في عام 1958 أخرج الراحل فطين عبد الوهاب فيلما بعنوان "الأخ
الكبير"وكان من النوع الاجتماعي الذي لا يخلو من رومانسية، وكان أيضا من
أفلام الأسرة التي قدمت السينما المصرية العديد منها.
في الفيلم المذكور كان هناك أخ كبير "فريد شوقى" وأخ صغير "أحمد رمزي"
وكانت هناك امرأة فاتنة "هند رستم" حاولت أن تتدخل بين الشقيقين، لكن الأخ
الكبير كان حاسما ومدافعا عن أخيه الى النهاية، مضحيّا بكل شيء من أجل هذا
الأخ ومن أجل النجاح في دراسته.
لقد تذكرت هذا الفيلم عند مشاهدتي لفيلم "ميكانو" لمخرجه محمود كامل
في آخر تجربة سينمائية له، وتذكرته ليس من باب التشابه، فكل فيلم مختلف عن
الثاني، ولكن لأن تضحية الأخ الكبير ظهرت مرة أخرى من أجل الأخ الصغير،
بصرف النظر عن اختلاف الاعتبارات الاجتماعية عن قضايا لها علاقة بالإفراد
ومشكلاتهم النفسية والفردية.
* مساحة كبيرة
هذا الجانب العاطفي يفرض نفسه ولاسيما وأن الفيلم "السيناريو" قد أفرد
مساحة لهذا الأخ الكبير "وليد" ولذلك نراه في أكثر من مرة وهو يتنقل على
دراجته النارية في الشوارع الكبيرة وأحيانا في اقتراب من قرص الشمس، وكأنه
يملأ الفضاء، أو يصاحبه التوفيق في كل ما يقوم به من تضحيات، لها طابع
اجتماعي، إنه نموذج للشخص المثالي المضحي بحياته من أجل أخيه، بل المضحي
بمصالحه كلها، حتى أنه لم يتزوج ولم يفكر في العائلة، فكل طموحه هو الوقوف
إلى جانب الأخ الصغير "خالد" ومحاولة إنقاذه مما يمرّ به من أزمات نفسية.
في هذا الفيلم هناك عنوان واضح وهو "ميكانو" والمعنى هنا يتقرب من
لعبة للأطفال هي عبارة عن تفكيك وتركيب، وقد تكون مرتبطة بعمر معيّن، وهو
عمر الطفولة، حيث يستقر المهندس خالد في هذا العمر ولا يغادره أبدا.
علينا أن نعترف بأن الفيلم يسير على منوال الأفلام المقتبسة، فالقصة
ربما كانت أقرب الى الفيلم الأجنبي، لأنها مرتبطة ببعض الجوانب الطبية
العلمية التي تخرج عن سياق الواقع الاجتماعي في مصر، كما أن الشخصيات ذات
طبيعة مهينة حيث نرى الجميع من أصحاب المهن الراقية، ومن شقة ثمينة الى
فيلا جديدة أغلى منها. ومن خرائط هندسية مبتكرة الى شركات كبرى للمقاولات،
والفيلم بهذه الصورة تدور أحداثه في عالم رجال الأعمال فقط.
سوف نرى أيضا أمطارا تتهاطل بمدينة القاهرة أكثر من مرة، وسوف نجد
الأخ الكبير "وليد" وهو يستخدم الدراجة النارية بمجرد المشهدية المحايدة،
رغم أن لديه سيارة خاصة، وربما كانت لكل الشخصيات سيارات خاصة.
يبدأ الفيلم بصور من الطفولة لكل من الأخوين وليد وخالد، ولا شك أن
ذلك أساس الفيلم، ولكن المشهد الرئيسي في البداية كان لحفلة تقام للإعلان
عن الماكيت الهندسي لأحد التصاميم التي نفذها المهندس خالد والذي لا يظهر،
ولكن تتم دعوته لتوقيع عقد مع أحدى الشركات، وبالفعل يظهر، حيث نلحظ عليه
الارتباك، فهو يستخدم الصور لكي يتذكر بعض الوجوه مما يعملون في الشركة،
ويساعده أخوه الكبير من أجل أن يصل بسلام الى الحفلة يساعده في كل كبيرة
وصغيرة.
لقد نجح الفيلم فى إبراز مشكلة المهندس خالد، والتغطية التي يقوم بها
الأخ وليد من أجل عدم الكشف عن الحقيقة التي ظلت مخفية لسنوات طويلة، حيث
يظهر هو في الواجهة باعتباره المهندس المنفذ بينما يقوم الأخ الصغير بكل
أعمال التصاميم في المنزل.
