دعونا لا نتأخر في قول ما يفترض قوله في "تسعة"
لروب مارشال. هذا الفيلم انشودة للجمال، الجمال الذي يأخذ أشكالاً
متعددة... حيناً
يتجلى في صورة النسوة اللواتي يزدحم بهنّ الفيلم، وحيناً يجد
ضالته في المدينة
المشعة (روما)، المدينة الأبدية، أيام الستينات التي لا تنسى، وحيناً
ثالثاً
وأخيراً يتغلغل في الرؤية التي يأتي بها مارشال عن السينمائي، أي سينمائي،
يستحق
عموماً ان يسمّى كذلك. هكذا، وباختصار، يمكن القول ان لقاء الجمالات هذه،
ينتج منه
مزيج من الميلودرامات الميوزيكالية الذي قد يستفز بعض محبي هذا
الـ"جانر"، لأنه
يعطل ثوابت قديمة - جديدة، لكنه يبقى نزيهاً على طول الخط، قافزاً بنا الى
عوالم
فانتازية مستحبة.
القصة هي قصة غويدو كونتيني. مخرج ايطالي نجم عرف سابقاً
أياماً مجيدة، لكنه الآن في حقبة أقل تميزاً من مجمل مساره. مع قليل من
الشؤم يمكن
اعتبار هذه الحقبة بداية النهاية بالنسبة اليه... انها السيرة
الكلاسيكية للمخرج
الذي يفقد إلهامه؛ ينظر من حوله ولا يجد ما يقول. مع ذلك بقي كونتيني هدفاً
للمعجبين أينما حلّ. النقاد ينحنون أمامه أجلالاً (ولو كان البعض منهم لا
يخفي عدم
اعجابه بأعماله الأخيرة)، والنساء يطاردنه والجمهور العريض لا يفوّت مناسبة
لقول
كلمة طيبة في شأنه. بين زوجته وعشيقته والممثلة التي سيسند اليها دوراً في
فيلمه
المقبل، قلب كونتيني منقطع تماماً عن الواقع، تماماً كحبل
أفكاره. التقاط مشاهد
فيلمه المقبل، عن محصلة حياة أمضاها خلف الكاميرات، سينطلق بعد بضعة أيام
ولا يوجد
حتى الآن الا شذرات سيناريو. أفضل الحلول في هذه الحالة هو اللجوء الى
مخيلة خصبة
تشغل النساء فيها حيزاً كبيراً.
هل أراد مارشال أن ينجز فيلماً آخر عن أزمة
الخلق أو لحظة الولادة العسيرة؟ نعم، نعم وثم نعم. لكن فعله
بحب ونزعة الى تضخيم
ملامح الحكاية، كمن أراد ارسال قبلة الى تلك السينما الستينية التي تأسس
عليها
الرعيل الأكثر نشاطاً وحضوراً اليوم في السينما العالمية. فنحن قبل أي شيء
آخر،
أمام فيلم يمجد السينما والسينمائي وآلات التصوير وعطر
الممثلات، وكذلك ديكورات
ستوديوات تشينيتشيتا وأجواء تكرار المشاهد والشرائط الخام وضجيج احتكاك
البكرات
التي تدور على نفسها، وعدة كاملة متكاملة من أشياء تكوّن منها عزّ سينيفيلي
عريق
نعلم أين أصوله وتاريخه، لكننا نجهل الى اين من الممكن أن
يوصلنا، مرة بعد مرة، على
أجنحة الرغبة السينماتوغرافية.
هذا التكريم البديع للسينما لا شك أنه سيذكّر
كثيرين بأفلام عدة، أهمها "الازدراء" لغودار و"الليل الأميركي"
لتروفو و"كل هذا
الجاز" لبوب فوسه. لكن هناك فيلم مؤسس لهذا الميوزيكال، لا
يمكن إنكار انه كان
الاصل الذي استند اليه مارشال، وهو "ثمانية ونصف" لفيلليني، رائعة المعلم
الايطالي،
وأفضل الأفلام التي تحدثت عن عملية الخلق السينمائي من داخل عقل المخرج الى
خارجه.
من خلال عودته هذه الى العصر الذهبي
للسينما الايطالية، يركز مارشال على تفصيل لافت
وذي أهمية: الارتجال والمزاجية المعمول بهما يحملان كونتيني،
مثلما حملا قبله
سينمائيين كثراً، الى الابداع والانشراح، وأيضاً الى الالم والاضطرابات.
