قبل افتتاح دورة العام 2009 لمهرجان ( سيزار ) السينمائي الفرنسي ، كانت
جميع توقعات : النقاد والمعنيين ومتابعي الدورة ، راسخة ً ، بصورة شبه
أكيدة ، بأن فيلم ( ميسرين ) ــ الذي يتناول شخصية اجرامية غامضة، وكان قد
حقق ايرادات باهرة ــ سيخطف عشراً من جوائز المهرجان . ولكن ما أن بدأ
الإعلان عن الجوائز، حتى راحت جميع تلك التوقعات تتداعى تباعاً ، حين فاجأ
فيلم ( سيرافين ) الجميعَ بخطف سبع من تللك الجوائز: جائزة أفضل فيلم .
وأفضل ممثلة ( يولاند مور ـ عن دور سيرافين ) . وأفضل سيناريو ( كتبه :
لبناني الأصل مالك نورالدين، و مخرج الفيلم : مارتان فورست ) . وأفضل أزياء
. وأفضل ديكور . وأفضل موسيقى .. وبهذا فقد استحقت هذه الدورة تسمية: دورة
المفاجآت .
وقبل هذه الجوائز ، مجتمعة ً ، كان فيلم ( سيرافين ) قد نال جائزة ( الهرم
الذهبي ) من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، الذي منح جائزته ـ أيضاً ـ
الى ( يولاند مور ) كأحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم . و ( يولاند مور )
ممثلة بلجيكية / فرنسية ، معروف عنها أنها ممثلة كوميدية ، أصلاً ، ولكنها
أذهلت الجميع بدورها التراجيدي ، الذي كان يطبع حياة سيرافين الحقيقية .
وهذه هي المرة الثانية التي تفوز فيها هذه الممثلة بجائزة سيزار .
و سيرافين ، هي ـ في الحقيقة ـ رسامة فرنسية فطرية . ولدت في الثالث من شهر
أيلول ـ سبتمبر 1864 لعائلة معدمة في مدينة ( سنليس ) الفرنسية ، و توفيت
في الحادي عشر من كانون الأول ـ ديسمبر من العام 1942 .. و في مصح عقلي . و
واقع الأمر فأن هذه الرسامة كانت قد مرت كطيف عابر في تاريخ فن الرسم
المعاصرفي فرنسا . رسامة فطرية لا تعرف ـ مطلقاً ـ أحداً من الرسامين و
لايعرفها ـ أيضاً ـ أي واحد منهم ، ولكنها دخلت من بوابة جانبية في هذا
التاريخ ، بانتباهة من باحث و جامع لوحات آلماني اسمه ( ويلهلم أوهد ) ،
انتبه اليها حين عثر على رسمة لها ـ صدفةً ـ فأنبهر بها . و هذا الرجل هو
ذاته الذي كان قد أكتشف الفنان الفرنسي الفطري الباهر ـ موظف الكَمارك ـ (
هنري روسو ) ، و كان هو ـ ذاته ـ أيضاً : أول من اشترى لوحة لـ ( بيكاسو )
و لـ ( جورج براك ) .. و كلاهما مؤسس المدرسة ( التكعيبية ) في الرسم . و
هذه هي خلاصة الحقائق ، أو المعلومات الواقعية ، التي كانت متوفرة عن الظل
العابر لـ ( سيرافين ) . ولكن صناع الفيلم اشتغلوا ، مجتمين ، ببراعة ، على
تقديم كتاب أو قصيدة سينمائية باهرة عنوانها ( سيرافين ) .