للوهلة الأولى يتراءى لنا بأن المهندس وليد يمارس خداعا على أخيه،
بحيث يجبره على أن يعيش ويتصرف بطريقة مرتبكة، فالأمر لا يخلو من عقدة
نفسية تلاحق الأخ الصغير ويستغلها الأخ الكبير بطريقة تخدم مصلحته أولا
ومصلحة أخيه ثانيا.
* الوهلة الأولى
يبدو ذلك في الظاهر للوهلة الأولى، لكن الأحداث تسير في عكس هذا
الاتجاه، فقد قدمت شخصية المهندس خالد على أنه مريض، يعاني من فقدان
الذاكرة، وبالطبع لا يحاول الفيلم إقناع الجمهور بهذا المرض، فهو مرض نادر
جدا، وربما كان من النوع الافتراضي الذي صمم لأجل صياغة سيناريو بهذه
الطريقة وليس غيرها.
قد يكون فيلم "ميكانو" من الأفلام النفسية، التي قدمت السينما المصرية
القليل منها، كما في" بئر الحرمان" مثلا لكمال الشيخ و"السراب" لأنور
الشناوي ونقصد بذلك الأفلام المعتمدة على العقد النفسية الفردية، وبشكل عام
تدرج هذه النوعية في سباق الأفلام المقتبسة أو عندما تكون الأصول أعمال
أدبية معروفة لإحسان عبد القدوس أو نجيب محفوظ مثلا.
لذلك نلحظ بوضوح أن الشخصيات الرئيسية ،وهي أربع ، ظلت بعيدة عن
الواقع نسبيا، وليس ذلك بالأمر السلبي لأن المجهود المبذول في السيناريو
الإخراج كان جيدا الى حدّ كبير. ولا ننسى أن النجاح في التمثيل قد قاد
الفيلم نحو الاقتراب من المتفرج ، رغم أن فكرة الفيلم بقيت غريبة وينقصها
عامل الإقناع.
لقد قدّمت عشرات الأفلام العربية التي اعتمدت على موضوع فقدان الذاكرة
والكثير من هذه الأفلام ظل ميلودراميا الى درجة كبيرة، حيث تذهب الذاكرة
وتعود حسب مسار الفيلم ومتطلبات الدراما وضرورات البداية والنهاية.
في هذا الفيلم لا تعود للشخصية الرئيسية ذاكرتها المفقودة، وفي
النهاية كما هو معتاد، بل يقود فقدان الذاكرة الى القبول بالأمر كما هو،
وبالتالي تحوّلت قصة الحب إلى مجرد حكاية وتتكرر بلا نتيجة واضحة أو نهاية
ايجابية.
*فقدان الذاكرة
فى الفيلم ثلاث شخصيات رئيسية، المهندس خالد المريض بفقدان الذاكرة
والذي أجريت له عملية جراحية منذ فترة طويلة وكانت سببا في أن كل ما يعرفه
فى فترة معينة يتعرض للمسح الكامل، مرة كل ثلاث سنوات أو سنتين وأخيرا كل
سنة.
والشخص الوحيد الذي يعرف ذلك الأخ الكبير وليد وهو مهندس، دخل الهندسة
وترك الطيران لكي يتعاون مع أخيه، إنه ذاكرة خالد فهو يحفظ له كل معارفه
ويحفظ له سلوكه وهو أيضا مدير أعماله تقريبا، حيث يتمتع خالد بالنبوغ في
التصميم الهندسى ليس أكثر.
لا يفسر الفيلم جيدا الأسباب التي تجعل المهندس خالد لا ينسى ما عرفه
من علوم هندسية، لكنه يمرّ على الموضوع مرورا عابرا، وفي جميع لأحوال لا
يصمد الفيلم أمام الإقناع، ويبقى ضعيفا في هذه الزاوية. وهذا هو حال معظم
الأفلام التى تختار جوانب خفية وغير واضحة من الافتراضات العلمية أو
الطبية.
هناك شخصية الدكتور المختص الذي يتقاسم المعلومات السرية، وهو يفسر
الأمر بطريقته الخاصة، وتظهر أحيانا بعض مشاهد الرجوع للخلف لتصور علاقة
الطبيب بخالد قبل إجراء العملية، وفي جميع الأحوال تأتي مشاهد الرجوع للخلف
ضعيفة ولا مبرر لها، لكنها تظهر تعبيرا عن السرد بالصورة بدلا من السرد
بالكلام يتعرف خالد على أميرة بالصدفة ثم ينساها. ويتعرف عليها مجددا،
لتبدأ علاقة عاطفية بينهما. نهايتها سلبية بالطبع، حيث يبدأ خالد من جديد
دائما.
أما شخصية أميرة، فهي متحررة في الظاهر، تلح عليها أمها لكي لا تعيش
لوحدها ولاسيما وهي المطلقة بعد زواج دام لشهور محدودة، لكنها ترفض.