الفجيعة
معبد الخلق. الفكرة ليست جديدة، لكن لا بأس بذلك!
وهنا ينبغي توضيح شيء (تمسكوا
جيداً)، وهو أن الفيلم مقتبس من مسرحية عُرضت للمرة الاولى عام
1982، وهذه المسرحية
كانت منقولة من كتاب لأرثور كوبيت المستوحى بدوره من رواية لماريو فراتي
التي يقال
انها استلهمت من "ثمانية ونصف" لفيلليني! هذه لقاءات سوريالة حقاً تفضي الى
فيلم
ليس أقل سوريالية.
في كل حال، لا يخفي مارشال استلهامه من "ثمانية ونصف"
لاعادة تقديمه وفق معايير هوليوودية، تجعلنا نعتبر الفيلم ممارسة اسلوبية
على قدر
من الجرأة، أقله تقنياً واستعادياً، اذ من خلاله يقلد مارشال، تمثيلاً
وتصويراً
واخراجاً، روحية سينما فيلليني. اذاً نحن حيال شغل يتكوّن في
معظمه من تقليد شيء
ما. لكنه تقليد جيد وذو نيات طيبة. تقليد مخلص للاصل الذي يتمثل به ويحييه،
وذلك من
اصغر كادر حميمي الى أروع لقطة بانورامية، حيث طيف المعلم يخيّم طولاً
وعرضاً.
يأتي مارشال كتلميذ متأخر في صفه، انطوائي وخجول، ليقول لنا أموراً
تعزّ عليه
وعلى الذين لا يزالون يحنّون الى أزمنة غابرة لم يعد هناك مثيل لها، في زمن
تتجه
هوليوود الى الترفيه الباهظ الكلفة وذي الرؤية الشاملة للكوكب
الذي نعيش فيه، من
خلال أفلام تصر على عاهات جدتنا الأرض، مبيّنةً اياها مكاناً لا يحلو فيه
العيش.
ومن دون ان يحمل على كتفيه خطاباً ثقيلاً،
أو أن يسلّم أمره الى محاكاة كيتش، يدخل
مخرج "مذكرات غيشا"، في صلب "أنترتنمنت"، تجسد الموسيقى قوامه
الاساسي، لكن فيه شيء
من الـ"ريترو" الذي يحاكي القلب ويداعب الاحساس.
ليست المشاهد كلها على مسافة
واحدة من الابداع والرقي. فمعظم الكوريغرافات عادية وغير
مكتملة ("فولي بيرجير"،
نموذجاً)، والأفضح هو الأداء الراقص لبعض الممثلين وصوتهم الذي
لا يسعفهم البتة.
لعل المثال الصارخ على قلة الدراية في مجال النمر الاستعراضية، على
جمالها في
أحايين عدة، نيكول كيدمان التي لم تُستغل على نحو يسمح لها بالانشراح، وهذا
ما يحصل
عادة عندما يتم اختيار الممثلين بسبب نجوميتهم وليس بسبب ملاءمتهم للدور.
فأنت ما
إن تراها حتى تمضي في مقارنتها مع دورها في "مولان روج" لباز
لورمان. أما الكلام
والحوارات المتداولة في هذه العروض المبهرة الى حدّ ما، فخفيفة في معظمها.
لكن لا
ينبغي أن ننسى أننا امام فيلم يُنتظر منه أن يشغل مخيلتنا أولاً، ويعيدنا
الى
الواقع ثانياً.
ليس من الممكن تصور النتيجة الفنية التي خلص اليها الفيلم (شارك في كتابته الراحل انطوني مينغيلا)، من
دون دانيال داي لويس في دور كونتيني.
فالممثل المقلّ الذي خرج من قمقمه، ليلبس بزة وربطة عنق، لا يمكن الا ان
يذكّرانا
ببيار باولو بازوليني، يخلف مارتشيللو ماستروياني بجدارة يقلّ نظيرها. كثر
يعتبرون
داي لويس الممثل الأكثر قدرة في العالم اليوم، ونحن منهم، لكن
لم يسبق له أن كان
بهذه الخفة الموحية، حدّ انه يسلب النجومية من الممثلات اللواتي يتشارك
معهن
التمثيل. مع ان القلق يشعّ من عينيه الذابلتين والمتعبتين، الا انه يستطيع
أن يكون
مصدر فانتاسم، سواء للفيلم أو للشخصيات أو للمشاهد. باختصار،
يجسد داي لويس
الـ"كلاس" الايطالي المكوّن من حياة ماجنة ونجومية وطلة ذكورية تحمل في
طياتها
شيئاً من الحنين الى الـ"دولتشي فيتا"، ولا يلزم الكثير لكاميرا مدير
التصوير ديون
بيب كي يتآلف معه.
