يمثل فيلم كلمني شكرًا
الذي كتب فكرته عمرو سعد، وأعد
له السيناريو والحوار
سيد فؤاد في أولي تجاربه، وأخرجه
خالد يوسف،
البداية القوية للموسم السينمائي للأفلام المصرية في العام
الجديد 2010،
بل
إنه سيكون حتي ضمن قائمة أفضل أفلام هذا العام كما يمثل الفيلم الإضافة
المعتبرة
لما اصطلح علي تسميته بأفلام المهمشين، هذا عمل يقدم شخصياته ونماذجه البسيطة
بحب، ويرسم عالمهم بدون روتوش وبطريقة يمتزج فيها الضحك بالشجن، محور
الحكاية
إنسان يعيش علي الهامش اسمه إبراهيم توشكي ولكنه يحلم بأن يكون بطلاً
ونجمًا
علي الشاشة، وقد حقق له صناع الفيلم الجميل والمؤثر هذه الأمنية، بل أنهم
جعلوا
كل هذه الفئة البعيدة عن العين في قلب الصورة، ويبدو أنه التعويض الوحيد المتبقي
لهم: أن تحميهم السينما من النسيان بعد أن أصبحوا خارج الحياة!
نحن
أمام فيلم شخصيات بالدرجة الأولي، عمل كان يمكن أن يرحب باخراجه
عاطف الطيب
أو رضوان الكاشف لو كانا علي قيد الحياة، المكان منطقة متواضعة اسمها
عزبة
حليمة يتجول التوك توك في شوارعها الضيقة، تقريبًا لا نغادر العزبة إلا في
مشاهد قليلة محدودة وكأننا نعيش تمامًا معهم، أما الأشخاص فيقدمون
- رغم كثرتهم
ببراعة ومن خلال تفصيلات بسيطة وعادية، ويتفق الجميع في أمرين:
الأحلام
المتواضعة، والقدرة علي التحايل علي المعيشة لتستمر الحياة،
ومثل كل أفلام
المهمشين تبدو قدرة الشخصيات علي تغيير واقعها محدودة لأنها تعيش يومًا
بيوم بل
ساعة بساعة، أما الأحداث فهي محدودة أيضا بل وتكاد تكون
تنويعات متكررة بأشكال
مختلفة ولذلك فإن أفضل طريقة لتحليل هذا الفيلم أن نستعرض هذا الحشد من
الشخصيات
التي قدمت بتعاطف كبير رغم رسمها بكل ملامحها وأطيافها من الأبيض والأسود
مرورًا
بالمناطق الرمادية،
الشخصيات الرجالية يتصدرها بالطبع إبراهيم توشكي عمرو
عبدالجليل الذي يعمل علي نطاق ضيق في سرقة الخطوط لدخول
عالم الاسترزاق من
الاتصالات، ولكنه أيضًا كومبارس في برامج الفضائيات يؤدي أدوارًا تستكمل
دائرة الفبركة علي المشاهدين، هو
كومبارس بحكم المستوي الاقتصادي رغم حلمه
بأن يكون من نجوم السينما، وهو أيضًا كومبارس
علي الشاشة، ومن أحلامه
البسيطة أيضًا أن يتزوج من فتاة اسمها عبلة
رغم قيود الشبكة والمهر،
وحول
توشكي الذي يزعم كذبًا أنه يمتلك أرضًا في المشروع الشهير بجنوب الوادي
توجد
شخصيات أخري أحلامها أكثر تواضعًا مثل
عرابي صبري فواز الذي يريد تربية ابنه
الوحيد لولي من الفرن الصغير الذي يملكه،
ويتحايل علي المعيشة ببيع الدقيق
بدلاً من خبزه، وصديقهما الثالث زين
رامي
غيط الذي يحلم بالزواج من
شقيقة إبراهيم الممرضة هبة، أما عاطف شادي خلف فلديه كافتيريا ومركز
اتصالات ولكن تؤرقه منافسة توشكي في الأرزاق..
