إنه احتفال
وطني بالسينما المحلية. لقاء سنوي، يتيح اطّلاعاً على ابتكارات إبداعية
متفرّقة،
يصنعها سينمائيو هذا البلد الأفريقي في أوقات مختلفة. إنه تواصل. والتواصل
مع نتاج
محلي في الخارطة العربية، المعقودة على الانشقاق والابتعاد الجغرافيين
والثقافيين
والإنسانيين، يعني أن التعارف يوطّد ثقافة ويحصّن معرفة ويزيد وعياً. لا
يُمكن
اعتبار الوصف السابق مضخّماً. واقع الأمر كامنٌ في أن التواصل
العربي العربي مفقود،
في المستويات كلّها تقريباً. الرحلة مفيدة. لأن الطابع المحلي للمهرجان
يتيح
للمهتمّ بشؤون الفن السابع عامةً فرصة مشاهدة ما أنتجه السينمائيون،
المخضرمون
والمحترفون والشباب والمبتدئون، من أفلام جديدة. والرحلة، إذ
انطلقت من بيروت ومرّت
بباريس لساعات قليلة، شكّلت لحظة إنسانية خاصّة، متمثّلة باستعادة زيارات
سابقة
لمدينة حاضرة في الذات كروح إضافية، ولبلد موجود في القلب كعشق مفتوح على
احتمالات
الخيبة والفرح الملتبس معاً.
حيّز جميل
مساء السبت الفائت، افتُتحت الدورة
الحادية عشرة لـ «المهرجان الوطني للفيلم» في المدينة المغربية
طنجة. هذه المدينة
المطلّة على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط في حيّز جغرافي جميل،
جعلت
السينما ملاذاً لمهتمّين ساعين دائماً إلى اكتشاف الجديد. وهي، إذ تخصّص
بالسينما
مهرجانين اثنين كل عام، منضمّة إلى مدن مغربية عدّة تشهد حركة
سينمائية كثيفة،
محلية وعربية وغربية، إنتاجاً وتصويراً ومهرجانات وعروضاً، في اثني عشر
شهراً
سنوياً. فإلى «المهرجان الوطني للفيلم»، فتحت المدينة بابها واسعاً أمام
احتفال
بالفيلم القصير المتوسطي، لتشيع مناخاً من الرخاء الإبداعي،
على الرغم من قلّة
الأفلام الجدّية والسينمائيين الجادّين غالباً. المهرجان الوطني، الذي
تنتهي دورته
هذه مساء بعد غد السبت، مرآة لإدراك مسار السينما المحلية، التي لا تجد
طريقها إلى
بلدان المشرق العربي لألف سبب وسبب: سوء توزيع. رفض موزّعين
خوض تجربة ثقافية وفنية
قد لا تلقى نجاحاً جماهيرياً، أي تجارياً. قلّة عدد المُشاهدين المشرقيين
المكترثين
لصناعة السينما في المملكة المغربية ودول المغرب العربي. عدم قدرة
المشرقيين على
فهم اللهجات المغاربية، والعكس صحيح أيضاً، مع أن التلفزة
العربية قرّبت، إلى حدّ
ما، بين المشرقيين والمغربيين من خلال مسلسلات عدّة سمحت للمغربيين
بالتعرّف الى
لهجات مشرقية، في حين أن الاتجاه الآخر، التلفزيوني على الأقلّ (أي من
المغرب
العربي إلى المشرق العربي)، لا يزال معطّلاً. غياب الثقافة
السينمائية الجماهيرية
(في
المشرق والمغرب العربيين على حدّ سواء، مع التنبّه إلى التفاوت المعرفي بين
المُشاهدين هنا وهناك). لكن، مع هذا كلّه، تختار إدارات مهرجانات سينمائية
عربية أو
دولية مُقامة في مدن عربية أفلاماً مشرقية ومغربية، في إطار
التبادل المعرفي
والثقافي. أما المهرجان المتوسطي للأفلام القصيرة، الذي تُنَظَّم دوراته
السنوية في
تواريخ متبدّلة، فدعوة مفتوحة على رائحة البحر الأبيض المتوسط، إلى معاينة
الصورة
السينمائية في تعاطيها مع شؤون الفرد والحياة، ومع أساليب
العيش والقول.