ثمة طائفة من النساء اللواتي تضيء وجوده: هناك دام جودي
دانتش، الفظيعة كعادتها وهي مصممة الأزياء التي يتنصت عليها ويعتمد على
أفكارها.
الى جانبها نجد صوفيا لورين، في دور أم كونتيني، والتي كان يمكن مارشال أن
يستبدلها
بممثلة أخرى لولا تمسكه بها كأيقونة لمفهوم ما عن سينما ايطالية مر عليها
الزمن.
أما نيكول كيدمان، في دور ممثلته الملهمة، فهي بلا أدنى شك الحلقة الاضعف
في
الفيلم، وخطأ كاستينغ رهيب، لن يساهم الا في تدني أسهمها لدى الجمهور. وفي
حين
تُعتبر مشاركة بينيلوبي كروز وكايت هادسون سليمة ومدعومة بمنطق
سينمائي سليم، فإن
زميلتهما الفرنسية ماريون كوتيار تأتي لتحتل المساحة الاوسع خاطفةً قلب من
سبق أن
وقع تحت سحرها في "لا موم" الذي استحقت عن دورها فيه (اديت بياف) اوسكاراً
لأفضل
ممثلة. هنا، دورها الأكثر متانة على الصعيد الدرامي، علماً اننا اذا حاولنا
التنقيب
أكثر لوجدنا هنات.
للمناسبة، "تسعة" فيلم أوسكاري في مكان ما، لكنه لا يساوم
ولا يبيع نفسه من حفنة أفكار أكاديمية محافظة، بل ويمكن اعتباره عملة نادرة
كونه،
وعلى رغم مشاركة هذا الكم من الأسماء اللامعة فيه، لا يشكل
حالة من حالات الفيلم
الشعبي، لأن ادراك مقاصده يتطلب من المشاهد أن يكون لديه مفاتيح واستنادات
عدة.
() Nine
ـــ يُعرض في سلسلة صالات "بلانيت" و"سينماسيتي".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
عن اللدغة والضوء لدى
سبيلبرغ
من بين الأشياء التي تحوّل المخرج، كل مخرج، سينمائياً
مؤلفاً تسعى الأقلام النقدية الى تحليل أعماله، هناك ما يسمّى التيمة
المتكررة
والمحطات التي يتأخر عندها عقله ولاوعيه. مثلاً: التلصص عند
براين دو بالما.
الازدواجية عند هيتشكوك. هذا واحد من المبادئ التي بنيت عليها سينما المؤلف:
الترابط من حيث الموضوع بين فيلم وآخر، والذي ينطلق منه بعض المراقبين
للقول أن
السينمائيين الكبار ينجزون دائماً الفيلم نفسه. وهذا صح مئة في المئة!
اللدغة،
مثلاً، فكرة طاغية لدى سبيلبرغ. وهذا السينمائي الاشهر من أن يعرَّف، اعتمد
في
نجاحه التجاري الاول، "جوز"، (1975) على الخوف المرتبط باللدغة. بمعزل عن
عنوان
الفيلم وموضوعه واعلانه، يعرض "جوز" مراراً اشلاء جثث، قطّعها القرش الأبيض
ارباً
ارباً. ولا يخيف الموت بذاته في هذا الفيلم، بل فكرة الموت التهاماً من
القرش
المرعب. ينطبق الامر نفسه على الافاعي التي يخافها انديانا
جونز. أما "جوراسيك
بارك" (1996-1993) فأطل علينا بصور للاستهلاك البشري، في حين نرى في "بولترجايست" (1982) -
وهو من انتاج سبيلبرغ وليس من إخراجه -، تأثر باحث ظواهر غير طبيعية بلدغة
في بطنه، ويقول: "لدغني شيء ما". هذه تفاصيل تتكرر في أفلام،
كل واحد منها مختلف عن
الآخر. أما من يقف خلفها، فرجل واحد، بل وعي واحد، لا غير.