ينطلق فيلم ( سيرافين ) من مدينة ( سنليس ) الفرنسية في العام 1914ـ عام
الحرب العالمية الأولى ـ غير أن الحياة كانت لما تزل هادئة في تلك المدينة
شبه المنزوية ، و المنطوية على طابعها البسيط ، كما قدمها الينا الفيلم . و
يبدأ المشهد الأول بشمس صباح صافي السماء ، حيث كانت يد ( سيرافين ) تتلمس
و تتفحص الأشنات في مجرى النهر ، و تلك كانت أولى الإشارات التي ستحيلنا
لاحقاً الى الإندماج و التمازج الكليين بينها و بين الطبيعة ، و اللذين
كانت رسوماتها ترجمة حرفية لهما ، فضلاً عن سلوكها اليومي الذي يعبر عن
تآخيها النادر مع أبناء أو بنات هذه الطبيعة من خلال جولاتها في الروابي او
عناقاتها العاشقة للأشجار أو الإسترخاء على أغصانها .. حتى لتبدو ( سيرافين
) ذاتها ـ من خلال الفيلم ـ كما لو كانت هي نفسها شجرة .. ولكن بهيئة امرأة
.
من المؤكد ، فأن هذا الفيلم قد أثار فضول الجميع لمعرفة من هي ( سيرافين )
. فالنسبة العالية من المعنيين بالثقافة ، عموماً ، و بفن الرسم على وجه
التحديد ـ بما فيهم الرسامون و معظم النقاد و المؤرخين ـ لم يكونوا على علم
أو معرفة بإسم هذه الرسامة . ولكنه من الطبيعي جداً أن يكون صانعوا هذا
الفيلم قد أطلعوا على الكتاب الذي أصدره ( آلن فيركوندولي ) في العام 1986
بعنوان ( سيرافين .. من الفن التشكيلي الى الجنون ) أو على كتاب ( حياة
سيرافين دو سلينس الرائعة ) لمؤلفته الدكتورة ( فرانسواز كلورايك ) و التي
هي طبيبة أمراض نفسية و باحثة دؤوب في ميدان العلاقة بين هذه الأمراض و بين
النشاطات المتميزة : كعلم الآثار و السفر و الفن . و عليه : فليس من
المستغرب أن يكون هذا الفيلم الجميل تأليفاً آخر ، أو إعادة صياغة ، لهذين
الكتابين .
يتناول الفيلم امرحلة متأخرة من حياة ( سيرافين ) ، حين كانت في الثامنة و
الأربعين من عمرها و هي تعمل خادمة في بيوت وجهاء المدينة .. أمرأة تعمل
بسكينة و هدوء و جد ، ولكنها فـَطـنة ، و أيضاً ذات خفايا و نوايا ، و
نواياها كانت تتلخص في ما هو غير مالوف : سرقة دم الكبد الذي تنظفه في مطبخ
العائلة ذات الوجاهة ، أو سرقة الشموع الذائبة في محراب الكنيسة ـ و هي
تعتذر بطريقة عابرة من السيدة العذراء ـ و كل ذلك من أجل أن تحضّر موادها
الأساسية للرسم ، الذي لم يعلمه إياها أحد ، ولكن فطرتها ـ أو جيناتها ـ هي
التي قادتها الى هذا الدرب غير المعهود . هذا الرسم هو الذي أعطى عنواناً
لحياتها و لمرورها العابر ، كظل ، في تاريخ الرسم الفرنسي الذي كان ـ حينها
ـ قد لعب دوراً قيادياً و رائداً في اعادة صياغة العالم .. من خلال الفن .
لايذكر الفيلم ، من ماضي ( سيرافين ) المؤسي ، غير علاقة عاطفية مع شاب
هجرها ، فيما بعد ، لتلجأ الى أحد الأديرة ، كخلاص لمحنتها العاطفية
الصادمة ، فيما تشير المعلومات الى أن ( سيرافين ) قد عاشت وحيدة ً في
حياتها ، بعد أن فقدت ـ بالتتالي ـ أباها و أمها ، و التي ورثت عنها مهنة
الخدمة في البيوت ، بعد أن كانت قد مارست مهنة رعي الأغنام . و من مهنة
الخدمة ، هذه ، في البيوت .. ينطلق هذا الفيلم ، ليقدمها ـ رويداً رويداً ـ
فنانة مثيرة ٌ لإنتباه أهل مدينتها ، ابتداءً من مخدومتها ، ومن ثم صاحبة
المنزل الذي تستأجر منه غرفةً بائسة ، مروراً برواد المعارض الذين كان
لمكتشفها السيد ( ويلهلم أوهد ) اليد الوحيدة الطولى في تنبههم اليها من
خلال ابرازها في تلك المعارض .
