها
رجلاً يبلغ ضعفي عمرها فتح مجالاً واسعاً أمام عوالم وتصرّفات وسلوك مناقض
للسابق.
إنه عام افتتاح مرحلة الستينيات الأوروبية،
بما حملته من جنون وتمرّد وفوضى، وسعي
دؤوب إلى التحرّر من سطوة التقليد.
السفير اللبنانية في
11/02/2010 |