بعد عرضه الأول في مهرجان دبي السينمائي، حطّ فيلم المخرج الفلسطيني
رائد أنضوني
في مهرجان «ساندنس» الأميركي الذي افتتح ابوابه قبل ثمانية ايام ويستمر حتى
الأحد،
محتضناً فيلماً عربياً آخر هو «ابن بابل» للسينمائي العراقي محمد الدراجي.
ولا شك في ان المشاركة في مهرجانات عالمية حلم يدغدغ اي صانع فيلم
عربي، حتى وإن
كان بعضهم يقلل من اهمية هذه المشاركة، حين يتعلق الأمر بفيلم فلسطيني أو
عراقي او
لبناني، معتبراً ان الاختيار لا يتعلق بفنية الفيلم بمقدار ما يتعلق
بالسياسة.
وبصرف النظر عما إذا كانت هذه النظرية لا تزال صالحة اليوم مع تطور
السينما في
هذه البلدان-أقله السينما الفلسطينية والسينما اللبنانية - ام لا، لن تقف
جولة «صداع» عند حدود المهرجانات، كما يقول
أنضوني لـ «الحياة»، إنما ستكون له فرصة
العرض في الصالات السينمائية الفرنسية. وهذا انتصار آخر يُسجّل
لمصلحة هذا الفيلم،
خصوصاً إذا عرفنا انه ينتمي الى السينما الوثائقية التي لا تجد غالباً
مكاناً لها
الا في المهرجانات وشاشات التلفزيون.
الشرارة الأولى
لكنّ فيلم أنضوني، وإن صُنف تحت خانة الأفلام الوثائقية ليس فيلماً
وثائقياً
صرفاً. إنما هو فيلم وثائقي دارمي. فبمقدار ما أن الوثيقة موجودة بمقدار ما
أن
إطلاق العنان للخيال وللعنصر الروائي موجود. ولعل المخرج هنا أيضاً أراد ان
يطبق
الفكرة التي يدور حولها طوال الفيلم وتتلخص بتوقه لعدم حصره في
إطار. فهل من السهل
الانسلاخ عن واقع بمثل هذا الجنون الذي تعيشه فلسطين؟
يقول: «لا اريد ان احرر فلسطين من خلال الكاميرا، ولا اريد ان ابني
جسوراً بين
الثقافات. هل تقبلونني كما انا؟ أن تكون فلسطينياً يعني إما ان تكون بطلاً
وإما ان
تكون إرهابياً. أما انا فأريد ان أكون إنساناً عادياً. أريد ان أكون ضعيفاً
على رغم
انني أعرف انني لست كذلك. فنحن نعيش صراعاً، وإذا تنازلنا عن
القوة نكون كمن يذهب
الى المعركة من دون سلاح».
انطلاقاً من هذا الصراع الداخلي، يعاني أنضوني من صداع هو الشرارة
الأولى لتحقيق
هذا الفيلم. محرّك قد يبدو غريباً بعض الشيء، فمن غير المألوف ان يحقق
احدهم فيلماً
ليكتشف سبب صداعه. «فما همّ الناس من وجع رأسك»، تقول له والدته... لكنّ
أنضوني
يمضي في مسعاه غير آبه بكل ما قد يقال، ولا يتوانى عن طرق باب
معالج سيكولوجي بحثاً
عن سبب صداعه، وبالتالي بحثاً عن ذاكرة مفقودة.
وبموازاة جلسات العلاج النفسي التي ينقلها كما هي في هذا الشريط، تبدأ
جولته على
عدد من أصدقائه وأقاربه لتجميع نتف نتف من ذاكرة ضائعة. فهذا صديق الزنزانة
عمر
الذي يعيد إليه حكايات من أيام اعتقاله على يد السلطات الإسرائيلية
شهوراً... لكنّ
بطلنا لا يتذكر منها الكثير. وهذه شقيقته تستعيد ألبوم صور
لأنضوني وهو أصغر سناً،
لكنّه في صور كثيرة لا يتعرف على نفسه... وبين هذا وذاك نقاشات مع الأهل
حول الوجود
والهوية والصراع. يقول أنضوني: «نحن ورثنا قصة كبيرة. فإما ان تمحوها من
ذاكرتك
وتعيش مريضاً طوال حياتك، وإما ان تكون جريئاً وتطرح الأسئلة
الصعبة. هاجسي هو ان
اعرف من أنا؟ انا الإنسان، الفلسطيني، السينمائي. انا ضمن المجموع. ثم اطرح
السؤال:
من نحن؟ نحن شعب فلسطيني... نحن مجموعة من
الكائنات البشرية نتشارك تاريخاً معيناً
وقصة معينة، وولدنا بالصدفة في مكان مشترك. بالتالي نحن مجموعة
من الأفراد».
