عمدت مؤسسة والت ديزني الأمريكية
إحدى كبريات شركات الإنتاج السينمائي في العالم إلى تكريس نمط فني ثابت
يعتمد على
نموذج البطل الأسطوري لإثارة خيال الطفل وتعويضه بالصورة السينمائية عما
يعجز عن
تحقيقه من مغامرات على مستوى الواقع، وبفضل هذه السياسة أصبح
'سوبرمان و مازينجر'
وغيرهما شخصيات من لحم ودم لا مجال للطعن في قدراتها الخارقة من وجهة نظر
الأطفال،
ومن ثم فإن أي خلاف حولها ستحسم نتائجه لصالحها دون أي نقاش وهو التسليم
الأعمى
الذي تسببت فيه 'الميديا' الغربية وأدى إلى شيوع ثقافة العنف
وتراجع الإبداع العربي
وعدم التواصل معه، فما كان يعرفه الطفل المصري عن علي بابا وعلاء الدين
وسندباد قد
تلاشى وحلت محلة بدائل أخرى مستوردة، سرقت من التراث العربي وأعيد إنتاجها
بوصفها
فناً أمريكياً محضاً متكامل العناصر ويحتوي على كل مكونات
التشويق والإثارة، وهذه
مغالطة كبرى مع التسليم طبعاً بقدرة المؤسسة الأمريكية الفائقة في عملية
التفوق
التكنولوجي واستخدام أحدث تقنيات التحريك ووسائل 'الدبلجة' لمحو هوية
المصنف العربي
الأصلي وتحويله الى فيلم أمريكي لا يقبل القسمة على اثنين، وإزاء هذه
القدرات
منقطعة النظير وجبروت الآلة الصناعية الأمريكية هيمنت والت
ديزني على السوق
العالمية وأغرقتة منطقة الشرق الأوسط بأفلامها وأبطالها وأساطيرها، وباتت
هي الشركة
الوحيدة صاحبة التوكيل المعتمد لتوزيع وتسويق أفلام الكارتون، وعليه فقد
إحتلت موقع
الصدارة في المهرجانات العربية والعالمية، وهو ما يؤكده حجم
إسهاماتها في المسابقة
السنوية لمهرجان سينما الأطفال الذي يقام بالقاهرة وتفتتح فعالياته عادة
بفيلم من
إنتاج ديزني كما حدث في الأعوام الماضية، حيث عرضت أفلام مثل 'أحدب نوتردام'،
و'الولد القرش والبنت اليرقة'، وكلها أفلام تحتوي مضامينها على
أفكار سياسية تهدف
الى تنشئة الطفل في مرحلة مبكرة من عمره على مبدأ أن الولايات المتحدة
الأمريكية هي
القوة العظمى في العالم، وهو الأمر الذي أرق شركات الإنتاج الآسيوية التي
إعترف
أصحابها بأن والت ديزني تغلق أبواب التوزيع الخارجي في سوق
السينما العالمية على
أفلامها هي فقط مما يلحق بهم خسائر فادحة ويهدد صناعتهم ومنتجاتهم
بالبوار!
المشكلة الآن لم تعد في الهيمنة على المهرجانات والأسواق فحسب وإنما
امتدت إلى المحطات الفضائية، حيث باتت الفضائيات نوافذ مفتوحة
(على البحري) لترويج
الأفكار قبل الفن، فالمعلوم بالضرورة أن معظم شركات الإنتاج الأمريكية تعمل
برأس
مال محافظ ومؤيد لاسرائيل يتحكم في المصنف الفني نفسه ويستخدمه استخدامات
توافق
ميوله السياسية ورأيه في جمهور دول العالم الثالث وعلى رأسها مصر، وهذا ما
ينفي
مبدأ الأمانة الفنية والإبداعية ويشكل خطورة على ثقافة الطفل
المصري - العربي، إذ
أن ما يعتقده الطفل في الصغر يحمله معه في الكبر ويبني عليه وجهة نظره في
القضايا
محل الخلاف بيننا وبين الآخر، خاصة أن الطفل يقضي ساعات طويلة أمام
التليفزيون
والكمبيوتر ويتأثر سريعا بما يعرض له، ومن السهل اقتحامه
بأفكار مغلوطة ومشوشة، لا
سيما أن القائمين على عملية الإعداد التليفزيوني غير مؤهلين بالشكل الكافي
لوضع خطة
برامجية سليمة تفرق بين ما يسمى برامج للأطفال وبرامج أطفال وبرامج عن
الأطفال وهي
الثلاثية المحيرة التي تستوجب وعياً إضافياً وثقافة رفيعة لابد
من توافرها عند معدي
برامج الأطفال وفق ما ورد في دراسة صدرت حديثا تحت عنوان 'فن الإعداد
التليفزيوني'
للباحث والكاتب المتخصص طلال سيف، فقد
اشتملت الدراسة على بحث منهجي مختصر حول
ثقافة الطفل وعوامل تشكيلها إنفعالات الأطفال والإعداد
البرامجي الرسالة
التليفزيونية والمراحل العمرية تقسيمات برامج الأطفال بمحاورها الثلاثة
المذكورة.