والمدينة معقودة على التناقضات. لكنها مسيّجة بقدرتها على أن تكون،
وسط تحدّيات
جمّة، أكبر من أن تُختزل بنصّ أو كلمة أو تحليل. الجلوس في مقهى شعبي على
حافة
الطريق الرئيسة، أو في المقهى الذي أسّسته السيّدة الفرنسية «بورت» في
العام 1954.
التجوّل في أحياء الناس العاديين. الدخول إلى مكتبة أو محل لبيع الحاجيات
اليومية.
السهر في حانات الليل وخمّاراته وباراته
وملاهيه المتفرّقة. مُتَعٌ لا تتفوّق على
متعة المشاهدة السينمائية، وإن لم تكن أقلّ منها روعة وبهاء.
سحر المدينة لا يوصف،
وإن لم يعثر عليه البعض، أو لم يجده البعض الآخر باهراً إلى حدود الصدمة.
زيارتها
شتاءً، مختلفة تماماً عن زيارتها صيفاً. والسينما حافزٌ أول دائماً. مع
أنه، بعد
زيارات عدّة، يصبح حافزاً موازياً للمُتع الأخرى. الاسترخاء
داخل المدينة وعلى
ضفافها، متعة تجعل السينما أقرب إلى النفس والروح والوعي والانفعال.
الاسترخاء داخل
الصالة السينمائية وفي شاشتها الكبيرة، متعة تجعل الزيارة منفذاً إلى حرية
مرهفة
وهدوء لا مثيل له. لكن متع المدينة وضفافها أكبر من متع الصالة
وشاشتها، لأن
أفلاماً عدّة يُشاهدها المرء في المهرجانين الوطني والمتوسطي تثير انزعاجاً
ما،
لرداءتها أو بساطتها أو سذاجتها. ومع أن الهدوء هنا ارتبك، للحظات طويلة،
مُحدِثاً
قلقاً في الذات جرّاء الكارثة التي حلّت بطائرة أثيوبية على
بُعد لحظات قليلة من
بيروت مطلع الأسبوع الجاري، بعد أيام عديدة على زلزال هايتي؛ إلاّ أن خيال
السينما
وواقعيتها يسندان المرء في مقارعة المظالم، الطبيعية والبشرية، في أحيان
كثيرة. في
اليوم التالي للكارثة الإنسانية تلك، بدا الجلوس في مقهى
«بورت» مثقلاً بأسئلة
العبث والصدفة والقدر. لم تعد معرفة السبب ضرورية. لم تعد أرقام الضحايا
مفيدة.
هناك أمرٌ غريب يحدث. ليس لأن الكارثة
المذكورة هي الأولى، بل لأنها جزء من سلسلة
كوارث لا تنتهي، ولا يُمكن للحياة أن تستمرّ من دونها. كأن
الحياة فعل انبثاق دائم
من لجّة الموت. أو كأن الموت امتدادٌ للحياة وأثقالها و... أفراحها أيضاً.
احتفال
في طنجة، احتفاء بالسينما المغربية. خمسة عشر فيلماً طويلاً وخمسة
عشر فيلماً قصيراً. مسابقتان رسميتان. لجنتان اثنتان للتحكيم. أمزجة
مختلفة. جمهور
غلب عليه سينمائيون وإعلاميون وصحافيون مغاربة. الضيوف الأجانب قليلون.
«المركز
السينمائي المغربي»، منظّم المهرجان، ارتأى حصر المهرجان
الوطني بالداخل المغربي في
دوراته السابقة، التي كانت تُعقد مرّة واحدة كل عامين، قبل أن يُصبح
سنوياً. لكنه
رأى أن الانفتاح على آخرين، عرباً وأجانب، مفيد وضروري. اتفاق ما مع
مؤسّسات
بريطانية وعاملين بريطانيين في شؤون سينمائية، أتاح لقاء
لتبادل الخبرات والبحث في
تأسيس تعاون سينمائي جدّي، أرادته هذه المؤسّسات وسعى إليه هؤلاء العاملون
السينمائيون مع دولة مُعتَبرة، تاريخياً، بأنها فرنكوفونية. ليس الأمر
نزاعاً بين
الفرنكوفونية (المتوغّلة عميقاً في بنية المجتمع المغربي
وثقافته، أو في جزء رئيس
منهما على الأقلّ) وأنغلوساكسونية، وجدت أن اللحظة مناسبة لتسجيل اختراق ما
في إحدى
أبرز الدول العربية الأفريقية نشاطاً سينمائياً. لكن الانفتاح المغربي على
تعاون
فني/ سينمائي مع دولة كبيرة كبريطانيا يعكس رغبة في توسيع
دائرة التبادل المعرفي
والمصالح الإنتاجية، بما يفيد الإنتاج المغربي.