تيمة أخرى حاضرة في
فيلموغرافيا صاحب "أمبراطورية الشمس": الضوء. تقليدياً، يؤدي الضوء دوراً
كلاسيكياً
في السينما، ذلك لأنها تستعيد مفاهيم الضوء القديمة وتستخدمها للسرد. من
البديهي،
والحال هذه، ان يمثّل الضوء كل ما هو ممتع
وخيّر والهي، في حين يرمز الظلام الى
الشر والخطر والشيطان. ويبدو هذا المفهوم جلياً. تمثيل الضوء للخير،
والظلام للشر،
ليس الا نتيجة تعارف المجتمع والدين على ذلك. لكن سبيلبرغ يستخدم الضوء عكس
العقيدة
الكلاسيكية. ففي عدد من افلامه، مشاهد اختطاف ولد من منزله بقوى شريرة،
يُرمز اليها
دائماًَ بضوء قوي. خير دليل على ذلك اختطاف باري في "لقاء
الجنس الثالث"، واجتياح
منزل اليوت في "أي تي"، واختطاف كارول آن في "بولترجايست"،
واختطاف الولدين في
"هوك". يبرز هذا الميل كثيراً في "لائحة شندلر"، خلال تصفية النازيين
للحي اليهودي،
فتُضاء النوافذ، لتشهد على اطلاق نار النازيين على الضحايا اليهود.
اذا كان
الضوء قوة رهيبة وخطرة لديه، فالعكس صحيح ايضاً. ذلك أن السواد ملجأ، لذا
يختبئ
الاولاد اليهود الذين ظلوا على قيد الحياة في "لائحة شندلر" بعد المجزرة في
المجاري. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يفسّر تأثير استخدام الضوء هذا في
عقول
المشاهدين؟ الجواب بسيط: يتعلّق الامر بالصدمة النفسية الاصلية.
كل امرئ، بغض النظر
عن دينه وجنسه واصله، يعيش الصدمة نفسها لدى الولادة: طرد الجنين من رحم
امّه
الدافئة والمريحة والمظلمة تماماً الى ضوء العالم المبهر والفاجع. من
الممكن القول
ان صور الضوء هذه لدى سبيلبرغ تؤثر سلباً، وخصوصاً في الاولاد، وتعكس ولادة
كل
مشاهد وتتطرق الى احدى التيمات الحيوية والمتكررة في عمله، وهي
الانفصال عن الأم.
انطلاقاً من هذا، لا يعود مستغرباً ان تثير هذه الثنائيات حيرة المشاهد،
الضائع
بعريه أمام عالم لا يرحم.
ذاكرة
السينما حياة جورج شمشوم الثانية
يعود شغف جورج شمشوم بالسينما الى سينمات طرابلس. كثرة
مشاهدة الافلام لديه تحولت "حياة ثانية" جعلته يختار فرنسا حيث نال شهادة
الدبلوم،
محطة لتخصيب أدوات المعرفة، ولاحقاً الولايات المتحدة التي انتقل اليها
للعمل،
بعدما ادرك ان محدودية السينما اللبنانية لا تكفي أحلامه
السينيفيلية. له اليوم نحو
35
فيلماً، انتج بعضها وتولى اخراج بعضها الآخر. انه من جيل السبعينات
التي بنت
عليها السينما اللبنانية آمالها، قبل ان تلتهمها نيران الحرب الاهلية.
عند
محادثتك لجورج شمشوم تراه ينصح المخرجين الجدد بعدم الاكتراث للفشل
الجماهيري أو
النقدي ومواصلة مسيرتهم وعدم الوقوع في اليأس. "أياً تكن قيمة الفيلم
الفنية فلا
يجوز ان ينكره مخرجه. والتواضع، الى جانب موهبة
الفنان، عنصر مهم في نجاحه وتطوره.
أؤمن بمستقبل سينمائيين لبنانيين، ولا أؤمن بالسينما اللبنانية التي لن
تصبح يوماً
حقيقة".
المشاهدة النهمة أبهرته منذ الطفولة، اذ كان ميالاً دائماً الى ما هو
متحرك. عندما جاء الى لبنان بعد مرور نحو سنتين على ولادته في نيجيريا، كان
ذات مرة
يتجول في قريته مزيارة، فوجد مكبراً، وحاول بواسطة قنديل ان يعكس احدى
الصور على
الحائط. لم تنجح العملية على رغم محاولاته المتكررة. كان آنذاك
في السادسة من
العمر. وعندما بلغ الثامنة، أهدى اليه والده كاميرا، انجز بها فيلماً مدته
نحو 20
دقيقة، وساعده اصدقاؤه في اتمامه. ولا يزال، حتى اليوم، يحتفظ بهذا الشريط
المصور
بـ 8 ملم، والذي سمّاه
Les Trois Balafrés،
ويؤكد انه في كل مرة يعمل فيها على
تحقيق فيلم جديد، تجتاح هذه المحاولة البريئة مخيلته، وخصوصاً ان بعضاً من
الذين
شاركوا فيه غادروا الحياة.