كما تناولت الدراسة ايضا مؤثرات الإدراك عند الطفل مثل الصورة واللون
والشكل والمكونات المتمثلة في الديكور والإكسسوار والإضاءة
والعنصر البشري،
بالإضافة إلى مؤثرات أخرى تعمل على تنشيط الذهن وتقوية الحواس، متمثلة في
التعليق
الصوتي الحوار الضوضاء الأصوات الحية الموسيقى التصويرية، ويقصد بالضوضاء
هنا
الأصوات الصادرة عن العنصر الجمادي الموجود في المصنف الفني أو
البرنامج مثل
الأجراس و'الصفافير' وطلقات الرصاص وأصوات القطارات وهدير الدبابات وغيرها،
والتي
تعتبر عنصرا من العناصر المكملة للصورة ويمكن استخدامها بشكل معلوماتي وهي
تصلح لكل
الأعمار السنية ويجوز أن ترد داخل العمل الفني كعنصر دلالي
أيضا.
أما الأصوات
الحية فهي كل ما يصدر عن كائنات كالقطة والكلب والثعلب، إلى آخره، على
مستوى آخر
وضع الباحث طلال سيف في دراسته نموذجا لسيناريو مكتوب لفيلم
بعنوان 'الحصان الأبيض'
لم يتم تنفيذه بعد، رأى أنه الأنسب من حيث اللغة وأسلوب المخاطبة والصورة
والمضمون،
فقد راعى فيه تكوين وجهة النظر السياسية للطفل بشكل غير مباشر
عن طريق الصراع
الدائر بين قطبي العمل، العساكر الإنكليز والفدائيين المصريين، وكذا الحصان
الأبيض
رمز الخير والحق والجمال، وأيضا لم يغفل طلال الجانب التراثي في الفلكلور
الشعبي
المتصل بألعاب الأطفال فأشار إلى اللعبة الشهيرة 'عسكر وحرامية' ولعبة
الاستغماية
وبعض الألعاب الأخرى الشائعة بين الأطفال في مراحل عمرية
مختلفة ليدلل على أهمية
الاستفادة من كل أشكال التسلية الواردة في حياة الطفل اليومية عند التعبير
عنه
سينمائياً أو برامجياً، ويقصد بالطبع ما تحتويه حلقات البرامج التليفزيونية
من
فقرات درامية لتقريب المفهوم النظري للطفل وتجسيده بشكل مثير
ومشوق، يأخذ سيف في
دراسته بعض النواقص على الحلقات البرامجية الموجهة للأطفال، من بينها
الفجاجة
والمباشرة والسطحية وسوء العرض وعدم إحترام عقلية الطفل وافتراض السذاجة
والتغاضي
عن فوارق الذكاء والميول الفطرية والرغبات المختلفة بين
الجنسين، 'الولد والبنت'،
فضلا عن عدم إدراك السمات المميزة للبيئة التي ينشأ فيها الطفل
والتي تحتم تقديم ما
يناسب عقليته ونشأته وطبيعته الإنسانية، حيث من المفهوم بديهياً وجود
إختلافات
جوهرية بين طفل القرية وطفل المدينة والطفل المولود والناشىء في منطقة
الحضر.
أشياء كثيرة وتفاصيل دقيقة تضمنتها الدراسة العلمية - الأدبية لطلال سيف
تقودنا للربط بينها وبين ما بدأناه عن أفلام والت ديزني
الموجهة والمدروسة سلفاً من
الناحية العلمية والفنية قبل إنتاجها وتوزيعها، فتلك المشروعات السينمائية
العملاقة
لا تُترك فيها الأهداف للصدفة وإنما لكل فيلم موضوعه ومساره ومقصده ونتائجه
التي لا
تخفى على كل ذي بصر وبصيرة وحاسة نقدية نشطة.
القدس العربي في
05/02/2010 |