إذاً، في الأيام الأولى للدورة
الحادية عشرة لـ «المهرجان الوطني للفيلم»، عُرضت أفلامٌ
متفرّقة، طويلة وقصيرة.
لكن المأزق واضحٌ. هذه أفلام محتاجة إلى تأهيل سينمائي فعلي. الأفكار
مهمّة. المادة
الدرامية مؤثّرة. المواضيع قابلة للتحوّل إلى أشكال سينمائية. لكن المعالجة
مثقلة
بمشاكل فنية وتقنية جمّة. الرغبة في استعادة الماضي محرّك لإنجاز مشاريع
ظلّت على
مسافة من الصناعة السينمائية المتمكّنة من أدواتها المعرفية والتقنية.
الغرف من
اللحظة الراهنة ما يطرح أسئلة الوجود والهوية والتفاصيل والحياة معينٌ
يُفترض به
ألاّ ينضب، بل أن يمنح السينمائي ركيزة لإعمال المخيّلة. لا
تنفع المواضيع وحدها.
موقف مُكرّر دائماً إزاء مشاهدة شخصية أفلاماً عربية كثيرة، في الآونة
الأخيرة.
التعليق النقدي يحتمّ الإشارة إلى أن
تشابهاً ما بين نتاجات سينمائية مشرقية
ومغربية واقعٌ فعلياً. المُشاهدة تكشف هذا الأمر. الأمثلة
المغربية في المهرجان
الوطني عديدة: «أحمد كاسيو» لإسماعيل سعيدي. «فينك أليام» (أين أنت أيتها
الأيام)
أو «أقدارٌ متقاطعة» لِدْريس شويكا. «إكس
شمكار» (متشرّدون سابقون) لمحمود فريتس.
ارتكز الأول على قصّة حقيقية، بطلها أحمد كاسيو البالغ من العمر، حالياً،
اثنين
وتسعين عاماً (شارك جمهور المهرجان، شخصياً، في مشاهدة الفيلم). استعاد
الثاني
مرحلة «سنوات الرصاص» (سبعينيات القرن الفائت)، ليعيد رسم
ملامح النضال اليساري
الطالبي، والآلام التي عاناها طلابٌ شبابٌ راغبون في تغيير أحوال بلد
ومجتمع. انتقى
الثالث مسألة إنسانية حسّاسة، متمثّلة بحالة المتشرّدين وأحلامهم الكبيرة
وصدماتهم
المتتالية. تشابهت الأفلام الثلاثة في مستوى المعالجة
الدرامية. المادة غنيّة
بمعطيات كثيرة، لكن ترجمتها السينمائية مصابة بخلل وارتباك واضحين. هناك
تصوير بديع
ومهمّ أحياناً (راوول فرنانديز مصوّر «أحمد كاسيو»). هناك لقطات مشغولة
بعناية
بصرية سليمة (فينك أليام). لكن الغلبة للسلبيات. غياب التمثيل.
اهتراء المعالجة
المكتوبة والمصوَّرة مثلاً.
في المقابل، برزت ثلاثة أفلام قصيرة مهمّة، تصويراً
ومعالجة وإدارة فنية وتمثيلية: «ألو بيتزا» لمراد الخاويدي، «رجوع» لعبد
الإله
زيرات و«ليلة العرض» لمحمد لعبضاوي. الجريمة والشبق الجنسي
والغياب الملتبس بين
الواقع والخيال، مفردات أساسية انبنى الأول عليها. الهجرة والموت والانكسار
والوحدة
الذاتية، أدوات الثاني في مقاربة همّ إنساني متمثّل بالهجرة غير الشرعية،
المتنامية
في دول المغرب العربي عامة، وفي الجزائر والمغرب خاصّة. الوحدة
وألم ما بعد الموت
وخسارة الصديق والعشق الكبير للفن، مناخ الثالث، الذي أضيف إليه حضور أحد
أبرز
السينمائيين المغاربة العربي اليعقوبي، الذي يُشكّل جزءاً جوهرياً من تاريخ
السينما
المغربية. هذه مشاريع سينمائية جميلة. صنّاعها شبابٌ مقبلون بنهم وشغف إلى
الفن
السابع. أدوات تعبيرهم صافية. محتاجون هم إلى دعم مالي وتشجيع
معنوي. القراءات
النقدية مفيدة لهم، شرط الاستماع والمناقشة. أفلام قصيرة أخرى مملّة. عاجزة
هي على
تشكيل نبض حيّ في ذاتها. الانفصال العائلي والعودة إلى البلد لوداع الأب
والتمزّق
الداخلي، عناوين لافتة للانتباه في «كاميلا وجميلة» لسعاد
آميدو. لكن المعالجة
الفنية ضعيفة. التصوير والكادرات أيضاً. التمثيل. أمور مهمّة.