شبّ شمشوم على افلام تشارلي شابلن الذي اكتشفه في
افريقيا حين كان يبلغ من العمر سنتين وترعرع في جوّ متيم بالسينما. كان
والداه
مجبرين على اصطحابه معهما الى الصالات المظلمة كي لا يبقى
وحيدا في المنزل. وكانت
القاعات هناك بلا سقف وشبيهة بـ"الدرايف إن". لم يكن يقبل ان يذهب احد
افراد عائلته
الى السينما من دون ان يصطحبه معه. الفترة ما بين السنتين والـ 8 سنوات،
كانت
أساسية له لأنها طورت ذائقته السينمائية. ويتذكر، مثلاً،
"الاحتجاج" الذي حصل حين
ذهب اهله واقاربه لمشاهدة الفيلم البرازيلي
O Can Gaceiros، ولم يصطحبوه معهم. "كنا 14
طفلاً في منزل واحد، وكلنا شغوفين بالسينما"، يقول متأملاً في ذلك الزمن
الذي
اصبح بعيداً.
في ذلك الحين لم يكن يعرف الفرق بين سينما جادة وأخرى ترفيهية.
كل ما كان يشاهده يعتبره مهماً. كانت
عائلته تبحث عنه بإستمرار، ثم يعثرون عليه في
احدى الصالات. لعبت طرابلس دوراً محورياً في تكوينه، علما انه
مدين لفرنسا في
دراسته. يقول انه كان هناك "انتلجنسيا" متميزة في طرابلس آنذاك، امثال
ادغار نجار
واميل شاهين وجورج نصر وانطوان ريمي. الحديث مع هؤلاء كان يمنحه المتعة. لم
يكن
يصدّق متى ينال فرصته من فرنسا ليأتي الى لبنان ويمضي بعض
الوقت معهم.
اول عمل
انجزه شمشوم كان "داخل خارج"، وبلغت مدته نحو 50 دقيقة، أخرجه عام 1968، أي
في
السنة التي عاد فيها من باريس الى لبنان، محاولا الاستقرار في وطنه، وتأسيس
سينما
محلية جديدة. كان من شلة شباب طامحين الى سينما لبنانية وكانت
لهم احلام كبيرة.
وخلافاً لآخرين مثل كريستيان غازي وبرهان علوية وجان شمشوم ورندا الشهال،
لم ينتم
الى المدرسة النضالية، ولم يكن الإلتزام السياسي والقومي يعني له الكثير.
في سن
مبكرة، ادرك ان المناضلين من حوله اختاروا تلك الطريق، إما
لمصالح شخصية وإما
حنيناً الى الماضي. حسبه أن عدد المناضلين الحقيقيين لم يكن يتعدى اصابع
اليد
الواحدة. اما هو فكان ملتزماً سينمائياً، ويعتبر انه دفع ثمن توجّهه هذا،
اذ تعرض
للشتم والنقد السلبي. لم يرض البعض، مثلاً، ان يأتي الى لبنان
وينجز افلاماً تتناول
ترويج المخدرات، على غرار "داخل خارج" حيث كان السؤال "لماذا المدمن في
حاجة
للمخدرات كي يحلق؟".
كان لوجود شمشوم في اجواء "ايار 68" والثورة الطالبية في
فرنسا تأثير ما على وجدانه، على رغم انه يعتبرها افشل التحركات في التاريخ،
لأنه
"ليس هناك اسوأ من الفرنسيين في الثورات". عاشر اطرافاً كثيرين، من
الماويين الى
اليساريين من باب الفضول لمعرفة ما الذي يدور في عقولهم. اليوم، يعتبر نفسه
اشتراكياً محافظاً كما كان والده سابقاً. الإلتزام السياسي لا يعني له
شيئا، ويقول
انه كم كان يتمنى ان يرى شيوعيين او يساريين يفعلون بدلا من ان
يتكلموا، راوياً
تجربته مع ناس يدّعون الشيوعية، فتراهم في سهرات فاخرة بملابسهم الأنيقة.
