الإعداد من الرواية إلى الفيلم:
قيل أن غودار من المواظبين، بل والمدمنين، على قراءة آثار ألبرتو
مورافيا
الروائية، وكان قد قرأ الرواية وأعجب بها . ومما يستحق الذكر بهذا الصدد هو
أن
مورافيا كاتب ملتزم ولد في أواسط العقد الأول من القرن العشرين وبالتحديد
سنة 1907
في روما وتوفي سنة 1990،
من أب يهودي ينحدر
من مدينة البندقيةـ فينيسيا ـ ويعمل مهندساً معمارياً. وتنطبق مواصفات
شخصية المخرج
السينمائي رينغولد في رواية الاحتقار التي كتبها على مواصفات المثقف
الألماني كما
يراه الإيطالي،ولم يعبر مورافيا في كتابه عن انتمائه اليهودي
من طرف الأب بصراحة
حيث لم يكن لذلك أي تأثير عميق عليه، ولم ينعكس على آثاره الأدبية.
نشر مورافيا
أولى رواياته عندما كان شاباً سنة 1929 وفي عمر 22 عاماً، وهي رواية "
اللامبالون"
وقد لاقت صدى كبيراً وأثارت ضجة لأنها انتقدت بشدة جزءً من البرجوازية.مارس
مورافيا
في الثلاثينات من القرن العشرين مهنة الصحافة وحقق العديد من التقارير
الصحافية
والريبورتاجات في الخارج، في أمريكا والصين واليونان
والمكسيك.وفي سنة 1939 أرغمته
القوانين العنصرية والمعادية للسامية الصادرة عن الحكومة الفاشية، على وقف
تعاونه
مع مجلة لا كازيتا دي بوبلو أو المجلة الشعبية. أقام عدة مرات في كابري في
سنوات
الأربعينات.
تزوج من الروائية إيلزا مورانت سنة 1941، وأمضى الأشهر الأخيرة من
سنة 1943 في العمل السري المقاوم. استعاد موارفيا عمله الإبداعي سنة 1947
وكذلك
عمله كصحافي وكاتب سيناريو للعديد من الأفلام الإيطالية ونشر
في نفس العام رويته
"
الإيطالية"، وفيها حقق أول نجاحاته التجارية المؤكدة. أسس سنة 1953
المجلة
الأدبية " الذرائع أو المبررات الجديدة"والتي شارك فيها الشاعر والمخرج
السينمائي
والمبدع الراحل بيير باولو بازوليني الذي أصبح فيما بعد واحداً من أقرب
أصدقاء
مورافيا . وفي السنة التالية، وبينما كان يحضر ويتابع الاستعدادات
والتحضيرات
لتصوير فيلم أوليس لماريو كامريني، استوحى موضوع رواية
الاحتقار.
وفي سنة 1955
بدأ مورافيا تعاونه المنتظم مع مجلة الإيسبريسو، مسؤولاً عن الصفحات
السينمائية.
جمعت مقالاته عن السينما ونشرت في كتاب سنة
1975 تحت عنوان "ثلاثون عاماً في
السينما" وابتداءاً من عام 1953 أعدت رواياته للسينما وساهم في
إطلاق اسم وشهرة
الممثلة النجمة جينا لولو بريجيدا بطلة فيلم "تاجرة الحب أو بائعة الهوى"
من إخراج
ماريو سولداني سنة 1953 وفيلم "الرومانية الجميلة" من إخراج لوي زامبا سنة
1954،
اعتبرت آثار البرتومورافيا الأدبية كنقطة انطلاق لأدب ملتزم ذي منحى نقدي
واستقصاء
وتحري واستكشاف وفضح ونقد للمجتمع الإيطالي لفترة ما بعد الحرب. غالباً ما
تكون
شخصيته الرئيسية المحبذة عبارة عن مثقف برجوازي ذي بصيرة أو ثاقب الرؤية
وعاجز في
نفس الوقت لكنه يعبر عن نفسه ويفضح أو يدين مجتمعه ويعبر عن
قلق وجودي حتى قبل
ظهور روايات الغثيان لجان بول سارتر والغريب لألبير كامو. التي تتحدث عن
بطل عاجز
عن الفعل أو التأثير على الفعل، ومذنب لعجزه عن التغيير والتأثير، ويواصل
بلا كلل
وبلا طائل في آن واحد، جهوداً للتأقلم والتكيف مع عالم يهرب
منه . الملل والضجر
واللامبالاة وعبث العيش هي التيمات والموضوعات الرئيسية والمركزية لعالم
مورافيا
الروائي.
