هاجس من المؤكد راودنا جميعا: ماذا بعد فناء العالم؟! عرف العالم حربين
عالميتين وليست هناك ثالثة على الأبواب ولكننا نرى عبثا نوويا هنا وهناك من
الممكن في لحظة أن تجد هذا الكون وقد صار رمادا. أفلام عديدة توقفت أمام
نهاية العالم وتمنح دائما أملا في حياة جديدة بعد أن تزول الحروب والموت
والفناء ليخلَق من الدمار عالم جديد وكأنه تنويعة أخرى على أسطورة طائر «الفينيق»
- العنقاء - الذي يحترق ليولد مرة أخرى.. فيلم «كتاب إيلي»، الذي أخرجه
الأخوان التوأم ألين وألبرت هيوز، هو قراءة أخرى لهذا الاتجاه مع إضافة غير
تقليدية. إنه الإيمان وكتاب الله الذي يحمل دعوة للسلام، وهو ربما يبدو
للوهلة الأولى ظاهرة غريبة على المجتمع الأميركي، إلا أنها في واقع الأمر
تشكل إيمانا عميقا بوجود قوة إلهية تحمي هذا الكون. ومن هنا جاءت فكرة
الكتاب الذي يحمله «دينزل واشنطن» العبقري الأسمر صاحب جائزتي «أوسكار»
وحوالي 5 ترشيحات للأوسكار، لقد استمع إلى صوت غامض من داخله يطالبه بأن
يتجه غربا حتى يتم توصيل هذا الكتاب، هو لا يدري شيئا سوى أن هذا واجب وقدر
لا يمكن الفكاك منه. يؤدي «دينزل» دور الرجل حامل الرسالة، إنه يحمل النسخة
الوحيدة المتبقية من الكتاب المقدس، إنه كفيف ولهذا فإن النسخة مكتوبة
بطريقة «برايل» - الحروف المحفورة - ليتمكن من قراءتها.. هو في واقع الأمر
لم يتوقف عن قراءتها بل وحفظها!! «The
Book of Eli» إنه كتاب إيلي، ولكننا نكتشف مع اقتراب النهاية أنه كتاب يحوي
التوراة والإنجيل. الاسم الذي عرض به الفيلم تجاريا في مصر هو «العملاق»
وهي بالطبع تسمية لا تعني سوى أن الجمهور سوف يذهب لمشاهدة فيلم أكشن ينتصر
فيه القوي الأسمر مفتول العضلات الضرير على كل أعدائه وهي قراءة تظلم تماما
هذا الفيلم.
الأحداث تجري بأرض قاحلة مدمرة وسماء حزينة.. هكذا نرى مع بداية الأحداث
البطل ملقى على الأرض ويمنحه المخرج إحساسا بالأسطورية، حيث ينطلق سهم يقتل
إحدى القطط الضخمة المتوحشة قبل أن تهم بالتهامه. الزرقة تغلف الجو العام
الخارجي والوحدة هي التي تبدو على هذا المكان الذي نكتشف أنه قد بدأ زمنيا
بعد 30 عاما من نهاية العالم. حاسة الشم تؤهل البطل لكي يكتشف أن هناك جثة،
وهو ينقصه حذاء. يأخذ منها الحذاء. وتتيح له أيضا حاسة الشم ورهافة السمع
أن يصطاد قطا يأكله وعندما شعر بأن أمامه فأر جوعان يمنحه قطعة من لحم القط
المشوي.. وهكذا، وعلى عكس الطبيعة، يأكل الفأر لحم القط. ملامح الشخصية
التي تمتلك سيفا باترا ولديه حقيبة يضع داخلها الكتاب المقدس، هو لا يستخدم
أبدا السيف سوى في الدفاع عن نفسه وكأنه الساموراي الياباني. تقوده حاسة
الشم للعراك مع عصابة.. لا يريد شيئا من أحد ولكنه فقط يسعى للسلام مع
الجميع، لديه رسالة نكتشفها في نهاية الأحداث وهو أن يطبع الكتاب المقدس
قبل أن يندثر.. إن الدين - وهو ما يؤكده الفيلم - ليس في الكتاب، ولكن في
تفسيره، وهكذا فإننا نستطيع أن نتفهم دوافع تلك الشخصية التي لديها هذا
الهم.. أراد له المخرجان التوأم أن يضع الجمهور في حالة من التساؤل الغامض،
وهكذا نرى ندبة في ظهره لتخبرنا أن الدمار الذي شهده العالم قبل 30 عاما
ناله أيضا قدر من العنف.. الشخصية التي تقف على الجانب الآخر دراميا لتشعل
الصراع هو «غراي أولدمان» إنه يتحكم في عصابة تأتمر بأمره فهو يعرف مصدر
الماء ولهذا يقود الجميع.. هو أيضا يبحث عن هذا الكتاب المقدس لكي يحكم
العالم على طريقته.. إنها وجهة نظر أخرى في الدين؛ كيف أن التفسيرات
الخاطئة للأديان – كل الأديان – أدت إلى اندلاع الحرب حتى بين أصحاب الدين
الواحد والطوائف المتعددة؛ الكاثوليك والبروتستانت، أو السنة والشيعة..