فهل يفهم من هذا الكلام ان الهوية الفلسطينية عبء بالنسبة إلى أنضوني؟
وهل
الفيلم محاولة للمصالحة مع الذات؟ «لو ولدت من جديد وقدّر لي ان اختار بين
ان اكون
فلسطينياً او اسرائيلياً، حتماً كنت سأختار الهوية الفلسطينية، لأن من
السهل
بالنسبة إلي ان اكون من طرف الضحية من ان اكون من طرف الجلاد. ولا شك في ان
الفيلم
محاولة للمصالحة مع الذات، ومع التاريخ. فنحن اليوم نمحو فصلاً
من تاريخنا، وبعدما
كنا في السبعينات متجهين نحو الحداثة، ها نحن ننحو اكثر فأكثر نحو التعصب
والتشدد
والانغلاق على أنفسنا».
وعلى رغم جرأة أنضوني في الوقوف امام طبيب نفسي وتعرية ذاته امام
جمهور عريض من
خلال طرح اسئلة حول الوجود والآخر والفرد والمجموع، إلا ان المشاهد لا
يتعاطف معه،
خصوصاً انه لا يتوانى عن الكلام عن تميّزه. فهل نرجسيته هي رد فعل على
الدونية التي
عومل بها في بلده كفلسطيني؟ يجيب: «ربما. وربما أيضاً هي نتاج
اللاأمان. لكنّ الأهم
هو انني كنت شجاعاً بالاعتراف امام الكاميرا».
كرة طاولة مع الواقع
يسير فيلم «صداع» على ثلاثة خطوط رئيسة: التجربة السيكولوجية
والوثائقي
والفانتازيا. ولعل هذا الاتجاه الأخير حدا ببعضهم إلى تشبيه الفيلم بأفلام
وودي الن
وإيليا سليمان. اما أنضوني فيرفض هذا التشبيه، ويقول: «لو كان فيلماً
روائياً كان
هذا ممكناً.. قد نتشارك الرسالة الإنسانية، لكنّ الأساليب مختلفة، وفيلمي
يشبهني
انا فقط». وإذ يقول أنضوني انه يلعب لعبة كرة الطاولة مع
الواقع في افلامه، يشير
الى انه قد يقترب الى السينما الروائية
اكثر في فيلمه المقبل، من دون ان يعني هذا
ان الفيلم الوثائقي اقل درجة من الفيلم الروائي. فدور الفن بالنسبة إليه هو
ان يظهر
المحسوس غير المرئي. وهذا ما دنا منه في «صداع» الذي لم يستطع ان يُخرج
بطله من
الدائرة المفرغة التي يدور فيها، فكانت نهاية الفيلم بلقطة
مقربة لعين الجمل، التي
تمثل في الفلسفة، كما يقول أنضوني، عين الفلسفة... لكنّ الجمل مربوط بالأرض
ويدور
حول نفسه. وربما هذه حال مخرجنا الذي لم يلق العلاج الشافي بعد هذا الفيلم.
وربما
لن يحصل هذا الا حين يكون «للطرف الآخر الشجاعة في الحديث عن
سيكولوجيتهم».
ولكن الا يرى أنضوني في تجربة الفيلم الإسرائيلي «فالس مع بشير» وسواه
من
الأفلام المماثلة شجاعة ما عند الحديث عن الآثار النفسية التي لحقت بالجندي
المحتل؟
يجيب أنضوني: «فيلم «فالس مع بشير» من اكثر الأفلام كذباً لأنه يتعامل مع
سيكولوجية
المنتصر. اما الأفلام الإسرائيلية التي احترمها فأفلام آفي مغربي كونها
حقيقية
وتصيب الوجع».
الحياة اللندنية في
29/01/2010
«الكفالة»
يفتقد إلى كفالة درامية رغم
نهاية مفاجئة
فجر يعقوب
يبدو بعض الأفلام السينمائية القصيرة، وكأنه في حاجة لـ «محاكاة» نوع
من
المفاجأة تتجلى في الدقائق الأخيرة من الفيلم، كي يتجاوز بعض الرتابة التي
يقوم
عليها، وهو بذلك إنما يحقق معادلا ما لبقعة ضوء تلفزيونية فيها
شيء من السخرية
السوداء التي لا تقول شيئاً وتقول كل شيء.