لقد كانت ( سيرافين ) ـ كما يقدمها الفيلم ـ تجد ( كشأن أي مبدع ) تعارضاً
بين نقطة مضيئة في داخلها و بين الظلال التي يلقيها العالم الخارجي عليها ،
و لأنها كانت كائناً مضاءاًً من الداخل المتعارض مع الخارج الزائف ، أو
المزيف ، فقد فقدت توازنها بسبب فطريتها . الأمر الذي انتهى بها الى مصح
عقلي .. انتهت فيه حياتها ..... و انطوى سجلها الشخصي هناك .
ولكن .. يا للمشهد الهادئ الأخير، الباهر ، الذي يصور هذه النهاية .. و
الذي استغرق دقيقتين كاملتين تماماً من السكون الأخاذ ... انه مشهد نادر ،
لا ينهي به فيلمه إلا مخرج من طراز ( مارتان فورست ) الذي كان فيلم (
سيرافين ) هو فيلمه الثالث .
خاص "أدب فن"
أدب وفن في
26/01/2010
تيارات في السينما اليابانية
تأليف: تاداو ساتو ترجمة: رياض عبد
الواحد
لم تقف السينما اليابانية على ارض رخوة منذ نشأتها عام 1899 'بل استندت الى
تراث رصين ذي أصول راسخة هو مسرح الكابولي ..إذ تتجلى في هذا المسرح ثلاث
شخصيات ' واحدة تمثل المرأة ' واثنتان تمثلان شخصيتين رجاليتين ' ويدعى
الممثل الذي يؤدي الدور الرئيس فيها (( التاينايكو )) ' ويقوم بدور
الساموراي النبيل والمحارب المنتصر . أما الدور الآخر الذي يمثل الرجل فهو
( النيميم ) ' ذلك الرجل الرشيق الأنيق الصافي القلب الذي يستطيع أن يهمس
بكلمات الحب العذبة ' وليس من الضروري أن يكون قويا ' أو حكيما كالشخصية
الأولى ' ولهذين النمطين من الشخصيات ما يقابلهما في السينما العالمية خاصة
الأمريكية والأوربية التي أدى أدوارها ممثلون أمثال ( كلارك كيبل ) و (
كاري كوبر ) وغيرهما . وتطور هذا النوع من التمثيل في السينما وظهرت أسماء
منها ( كوروساوا ) الذي حافظ على الجانب الايجابي في شخصية الساموراي وحقق
إصلاحا رئيسا في الفيلم الياباني باتجاهه البارع نحو ربط الموضوعات
التراثية والقصص ذات التقنية العالمية ' فخلق بذلك مجموعة من المُثل
الجديدة للرجولة اليابانية 'وقد تجلى ذلك في أفلامه الكثيرة التي نذكر منها
( راشامون ) و ( عرش الماء ) وغيرها . ولم تقف السينما اليابانية بمعزل عن
السينما العالمية ولم تقتصر موضوعاتها على الدراما التراثية بل تعدتها إلى
موضوعات عصرية تتجافى فيها الواقعية. واحتدم التنافس بين هذين الجنسين
الفتيين نتيجة الأفلام المستوردة من الخارج ' فصارت تقتدي بالتعبيرية
الألمانية' وأثرت الأفلام الألمانية في تطوير العائلية ' وكان للأفلام
الفرنسية اثر في إدخال الواقية النفسية إلى الأفلام اليابانية . وكان
للأفلام السوفيتية ' على الرغم من تقطيعها ' الأثر الواضح في الموضوعات
الاجتماعية ' وكذلك الأفلام الايطالية في أسلوبها الوثائقي ' وظهر أثر
الأفلام الأمريكية واضحا بعد الحرب العالمية الثانية . وعلى الرغم من ذلك
ظلت الأفلام التراثية متمسكة بالقيم الإقطاعية والمؤسسات البالية ' وكان
الإبطال بنحو عام مخلصين لتلك القيم عدا قلة منهم لم يكونوا مخلصين تجاه