الشخصيات النسائية لا تقل بؤسًا عن
النماذج الرجالية، فالأم رابحة شويكار ابنها وابنتها محور حياتها لدرجة
أنها
توافق علي تصوير شريط مفبرك للفضائيات يقوم فيه ابنها بضربها مدعيا أنه
ضابط شرطة،
يصل حلمها البسيط إلي حد أن تركب المراجيح تحقيقًا لأمنية لم تتم في
الطفولة،
لدينا أيضا أشجان
غادة عبدالرازق التي تحترف الرقص في الأفراح ولا تتمني سوي
أن يعترف إبراهيم توشكي بأنه والد أبنها
علي، أما أختها فجر فتحلم
بأن تخرج من العزبة بالسفر، ولا تتردد في أن تعرض جسدها عبر الإنترنت بحثًا عن
المال، عبلة أيضا لا تريد أكثر من أن يكون
إبراهيم
لها وحدها بعيدًا عن
منافسة أشجان، والممرضة هبة لا تريد سوي الزواج من زين
رغم مظهره
البائس، ورغم أفكاره الكئيبة مع أنه يحمل مؤهلاً
عاليا، وعلي الهامش ستجد
محاميا متواضعًا يدير مشاكل الشخصيات مع الحكومة، ولكنه لا يتردد في بيع موكله
توشكي لمن يدفع أكثر!
من خلال لمسات وتفصيلات ومواقف حية نابضة يصبح
من الصعب عليك أن تنسي هذه الشخصيات،
ورغم أن إبراهيم توشكي يتصدر معظم
المشاهد إلا أن النماذج الأخري لها حضورها، أما الطموحات فهي بسيطة جدًا ولذلك
تبدو كما لو أن الحكايات تتكرر بتنويعات مختلفة، فمرة يقوم توشكي بدور رجل تعرض
للاغتصاب في طفولته، ومرة يلعب دور عريس يجسد طقوس الدُخلة البلدي،
ومرة يكتفي
بالتصفيق في الاستديو أو طرح سؤال متفق عليه،
ومن ناحية أخري تتكرر لعبة القط
والفار بين اشجان وتوشكي لاجباره علي الاعتراف بالطفل علي
وتتكرر مكائد
عاطف لصديقه توشكي خوفا علي الأرزاق، ويلعب هذا التنويع المتكرر دورًا هاما في
تحجيم الأحداث وجعل الشخصيات داخل دائرة مغلقة،
وتقريبًا لا تشعر الشخصيات بالزمن
لأنها خارجة عنه بالمعني الحرفي،
بل أنها محاصرة بالمكان ولا تخرج منه إلا إلي
المحكمة في مخالفات ادارية، أو إلي حديقة عامة طلبا للترويح المجاني،
وتتكرر
أيضا التحايلات المختلفة من أجل استمرار العيش من بيع الدقيق إلي ابتكار
الوصلة
العجيبة لمشاهدة القنوات الفضائية،
ومن عرض الجسد العاري علي الانترنت إلي تقديم
اشجان جسدها لصاحب المنزل تسديدًا للإيجار،
لوحة كاملة نابضة بالحياة تمتزج
فيها الملهاة بالمأساة، والناس بالمكان، والحلم بالواقع المؤلم..
هناك حدثان
كبيران فقط. يتحققان في الربع الأخير من هذه اللوحة المتقنة:
الأول عندما يخرج
زوج أشجان السابق الفتوة صلاح معارك (ماجد المصري) من السجن، ثم يحاول
اختطافها مع ابنها علي، ويسعي توشكي لاسترداد ابنه غير الشرعي،
والحدث الثاني هو اصابة الأطفال ومعهم لولي
ابن عرابي - بفقدان البصر بعد
تعاطيهم خمورًا مغشوشة، سيكون الحدث الأولي مناسبة لكي يحقق توشكي
بطولات
حقيقية بمعيار ظروفه بدلاً من الحلم ببطولة لن تتحقق في الأفلام..
سيعترف
أولاً بابنه علي، وسيحشد الحارة لاسترداده،
ورغم أنهم جميعًا سيكونون
أجبن من الرصاص،
إلا أن الفتوة سيعيد إليهم الطفل في تصرف
غير متوقع وغريب،
وستكون هناك بطولة مضاعفة لـ
توشكي بألاّ يهرب من الحكومة، وأن يذهب إلي
السجن لتنتظره عبلة
بعد
6 شهور، حتي في هذه النهاية سيفرض الواقع نوعية
البطولة المستحقة علي توشكي
وأمثاله،
أما الحدث الثاني فيوحي للفيلم بمشهد
أخير رهيب لا يخلو من الرمز فإذا كان فيلم عصافير النيل يبدأ بمشهد قاس
للقاء
عاشقين مريضين في مستشفي حكومي متهالك فإن كلمني شكرا ينتهي بمشهد مؤلم مع
نزول
العناوين:
الأطفال فاقدو البصر وهم يستخدمون الريموت
في تغيير القنوات
التليفزيونية ويجعل هذا المشهد الضحك مريراً لأنه يجعله كالبكاء سواءً
بسواء..