فيلم «الكفالة» للمخرج المغربي الشاب نوفل براوي، لا يخرج عن هذا
الإطار الذي
اختطه لنفسه عبر خمس عشرة دقيقة، ربما كانت كثيرة لإبراز الفكرة التي أراد
المخرج
براوي إيصالها لنا. وإن كان الفيلم يتكئ على حرفية بارزة في إدارة الكاميرا
والممثلين (توراي علوي – علي اسماي)، ولكن ما ينقصه – للمفارقة
– هو دأبه على صناعة
مفاجأة قريبة من (الخبطة) التي تنال ليس من المشاهد بالدرجة الأولى، وانما
من
الفيلم نفسه.
«الكفالة» يحكي قصة السجين أحمد، وهو خمسيني يخرج لتوه من السجن، ويجد
نفسه
وحيداً وأعزل تماماً، وكأن الكون خلا مما عداه في هذه اللحظات التي تلي
نيله حريته،
وهو يبحث هنا عن رفقة درب مبررة ربما، أو عن فكرة بدت ملحاحة عليه. فهو
سيتوجه
بالضرورة إلى بيته، ملجأ أفكاره كلها، ومن الواضح ومن دون
مقدمات تذكر، أنه ليس ثمة
أحد ينتظره أو يتوقع خروجه من سجنه. فلا مقدمات من أي نوع كشفت مثلاً عن
زيارات
متقطعة له في السجن. المخرج براوي يختار هنا أن يبدأ من لحظة تنشق بطله
نسيمات
الحرية، وتبرمه وتلكئه في طريقه إلى البيت، الحصن الذي يفترض
أن يكون دافئاً بعكس
الزنزانة، ولكن المفاجأة الأولى تكمن في خلو البيت ممن يمتّون اليه بصلة
قرابة أو
يشكلون له عائلة. فيلجأ إلى الحصن الثاني الذي يتجلى في معمل خرب ومهجور
كان قد
أخفى فيه حقيبة جلدية مملوءة بالمال المسروق، كان هو الدافع
وراء سجنه على ما يبدو،
ويخرجها من تحت التراب، ويقرر التوجه إلى حانة لقضاء بعض الوقت.
يدخل أحمد ويطلب كأساً من الجعة المثلجة. يسأله النادل ما إذا كان
يمتلك مالاً،
ويهز برأسه دلالة وجوده معه، ويلفت هنا المخرج انتباه المشاهد إلى الحقيبة،
وكأنه
يغمز للنادل في خطوة لم تكن في مصلحة الفيلم على أية حال، فالكاميرا سمحت
باستجلاء
أمر الحقيبة الجلي أصلاً قبل أن تتعقد الأمور من حولها، لأنها
ستكون الهدف من
زيارته الحانة وقعوده فيها ولقائه بكاعب حسناء مغناج قصدته بإشارة من
النادل نفسه،
كي تروّح عنه وتسليه وتنسيه همومه كما يفترض قبل أن تختفي الحقيبة من بين
قدميه،
ويلقى به خارج الحانة، هنا يذهب ويتدبر أمره بعيداً عنها في
معالجة فيها استخفاف
كبير، فقد كان أجدر بالمخرج براوي الوقوف عند موضوع الحقيبة والتدقيق بها
جيداً
والالتفاف عليها ما أمكنه ذلك. فالحقيبة كانت سبباً رئيساً في إيداعه
السجن، وقضاء
محكومية أطاحت بها المعالجة الدرامية للفيلم من دون تعميق لها والشغل
عليها، لأن
المخرج كان محكوماً بالعمل على المفاجأة الأهم. فأحمد سيعود محبطاً
ومخذولاً من دون
حقيبته إلى البيت، وسيقرع الباب بالتأكيد، وهذا أول ما سيفعله، لتفتح له
الكاعب
المغناج التي التقاها في البار، وتسلطت عليه وعلى حقيبته،
وستكون – للمفاجأة
الكبيرة – ابنته التي لم يعرفها، ولم يقم بتربيتها من قبل، فهو كان قابعاً
في
السجن، وكانت هي تشب بعيداً منه كفتاة ليل يمكنها الإيقاع بمن
تشاء ووقت تشاء
بالغرباء، كما بأبيها.
«الكفالة» وإن خلا من التكثيف السينمائي المطلوب في مثل حالته، إلا أنه
حافظ على «ميزانسين»
هادئ وإضاءة معبرة سمحت بقياس حالة أحمد النفسية وهو يزيد من (انحداره)
الأخلاقي على يدي من يفترض انها ابنته التي شكلت المفاجأة الأهم في الفيلم،
ولم تكن
على هذه الحالة بالنسبة للمشاهدين، أو بعضهم على الأقل.
الحياة اللندنية في
29/01/2010 |