"كيف
يمكنك احترام هؤلاء؟ اذاً، لا اميل الى الذين يتسترون في افكار نضالية،
باستثناء
واحد في المئة منهم، وهم الأسماء التي ذكرتها لك".
"سلام... بعد الموت" (1971)،
فيلمه الروائي الطويل الأول، يعتبره انجازا تقنيا لا يستهان به
بالنسبة الى تلك
الحقبة. اهتمامه بالجانب البصري جعله يصرف النظر عن السيناريو. عندما
ألتقيته كان
مر 33 عاماً على انجاز الفيلم، وكان لا يزال يندم على عدم استثماره مزيداً
من الوقت
في علاج النص. بيد انه كان شابا، وعلى قدر كبير من النرجسية،
حتى انه "كان يصعب
إمرار رأسه من "قوس النصر" في باريس"، بحسب تعبير طريف له.
وليس من الممكن
الحديث عن شمشوم من دون ذكر منع فيلمه "لبنان لماذا؟"، حيث صوّر مجموعة
مؤلفة من
سبعة اشخاص من انتماءات وتوجهات سياسية عدة، من اقصى اليسار الى اقصى
اليمين. لم
يترك منطقة في لبنان الا "دخلها" بغية التصوير، وذلك بين عامي
1975 و1979. يتذكر:
"تصّور شعور اليساري الذي كان يضطر الى ان يمضي بعض الوقت، في منطقة
تسيطر عليها
الكتائب اللبنانية". ولكن كان عرضة لإنتقادات شديدة من ناس كانوا يؤمنون
انه يجب
التركيز على جهة واحدة وحسب. حتى في عائلته، هناك من اتهمه
بأنه يساري وباع نفسه من
الفلسطينيين. "العامل الابرز في نجاح "لائحة شندلر" هو ان سبيلبرغ انجز
الفيلم
وكأنه مشاهد له، علما انه كان يمكنه ان يضمّنه عواطفه كلها. هذا الامر
ينسحب ايضا
على رومان بولانسكي، وتحديدا في القسم الثاني من فيلمه "عازف
البيانو"، فهذا ما
يرفع من قيمة أي فيلم"، يقول.
حين عُرض "لبنان لماذا؟" للمرة الأولى في احدى
التظاهرات الهامشية لـ"مهرجان كانّ" اكتظت الصالة بالمشاهدين، وكانت
الصحافة
المتخصصة، وفي مقدمها سمير نصري، داعمة لخطواته، وشجعت خياره بعدم
الانحياز. أما
اثناء عرضه في صالة "مونتريال" فإن الفيلم أثار صداماً في صفوف
المشاهدين، وبعضهم
وجّه اليه الشتائم. لذا، أقفلت السينما ابوابها وهُرعت الشرطة الى المكان
وطوقت
المنطقة.
فاسبيندر، الذي عرفه شمشوم حين كان لا يزال حياً، ابدى له اعجابه
بـ"لبنان لماذا؟"، وكان يريده ان يساعده في تحقيق فيلم عن بادر ماينهوف على
طريقة
فيلمه. مع اولي لوميل وفاسبيندر عمل نحو سنة على هذا المشروع، وانتقلوا
مرات عدة من
لندن الى باريس فميونيخ، لكن بحسب شمشوم، لم يجد فاسبيندر صيغة ملائمة
للفيلم. لا
احد كان يرغب في التكلم عن هذا الموضوع. اما فاسبيندر فاختاره
لأنه كان يريد طرفاً
غير متورط في الأحداث، ويملك نظرة خالية من الإعتبارات.
في الولايات المتحدة،
أنجز شمشوم بضعة أفلام أكشن بقيت في اطار محدود من التوزيع والمشاهدة.
تقرّب من
ستيفان سيغال الذي تعرّف اليه بعدما اخرج مسرحيتين، فدعمه كثيراً حين اخرج
"قلب
نمر"، ولعب دور الوسيط بينه وبين المنتج اللبناني جوزف مرعي،
فأصبحا صديقين. اليوم،
يعتبر شمشوم ان كل واحد من السينمائيين اللبنانيين وصل الى المكان الذي كان
يريد
الوصول اليه، وانه لم يبع نفسه من أجل قضية معينة. "انا مع العدالة: يجب ان
تعاد
الى فلسطين اراضيها المحتلة، لكن لن ابيع نفسي لتلك القضية".
النهار اللبنانية في
28/01/2010 |