لابد أولاً من تقديم التحية لكاتب السيناريو سيد فؤاد الذي ابتكر مواقف
قوية
ونجح في رسم ملامح شخصياته باتقان رغم كثرتها كما قدم حواراً
شديد الحيوية حتي
ولو بدا جارحاً للبعض وأؤكد أن حوار شخصيات مثل التي شاهدناها يتناسب تماما
معها
بل ويبدو شديد التهذيب مقارنة بما يحدث في الواقع أو حتي في
الأفلام الأجنبية..
سيد فؤاد سيكون إضافة حقيقية لكتاب السيناريو لو استمر في الكتابة عن عوالم
وشخصيات يعرفها كما أنه يمتلك قدرة واضحة علي تقديم المشاهد الكوميدية ويجب
ثانياً
الإشادة بالطريقة البسيطة التي قدم بها خالد يوسف مشاهده بدون
فذلكة أو استعراض
بصري حتي استخدام الكرين والحركة البانورامية المتصلة للكاميرا تم توظيفهما
جيداً
لإعطاء حضور قوي للمكان ولإبراز مجهود مهندس الديكور حامد حمدان..
المونتيرة
غادة عزالدين كانت أيضا وراء تدفق المشاهد بسلاسة بل أن هناك مشاهد اختزلت
بالصوت
فقط مع تركيبها علي مشاهد أخري لتكثيف الحدث ومن التتابعات
الجيدة لقطات أولمبياد
الغلابة الذي قام توشكي بتنظيمه حتي المشهد الذي يحل فيه توشكي محل نجيب
الريحاني
كان في مكانه وفي أجواء السينما التي يعشقها بطلنا الحالم وقدم سمير بهزان
مدير
التصوير مزيجا من طبقة الإضاءة العالية التي تناسب المواقف
المرحة والطبقة المنخفضة
التي تناسب ظروف الأبطال البائسة ومن أجمل مشاهده نقطة تناول الأطفال
للخمور
المغشوشة تحت سماء يمتزج فيها الرمادي بالأحمر ثم دخولهم منطقة الظلام وهم
يصرخون
ولا ننسي ملابس سنية فتح الباب خاصة في خليط الألوان العشوائي
عند توكشي وفي اللون
الأسود عند أشجان الذي يجسد مأساتها رغم ابتذالها الواضح.. الممثلون جميعًا
كانوا
في أدوارهم، والملاحظات تتعلق فقط بطريقة أداء بعض المشاهد،
عمرو عبدالجليل
مثلاً أفلتت منه بعض الأفيهات، وكان من الأفضل ألا يكرِّر التلاعب بالحروف كما
فعل في حين ميسرة
ودكان شحاتة، ولكنه مشخصاتي بارع خاصة في الأدوار
الشعبية، أما غادة عبدالرازق فقد كانت رائعة خاصة في مشهد المواجهة مع أختها
فجر بعد عودتها،
كما قدمت شويكار مشهدين من أقوي ما قدمت في حياتها،
الأول المشهد التمثيلي مع ابنها الذي يتطلب أن يصفعها، والثاني مشهد فرحتها
بركوب المراجيح، في المشهد الأول كانت عيونها تبكي وتترجم عن حزن بلا ضفاف،
وفي
الثاني كانت عيونها تضحك من الأعماق مثل طفلة صغيرة، ربما تعثَّرت في الإلقاء في
بعض المشاهد، ولكنها ممثلة قديرة مازالت قادرة علي العطاء،
ولفت الأنظار أيضًا
صبري فوّاز بدوره المختلف، وهذا هو اكتشافه الثاني مثل
رامي غيط بعد
دورهما في دكان شحاتة، وإن كان الأخير قد أسرف في تغيير صوته زيادة عن
المطلوب رغم كاريكاتورية الشخصية،
لابد أيضًا من الإشادة بالوجوه النسائية
الجديدة وأفضلهن التي لعبت دور فجر
ببراعة وبحضور فائق، أما شادي خلف فقد
كان أضعف المشخصاتية حيث بدا وجهه جامدًا ولا علاقة له بكلمات الحوار رغم
أنه ممثل
جيد كما شاهدناه في أفلام سابقة.
كلِّمني..
شكرًا
عمل هام في
سينما 2010 وفي مسيرة مخرجه وأبطاله، يكفيهم أنهم عبّروا عن المكان والبشر
والأحلام البسيطة بطريقة تنفذ إلي القلوب والمشاعر،
ويكفيهم أنهم جعلوا
كومبارس الحياة أبطالاً علي الشاشة البيضاء! تعاقد عليهما منذ أيام
روز اليوسف اليومية في
27/01/2010 |