أرقام
هناك
جانب آخر من الحكاية. بعض المهتمّين المغاربة بالشأن السينمائي المغربي
يعيبون على «المركز السينمائي المغربي» تمويله/ إنتاجه
مشاريع كثيرة في كل عام، لا تستوفي
غالبيتها الساحقة شروطها الإبداعية المطلوبة. يقول هؤلاء إنه من الأفضل دعم
مشاريع
قليلة، إنتاجاً أو تمويلاً أو مشاركة في الإنتاج، والسعي إلى تحويلها الى
أفلام
جدّية ومهمّة؛ بدلاً من إكثار العدد السنوي للأفلام، التي يصعب
على المهتمّ العثور
على المهمّ والأفضل والأجمل بينها. مسؤولو المركز مستمرّون في خطّتهم. نور
الدين
الصايل (رئيس المركز وأحد أبرز الناشطين السينمائيين في المغرب وأكثرهم
نفوذاً)
يملك رؤية خاصّة به، متمثّلة بفتح الأبواب أمام المشاريع المحلية، من دون
تناسي سعي
سينمائيين غربيين وعرب إلى المغرب لتصوير مشاهد من أعمالهم، أو تصوير
أعمالهم
كلّها. في إطار الدورة الحادية عشرة هذه، التقى الصايل، برفقة
أحد أبرز مسؤولي
المركز محمد باكريم، سينمائيين وضيوفاً مغربيين، مقدّماً لهم حصيلة العمل
الذي قام
به «المركز السينمائي المغربي» في العام الفائت.
في الملفّ الموزّع على بعض
المهتمّين بلغة الأرقام، بعنوان «حصيلة السنة السينمائية،
2009»، توثيق كامل لنشاط
المركز في إنتاجه وتمويله أفلاماً مغربية، وفي دعمه تصوير أفلام سينمائية
وتلفزيونية أجنبية. استثمر المركز مبالغ متفرّقة، منها 52 مليونا و50 ألف
درهم
مغربي (6 ملايين ونصف مليون دولار أميركي تقريباً) لإنجاز تسعة
عشر فيلماً طويلاً،
في أشكال مختلفة، كالدفع المسبق على المداخيل الخاصّة بمشاريع الأفلام، أو
كالدفع
المسبق على المداخيل بعد الإنتاج. في حين أن الاستثمار المتعلّق بالأفلام
السينمائية الطويلة والتلفزيونية الأجنبية المصوّرة في المغرب،
تراجع إلى النصف
تقريباً عمّا كان عليه الرقم في العام الأسبق. ففي مقابل 913 مليون درهم
مغربي (نحو 117
مليون دولار أميركي) في العام 2008، تراجع الرقم إلى 414 مليونا و863 ألف
درهم
مغربي (نحو 53 مليون دولار أميركي) في العام 2009: «يكمن سبب
التراجع في الأزمة
العالمية، ما أدّى إلى تأجيل عدد من المشاريع»، كما قال الصايل، مشيراً في
الوقت
نفسه إلى أنه على الرغم من هذا، يبقى المغرب «أول دولة في العالمين العربي
والأفريقي من حيث حجم الاستثمارات السينمائية»، واصفاً
الاستثمار في السينما
المغربية بكونه «استثماراً للمستقبل». وأضاف أن الاستثمار في المجال
السينمائي «ليس
تبذيراً» بل «استثمار لوجودنا في السوق العالمية»، مطالباً بإنتاج عدد أكبر
من
الأفلام المغربية، وداعياً السينمائيين إلى الاضطلاع بدور
محوري في هذا الاتجاه،
ومعتبراً أنه «دور حضاري وثقافي وتجاري في آن واحد». ورأى أن الساحة الفنية
محتاجة
إلى مزيد من الإبداع السينمائي، ودعا السينمائيين الشباب، الذين أخرجوا
أفلاماً
قصيرة، إلى اختبار تجربة إخراج الأفلام الطويلة.