أسيادهم بل يتوقون للحركة الإصلاحية . ومن الأسماء اللامعة في إخراج هذه
الأفلام ( دايسوكا أيانو ) و ( ناكازاتو ) . وتوقف إنتاج الأفلام عدديا عام
1942 وأتجه نحو الأفلام المتحررة المتمثلة في مقاومة الإقطاع والسخرية بـ (
البوشيدو )' أي القانون الأخلاقي للفرسان والمحاربين اليابانيين . ويبرز في
هذا المجال اسم كاتب السيناريو ( شنتارو ميمورا ) في خلق البطل المتحرر '
وأشهر الأفلام هي ( رحلة ألف ليلة وليلة ) و ( مهرجان عبر البحر ) . أما
بخصوص بطلات الأفلام فكانت منذ البداية تتناول فتيات ( الجيشا ) والموظفات
والمعلمات وتعرض فيها النساء اللائي جافاهن الحظ ' والنساء الجميلات ' في
مواقف تتعلق بالمعتقدات اليابانية ( الكارما ) وموضوعات حديثة أوجدتها
الحضارة كحرية المرأة . ولأفلام الحرب اليابانية نصيب محترم في تاريخ
السينما اليابانية ' إذ خضعت الأفلام الحربية للرقابة ووضعت لصناعتها شروط
في غضون الحرب ' وكانت تصور الجندي إثناء المعركة ' أما بعد الحرب فقد
تناولت الأفلام الأوضاع التي خلقتها الحرب من نواح متعددة ' والطموح الذي
كان يسعى الناس إلى بلوغه في مجالات الحياة في المستقبل . وكن لأفلام (
كوروساوا ) أهمية بالغة في الكشف عن معنى الحياة كون كل فرد في المجتمع
كائنا يترتب عليه اكتشاف معنى الحياة بنفسه ' وهو بهذا يؤكد على انتشال
اليابان من هول صدمة الاندحار الذي لم يكن اقتصاديا فقط . لقد تناول
المخرجون شخصية الأب الياباني ونخص بالذكر اثنين منخم هما : ( كوروساو ) و
( اوزو ) ' فنجد الأب عند الأول شخصا نبيلا مخلصا في تنشئته لأولاده ' إذ
يهتم بهم ' بينما نجد الأب عند الثاني على العكس من ذلك' فالأب غير نبيل
وضعيف الإرادة. إنهما يصوران الحياة العائلية والبيئية بمختلف خصوصياتها
وعلاقاتها . ومن الأفلام التي يشار إليها بهذا الخصوص فيلم ( أكيرو ) و (
ولدتُ ولكن ... ) . وقودنا هذا إلى ذكر البطل الشرير سواء من الناحية
الفردية في علاقاته ' أو من الناحية الاجتماعية في القطاعات المختلفة من
المجتمع في المدينة أو الريف . وينبغي علينا أن نعرج ' ونحن في هذه العجالة
' على التكنيك السينمي ' إذ يعد ( كينجي ميزوكوجي )' صانع أفلام من الطراز
الأول في فترة أفلام السينما الصامتة ' ويقف في صف ( ياسوجيري أوزو ) . لقد
نالت العلاقات اليابانية الأمريكية اهتماما كبيرا في الأفلام اليابانية
متخذة من موضوعة القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيماو ناكازاكي مادة
لها في تصوير آثار تلك الكارثة . ومن الأفلام التي يجدر ذكرها في هذا
المجال ( أجراس ناكازاكي )و ( لن أنسى أنشودة ناكازاكي )و (أطفال القنبلة
الذرية ) و ( الشمس السوداء ) . ولمع اسم ( شنتارو اشيهارا ) و ( كونا
كاهيرا ) ' إذ تناولا موضوعات التمرد والجريمة وحياة الفقراء وعلاقاتهم
بالأغنياء وعكست شخصيات هذه الأفلام بنحو أمين الوضع الذي يواجه اليابان
المعاصرة .
خاص "أدب فن"
أدب وفن في
26/01/2010 |