لمحة القسوة وخفة الظل تعلن عن نفسها في أداء «أولدمان» في علاقته مع أفراد
العصابة أو مع «إيلي» حامل الكتاب.. يرسل له ابنته بالتبني وتؤدي دورها
«ميلا كوبنس» التي تعيش معه في قلعته، على أنها إحدى الهدايا التي يرسلها
للرجل وتقدم نفسها إليه لكنه يرفض أن يمسها ليعطي للشخصية ملمحا يبتعد فيه
بقدر عن البشرية طوال أحداث الفيلم، ونحن نراه عزوفا عن النساء يبدو في
زاوية ما أنه غير قابل للموت وفي زاوية أخرى أنه بشر عادي والدليل أنه لا
يتحمل العطش ولا الجوع ثم يموت في نهاية الأمر. القوة المفرطة التي يستند
إليها تبدو في جانب منها طاقة روحية لأن لديه رسالة يريد توصيلها للمطبعة
الوحيدة التي تم إنشاؤها وتقع في الاتجاه الغربي بالقرب من المحيط، وهكذا
جاءت له الرسالة بمصدرها الأسطوري بالاتجاه غربا، ونكتشف أن أول ما فكروا
فيه هو أن يحتفظوا بالأدب، وهكذا يخبره المسؤول أنه طبع كل مسرحيات «وليم
شكسبير»، استعادوها مرة أخرى. إنه يذكرني بفيلم فرانسوا تريفو «451
فهرنهايت» حيث كان الحفاظ على الكتب هو الأساس الذي قام عليه الفيلم
الفرنسي و451 هي درجة احتراق الورق أصبح الأشخاص في الفيلم الفرنسي هم
الورق. دائما الحياة حتى تستقيم لا تستغني عن الكتاب، والمقصود به القيمة
الروحية، فما بالكم لو أننا بصدد الكتب المقدسة. الجانب الشرير ينتهي بأن
يتمرد عليه الجميع حتى من يتصور أنهم صاروا عبيدا له وهكذا جاءت نهاية «أولدمان»
بينما تنتهي رسالة «دينزل واشنطن» ويرحل بعد أن حفظ الكتاب المقدس مرة أخرى
وأعاد طبعه. التفاصيل السينمائية تستطيع أن تلمحها في هذا الجو الأسطوري
الذي أعلن عن نفسه بوضوح في شخصيات الفيلم. البطلان وأيضا شخصيتا البطلتين
المساعدتين الضريرة التي تعمل لدى «أولدمان» وابنتها وأديتا دوريهما «جينيفر
بيتس» و«ميلا كونيس». شخصية الزوجين العجوزين آكلي لحوم البشر اللذين تصادف
أن التقيا مع «دينزل واشنطن». البداية الوحشية التي نرى عليها الحياة بعد
الدمار الشامل الذي مني به العالم. كل الشخصيات تحمل قدرا من هذا التوحش
الذي أنبته فناء العالم، حيث البقاء للأقوى. الفيلم قليل الحوار يعتمد في
أغلب مشاهده على أداء الممثلين بالإيماءة أو بالنظرة.. حافظ المخرج على أن
يمنح الأحداث قدرا من التشويق حتى اللحظة الأخيرة لأننا لا ندري أين هي
الوجهة التي يذهب إليها البطل ولماذا غربا إلا مع الختام.. يناصر الفيلم
الإيمان الحقيقي الذي يرى الوجه الصحيح للدين. وإذا الإيمان ضاع فلا أمان!!
t.elshinnawi@asharqalawsat.com
الشرق الأوسط في
05/02/2010 |