بلغة الأرقام أيضاً، فإن
«المركز
السينمائي المغربي» منح رخص تصوير لـ29 فيلماً مغربياً (منها عدد لم يُذكر
من أشرطة «فيديو كليب») و17 فيلماً وشريطاً أجنبياً، في حين أن عدد الرخص
الممنوحة
للأفلام المغربية القصيرة بلغ ثمانين رخصة.
السفير اللبنانية في
28/01/2010
كلاكيت
«عَ
فكرة»
نديم
جرجوره
الأمور الجميلة في
بيروت قليلة. منها مثلاً: حاناتها الليلية. أو خمّاراتها. مفتوحة هي لأناس
شغوفين
بليل المدينة، وبما يصنعه الليل بهم وبها. يجلسون على مقاعد البارات.
يتهامسون.
يتسامرون. يناقشون أمور الدنيا. يفرحون. يغضبون. أو ربما شُبّه لهم هذا.
يسقطون في
الخمر. يُدخّنون. ليل المدينة ثقيل من دونهم. وليل الخمّارات بديع
بهم. يروون
نكاتاً. قليلة هي النكات المبتذلة. هنا، في حانة «عَ فكرة»، التي وصفها
جوني بأنها «آخر مربّع علماني في الأمّة العربية»،
يُمكن للمرء أن يعثر على نكات بديعة في
اختراع رؤية أخرى للحياة والموت. نكات أبطالها حشّاشون يصنعون،
بمواقفهم وذكائهم
الخارق في ابتداع التحايل الأجمل على التعابير والألفاظ والجُمَل، مساراً
ثقافياً
لأشياء كثيرة.
يحتاج المرء إلى ضحكة صافية. الخمر ودخان السجائر ورائحة الليل
والعلاقات تجعل الساعات اليومية القليلة ملاذاً لقتل الخيبة، ولإعادة خلقها
مع
اللحظات الأولى للفجر. تعب السنين وإرهاق النهار يُنحَرَان على
عتبة الخمّارة، لأن
الداخل إليها مولودٌ، والخارج يكاد يفقد نصّه الإنساني، في مدينة العبث
والفوضى
الجنون. يحتاج المرء إلى ضحكة صافية. أحتاج أنا إلى ضحكة من القلب، أطلقها
في
الفضاء الواسع للدنيا، كي تسمع الآلهة ما في أعماقي من شجن
وانكسار. أحتاج إلى ضحكة
لا مثيل لها. إلى نشوة غير مسبوقة، تأتيني من الضحك الحقيقي وسط أناس
التقيتهم قبل
أشهر فقط، فباتت الدنيا أفضل قليلاً معهم. الناس هنا متوترون وخائبون
ومتعبون. لأن
الدنيا خارج العتبة تُحيل المرء إلى ركام. أو تحاول جعله
ركاماً. يأتون. بعضهم
الأول مرّتين يومياً. بعضهم الثاني يكتفي بالليل. بعضهم الثالث ينسحب إلى
هدوئه،
وكلما عاد يُحتَفل بعودته صخباً وضحكاً ونكات و«نميمة». يسألون عن بعضهم
البعض،
أحياناً. ذلك أن «آخر مربّع علماني في الأمة العربية» منشغل في
تفكيك أحوال الدنيا
وما هو خارجها، كي يعيد تركيب الحياة وفقاً لقواعده وسلوك روّاده الدائمين.
في
بيروت حانات كثيرة. لم أجد في المدينة إغراء للبقاء عند مداخلها المشلّعة
على القهر
والخراب، باستثناء حاناتها المفتوحة على ما هو أبعد من العيش اليومي. لم
أرتح فيها
إلاّ لأن حاناتها تجعل اليومي أجمل، والنفس أهدأ، والروح أكبر، والجسد
أفضل. تجعل
الحياة مختلفة، ولو للحظة واحدة فقط. لبيروت عندي كرهٌ لا
يرحم. يُقال لي إن كرهاً
كهذا انعكاسٌ للحبّ. لكن الحبّ الحقيقي للحبيبة دائماً. لأنها الأنقى وسط
الجميلات.
والأروع وسط النساء. لأنها انبثقت من نسل
إلهات ارتضين أن ينزعن عنهنّ الصفات كلّها
إرضاء لعينيها المضيئتين. لبيروت عندي غضبٌ لا ينتهي. يُقال لي
إن غضباً كهذا وجهٌ
آخر للعشق. أدرك تماماً أن العشق للمعشوقة المنتفضة على وجعي كي تعيد إليّ
صفاء
الذات.