ريشار، الراوي للأحداث في رواية الاحتقار، هو أول هؤلاء المثقفين
البرجوازيين سنة 1954 الذين يعيشون أزمة وجودية وينتشرون في ثنايا الرواية
والسينما في إيطاليا سنوات الخمسينات والستينات خاصة سينما أنطونيوني في
أفلامه "
المغامرة" سنة 1960 و"الكسوف" سنة 1962 حيث العجز الإبداعي يلبس قناع
الإخفاق
العاطفي في تطابق مع موضوع فيلم " الليل" لأنطونيوني سنة 1961 وريشار هو
أول بطل
لتيمة اللاإتصال الذي جرب مورافيا ألمه وشعر بأعراضه المرضية وأبدى تذمره
منه
وحاربه بعناد كما أعتبره الكاتب أهم صفة أو ميزة لأثره الإبداعي، منذ
الوجودية
التنبؤية لرواية " اللامبالون"، لهذا أمكننا أن نلاحظ في آثار
مورافيا أرضية موائمة
وملائمة لتطبيق أطروحات الناقد والمفكر الماركسي جورج لوكاش حول نظرية
الرواية
ومدرسة الواقعية النقدية . أهم المصادر القريبة من رواية "الاحتقار"، إلى
جانب
تجربة العالم السينمائي الذي كان يسيطر على عقل المؤلف ويستحوذ على هواجسه،
هو عالم
المخرج المجدد مايكل أنجيلو أنطونيوني ومواضيعه وكذلك روائع
المخرج المبدع روبيرتو
روسيلليني خاصة فيلمه"رحلة إلى إيطاليا" سنة 1954 وكما شاهدنا ظهرت ملصقات
وافيشات
وإعلانات هذا الفيلم داخل فيلم الاحتقار لغودار لتكريمه.
وفي الحالتين نكتشف قصة
زوجين يعيشان أزمة في علاقتهما الزوجية، والزوجين في فيلم
روسيلليني يقيمان لفترة
طويلة في الجنوب الإيطالي ويخرجان من الأزمة متصالحان حسب رؤية روسيلليني
المتفائلة
الانجيليكانية ـ المسيحية الإيمانية بينما يخرجان محطمين من الأزمة في
رواية
مورافيا .
مسألة الإعداد
السينمائي للرواية
عندما أعد غودار رواية الاحتقار للسينما وضع نصب عينه هدف
العودة إلى العجلة الروسيللينية، أي إلى آلية وجمالية روسيلليني السينمائية.
من
هنا نجد المشاهد الطويلة للشجار العائلي بالمقارنة مع المشاهد المشابهة في
فيلم
روسيلليني "رحلة إلى إيطاليا" وكذلك مشاهد تماثيل الآلهة التي صورت بمشاهد
بانورامية طويلة مثلما تم تصوير التماثيل الرائعة لمتحف نابولي من قبل
روسيلليني،
لذلك يمكننا القول أن غودار انحاز جمالياً وأسلوبياً إلى
روسيلليني بدلاً من
أنطونيوني، أي لصالح كتابة سينمائية واقعية وغنائية للرواية وليس تجسيداً
ذاتياً
للشعور الناجم عن القراءة الذي يتمخض عن تصور شخصي للمشاهد المستوحاة من
مشاهد
وفصول الرواية، وهي محاولة مبنية أو مؤسسة على حرية التجسيد
والتمثيل لدى الممثل
وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم انشراح المبدع عندما صرح: "حافظت على المادة
الأساسية
للرواية وغيرت فقط بعض التفاصيل منطلقاً من مبدأ أن ما يتم تصويره يختلف
أتوماتيكياً، أو بشكل آلي، عما هو مكتوب أي أن المادة المصورة
أصيلة وإن كانت
مستمدة من مادة مكتوبة . وهذه العبارة التي تعبر عن رأيه وضعها غودار على
لسان إحدى
شخصيات فيلمه وهو المخرج فريتز لانغ كجملة حوارية داخل الفيلم" ويواصل
غودار كلامه: "نعم
أدخلت بعض التفاصيل، فعلى سبيل المثال لو أخذنا تحولات الأبطال، الذين
انتقلوا من الكتاب إلى الشاشة، أي من المغامرة الكاذبة إلى
المغامرة الحقيقية،
بعبارة أخرى من الرخاوة والخمول والضعف أو النزعة اللارادوية الأنطونيونية
إلى
التصميم والإرادة والحسم والصرامة".