أما الزوج السابق، فهو يلح على عودة زوجته، ولا نفهم سببا واضحا لذلك،
فهو يريد الزواج منها من جديد، ويستمر في المتابعة والتهديد، الى أن يصل
الى معرفة سر المهندس خالد، ويعلم الشركة التي تتعاون معه ويعمل بها
المهندس وليد أيضا، فتخلى كل التزاماتها مع الشقيقين، ورغم أن المشاهد لا
يعلم سببا في تمسك الزوج بعودة الزوجة إليه مرة أخرى، إلا أنه يجد نفسه قد
وقف الى جوار الزوجة، والسبب يعود الى أداء الممثل "خالد محمود" والذي قام
بدور الزوج بطريقة مصطنعة لكنها تؤدي الغرض بالنسبة للسيناريو، لأنه قد جمع
بين الفردية الطاغية والأنانية والنذالة، ليس بالتصرفات، ولكن على مستوى
السلوك أيضا.
فى المقابل، جاءت المهندسة أميرة أقرب الى السندريللا، فهي تسعى الى
الحب ولا تبحث عن الزواج رغم أنها مطلقة، وهي تصرّ على استمرار علاقتها
بخالد رغم أنها تعلم بعدم جدوى هذه العلاقة.
يضع الفيلم في خلفية الأحداث علاقة أخرى لا تخدم السياق، علاقة بين
طرفين كلاهما صديق لأميرة "دينا وأشرف"، فهما يختلفان ثم يعودان الى سابق
علاقتهما ولا يوجد أي رابط لهذه القصة بأحداث الفيلم الأخرى إلا من حيث
إفشاء السر. أما بالنسبة لشخصية وليد الأخ الكبير فقد وضع في صورة بطل
الفيلم، وقد قام بالدور وبنجاح الممثل خالد الصاوي، وقد أوضح الفيلم القيود
التي كبلته اجتماعيا بسبب ارتباطه بأخيه. غير أنه ينطلق على دراجته النارية
أحيانا تعبيرا عن الحرية وربما بحثا عنها.
لقد حاول الفيلم أن يتبنى فكرة الطفولة، في لعبة ميكانور وفي ديكور
الشقة الطفولي الذي صمّمه خالد فوق السطوح، ثم أكملته المهندسة أميرة بعد
ذلك، وكذلك في بعض حوارات خالد التلقائية وابتعاده عن بعض التعقيدات
الحديثة، حيث لا يستعمل الموبايل مثلا إن خالدا هنا أقرب الى الشخص الذى
توقف نموه عند مرحلة معينة، رغم أنه جسديا متكامل البنية وبصورة عامة ابتعد
الفيلم عن هاجس معيّن يفرض نفسه وهو الهاجس الجنسية، لأنه يتعارض ربما مع
مفهوم الطفولة ولاسيما أن كل الشخصيات تبحث عن حريتها.
* نجاح ولكن
كما قلنا هناك نجاح واضح بالنسبة للممثلين ولاسيما بالنسبة للمثل خالد
الصاوي وهذا الدور تكملة لنجاحه في أدوار كثيرة سابقة مثل "جمال عبد
الناصر" و"عمارة يعقوبيان" و"الجزيرة" و" الفرح" و" السفاح" و "كباريه".
وهذا النجاح ينطبق أيضا على الممثلة "نور" والذي يبقى حضورها خفيفا
ولكنه مقنع ولقد تكرر ذلك فى أدوار سابقة لها مثل" شورت وفانيلا وكاب"
و"أصحاب ولا بيزنس" و"سنة أولى نصب" و"كشف حساب" و"ملاكي إسكندرية" وغير
ذلك من الأفلام يبقى الممثل السوري تيم حسن في أول أدواره السينمائية بعد
أن نجح في الدراما المرئية، ولعل من مميزاته قدرته على التعامل مع الدور في
حدود معينة، ليس فيها الكثير من التعبيرات الزائدة. ولاسيما وأن الشخصية
مركبة تغري بالانفعال المبالغ فيه. كما هو واضح في شخصية المهندس خالد.
بالطبع جاء هذا النجاح بعد تجارب جيّدة في التعامل مع الشخصيات،
ولاسيما في مسلسلات مثل:" الزير سالم "و"صلاح الدين الأيوبي" و"ربيع قرطبة"
و"صقر قريش "و"التغريبة الفلسطينية" والدور الأهم في مسلسل"لملك فاروق".
إن فيلم"ميكانو" ليس من الأفلام الكبيرة بالطبع، لكن الجهد في الإخراج
بدا واضحا وقد سبق للمخرج أن قدّم فيلما بعنوان" ادريالين" وآخر بعنوان"
عزبة آدم "وأظن أن فيلم" ميكانو" يبقى هو الأفضل.
العرب أنلاين في
27/01/2010 |