لذا، تبقى الحانة لي ملاذاً من وجع الحكاية. فهل تكفي خمّارة واحدة
لخروج موقّت من الألم؟
السفير اللبنانية في
28/01/2010
كلاكيت
فيروز وعاصي
نديم
جرجوره
إنها تحية. استعادة
فصول من ذاكرة لم تعد فردية أو خاصّة. مُلك الناس هي. لأنها نشأت من الناس
أنفسهم.
أو هكذا يُظَنّ على الأقلّ. أرادت ريما
الرحباني أن تتذكّر عاصي. وضعته في دائرة
الضوء. أنجزت فيلماً وثائقياً بعنوان «كانت حكاية». أعادته من
ماض عريق إلى راهن
موغل بالتعب والقرف والفوضى والجنون. معها، أطلّت فيروز. إطلالتها معتادة،
وإن كانت
نادرة. لا يُمكن استعادة هذا الماضي من دونها. لا يُمكن سرد الحكاية بعيداً
عنها.
ريما الرحباني مدركة هذا الأمر. قرّرت وأمها أن تستعيدا معاً تلك الفصول.
وجه
المرأة لا يزال كما
هو. ملامحه عصيّة على الفهم. فيه وجعٌ. أو غضب. أو لامبالاة.
نبرتها لا تزال كما هي. تتحدّث ببطء وهدوء ومن دون انفعال. تقول أشياء عن
عاصي
والأيام العتيقة. يطلّ عاصي من أرشيف قديم بال. يتحدّث بالجمع. تتحدّث عنه.
كاد
يتجاوز ذكرها. كادت تغيب في كلامها عنه.
فيلم وثائقي تقليدي. لكن فضاءه العام
أجمل من أن يُختزل بقراءة نقدية. الأسلوب المستخدم في إنجازه
عاديّ. كلام لعاصي.
آخر لفيروز. أغان مستلّة من حفلات وبروفات. المونتاج سلس. أي انه خال من
الفذلكة أو
التصنّع. حرفته بسيطة. الأهمّ كامنٌ في انتقاء الأغاني وكيفية إدخالها في
عمق
السرد.
لم أستطع تفسير سرّ هذه الملامح. المرأة منغلقة على نفسها. ليس حزناً
على عاصي، أو على زمن انتهى، أو على راهن بشع. شيء من القلق. أو ربما
الخوف. أعتقد
أنه غضب مبطّن بعناية. هذه تفسيرات شخصية، لا علاقة للنقد بها.
الفيلم استحضار
لحالة، أو لحقبات من أوقات متفرّقة. هذا أهمّ. العمل كلّه مبنيّ على رغبة
في قول
شيء جميل لعاصي الفنان. لا خصوصيات عائلية. لا تفاصيل حميمة. لا توغّل في
كواليس
الحكاية. أرادت ريما الرحباني الحكاية نفسها. فقط لا غير.
اختارت لها مقتطفات من
حوارين تلفزيونيين لعاصي، تناول فيها منهجه في العمل واشتغاله الفني. جلست
فيروز
أمام الكاميرا الجامدة. لقطة مقرّبة وأخرى بعيدة قليلاً. هذا كل شيء. صائبٌ
هو في
تحليله. يُستشَفّ تواضع ما منه أحياناً (ما بقدر أطلق على
أشياء نحن عملناها
روائع). مدركٌ اللعبة التي مارسها. اللعبة الإبداعية. بدا نصّ فيروز
مشغولاً بدقّة.
أقرب إلى التشريح. الإيجابيات كثيرة. هناك
إمكانية للمُشاهد في أن يتلاعب بالتفسير.
الخيط رفيعٌ جداً بين هناءة الاستذكار وقسوة الأيام التي مرّت. قالت فيروز
إن عاصي
ديكتاتور. كل مبدع كبير فيه جانب قامع.
«كانت حكاية». يبدأ الفيلم بأغنية عن
قصّة وضَيْعة. لكن القصّة غير صحيحة والضيعة غير موجودة. ما
الرابط بين الكذب الفني
الجميل وقسوة الواقع؟ هل الفيلم نفسه كذبة من أكاذيب الصياد مثلاً؟ لا
أتّهم أحداً.
المسألة فنية بحتة. وأجمل الفنون أكذبها.
أليس كذلك؟
السفير اللبنانية في
21/01/2010 |