وفي معرض تقديمه لسيناريو الفيلم طور غودار
مباديء إخراجه وختم قوله: "بذلك نحصل، كما آمل، على المشاعر
الشخصية للأبطال
والشخصيات في علاقتها مع العالم ومع الآخرين، أي ذلك الشعور الفيزيائي
الذي نمتلكه
عن وجودنا مقابل الآخر، ونحصل في نفس الوقت على الحقيقة الخارجية
لتحركاتهم
وأفعالهم وعلاقاتهم فيما بينهم، والتوغل في حكاياتهم
ومغامراتهم، باختصار المقصود
هو إنجاز فيلم كما لو أنه لأنطونيوني ولكن يجري تصويره بطريقة كما لو أنه
فيلم
لهوارد هوكس أوهيتشكوك.
رواية الاحتقار لمورافيا بدت كما لو أنها سرد تواتري
مستقبلي، أو تأمل باطني وإدراك وصفي لما يجري في الذهن من شعوريات، أي سرد
يتقدم
إلى الأمام مكتوب على لسان الراوي الشخص الأول " الأنا "
ومقسمة إلى 23 فصلاً
قصيراً، وهو نفس العدد من مشاهد الفيلم ذو البنية الكلاسيكية.
ولنتذكر أن غودار
وعد المنتج كارلو بونتي بأنه ينوي إعداد الرواية حسب تسلسلها فصلاً بعد فصل
حيث
وزعت على قسمين رئيسيين متساويين بدقة متناهية. القسم الأول يدور في روما
ويستغرق
تسعة أشهر من أكتوبر إلى حزيران ويشمل عامين من الحياة
المشتركة للزوجين كامي وبول،
أما القسم الثاني فهو كما نرى يشمل موقع تصوير الفيلم داخل الفيلم ويستغرق
ثلاثة
نهارات وليلتين . فالأحد عشر فصلاً الأولى مالت نحو كتابة منطقية ـ
سيكولوجية ذات
طابع استنتاجي واستنباطي ـ تحليلي
déductif – analytique
والجزء الباقي من الفصول
هي ذات طابع أكثر ميتافيزيقية وغرائبية
métaphysique –fantasmatique
ومن الفصول
الحلمية
oniriques
في الرواية لم يبق منها في الفيلم سوى اللقطة التي نرى فيها
بول
مستلقياً يستمع كما لو إنه في حلم، لصوت كامي وهي تتلو عليه رسالة الوداع
والفراق.
الراوي ريشار مولتيني يقدم نفسه كالتالي:" لغاية الآن أعتبرت نفسي
مثقفاً، أو
بالأحرى، رجلاً مطلعاً ومتابعاً، ومبدعاً متعلماً وكاتباً مسرحياً، وهو نوع
من الفن
أعرته دائماً اهتمامي وشغفي وعشقي وأعتقد أنني موهوب فيه". وبعد أن قرر
الراوي وأحد
شخصيات الرواية الرئيسية شراء بيت بالتقسيط والتقى بمحض الصدفة ولحسن حظه
بمنتج
أفلام تجارية إيطالي يدعى باتيستا وافق مولتيني على العمل معه
لأسباب أولية مفهومة
على حد قوله: "لأنني كنت آمل كتابة أربع أو خمس سيناريوهات لدفع ثمن شقتي
ومن ثم
العودة للعمل في الصحافة وإلى عشقي وهوايتي الأساسية العزيزة على قلبي ألا
وهي
المسرح".
وفي الفصل الثامن من الرواية، وبعد 80 صفحة من السرد، يعدل مولتيني
سيناريوهين حيث يقترح عليه باتيستا التعاون مع مخرج ألماني يدعى رينغولد
يقوم
بتصوير فيلم تاريخي أكثر طموحاً وهو عبارة عن إعداد سينمائي
لملحمة
الأوديسا.
إن سرد مورافيا في الرواية يمتد لعدة أشهر. ويتركز حول التدهور
التدريجي في علاقة الزوجين، ريشار وإيميلي (إيميلي هو اسم الزوجة في رواية
مورافيا
والذي غيره غودار إلى كامي في الفيلم) وقد عرض مورافيا هذا التدهور في
العلاقة
الزوجية عبر تطور تحليلي طويل يبرز جزءاً من تساهل الراوي
ومجاملته وهو ما وصمه
غودار بالضعف والخمول أوالوهن الأنطونيوني . النقاشات حول وضع وحالة
السينما شغلت
حيزاً متواضعاً في القسم الأول للرواية، في حين نجد في القسم الثاني، في
كابري،
سجالات ومناقشات نظرية وتنظيرية محتدمة تنشب بين رينغولد
ومولتيني. فالمخرج
الألماني يدافع عن تفسير ذو طابع يتلبس صبغة التحليل النفسي بشأن تأخر عودة
أوليس
لوطنه وزوجته بينما يعارض ذلك مولتيني بشدة بحجة الأمانة العتيدة للمثال
والنموذج
الهوميري (نسبة لهوميروس مؤلف الأوديسا)، بيد أن هذه القراءة للأوديسا بدأت
تؤثر
شيئاً فشيئاً على الراوي الذي صار يقارن ويسقط أويماهي وضعه
العائلي بوضع الزوجين
عند هوميروس محولاً إيميلي إلى بينيلوب حتى بالشكل، ولكن وكما شاهدنا في
الفيلم،
عكس غودار الأطروحات للشخصيتين مقدماً المخرج الألماني فريتز لانغ بوصفه
الأمين
والمخلص والمحافظ على الصيغة الكلاسيكية للأوديسا.
الإعداد السينمائي الذي قام
به غودار استغل المراحل السردية الرئيسية للرواية الأصلية
فأغلب المشاهد المركزية
الرئيسية في الفيلم موجود في الرواية، مثل مشهد سيارة باتيستا الحمراء
والتي ينقل
فيها إيميلي مرتين في بداية الرواية فيما يستقل مولتيني سيارة تاكسي وكذلك
لحظة
مغادرة كابري التي يرافق فيها مولتيني المخرج رينغولد بينما
يرافق باتيستا زوجة
مولتيني.
أجرى غودار عدة تعديلات جوهرية على فصول الرواية عند نقلها للشاشة فقد
اختزل الفترة الزمنية التي تستغرقها أحداث الرواية وكثفها بيومين فقط،
اليوم الأول
في روما واليوم الثاني في كابري. تتلاحق الأحداث وتتداخل
بكثير من القسرية محولة
البنية الروائية الرومانسية إلى تراجيديا، وسوف نحلل هذا التكثيف في
المحاضرة
المخصصة للبنية الدرامية للرواية والفيلم. كما غير غودار كلياً جنسيات
الشخصيات
بالرغم من إبقاء الحدث يدور في روما وكابري وكانت الشخصية الإيطالية
الوحيدة في
الفيلم هي شخصية المترجمة فرانسيسكا التي اختلقها غودار ولم
تكن موجودة في الرواية
مستبدلاً شخصية السكرتيرة الثانوية التي يقبلها مولتيني في الرواية (وهي
فرانسيسكا
فانيني ذات ملامح ستاندالية ـ روسيللينية بغية التعبير عن تفضيله وانحيازه
واختياره الجمالي الميال لروسيلليني.
المخرج في الرواية والفيلم ألماني الجنسية
لكن رينغولد، الذي لديه بعض ملامح المخرج ج دبليو باتيست عند
مورافيا، يصبح فريتز
لانغ عن غودار والذي يجسده في فيلم غودار فريتزلانغ نفسه الذي يلعب دور
المخرج
السينمائي وهو في الحقيقة مخرج سينمائي مبدع وهذا تكريم من غودار لتجربة
وشخصية
فريتز لانغ وكذلك عندما نرى كامي في الحمام تحمل كتاب سينمائي عنوانه فريتز
لانغ
تقرأ منه مقاطع، على لسان فريتز لانغ نفسه، وبصوت عالي على
مسامع بول.
أما
باتيستا في الرواية فهو انعكاس لشخصية المنتج كارلو بونتي لدى مورافيا
ويصبح عند
غودار جيرمي بروكوش المنتج الأمريكي في سنوات الخمسينات والذي كان هو
وأمثاله من
حفر قبر هوليوود كما قدمه غودار. وريشار وإيميلي لم يعودا
إيطاليين كما في الرواية
بل حولهما غودار إلى زوجين فرنسيين يعيشان في روما منذ زواجهما حيث يوضح
السيناريو
أن هذا الزواج تم بعد بضعة أسابيع من العطلة الرومانية لكامي وغير اسميهما
من ريشار
إلى بول ومن إيميلي إلى كامي واسم مولتيني أصبح جافال.
للبحث
تتمة
jawadbashara@yahoo.fr
المدى العراقية في
27/01/2010 |