لا تعني جملة «كلمني شكرا» لمن يسمعها إلا الدعاية لبيزنس الاتصالات
وشركاته التي تقفز أمامنا طول الوقت من داخل شاشة الموبايل، أو شاشة
التليفزيون، تعلن عن بضاعتها وأرقام الاتصال بها ومعها «الجوائز» ضمانا
للاتصال.. فهي - أي كلمني شكرا - أحد ملامح المرحلة التي نعيشها
الآن.بالإضافة إلي كونها شعارا عبقريا لما يحدث في حياتنا، فقد نسينا كلمات
الشكر وضاع منا قاموس الاحترام اللغوي في التعاملات اليومية وأصبح الشارع
هو مصدر لغتنا الجديدة التي تأخذ منه كل فظ وصريح لتصبح لغة الأدب والفن
«أيقونة» من علامات الماضي، تصلح للتجارة وهذا ما يفعله «إبراهيم توشكي»
بطل فيلم المخرج خالد يوسف الجديد «كلمني شكرا» الذي يطرح علينا من خلال
قصة عمرو سعد وسيناريو وحوار سيد فؤاد الجناري صورة لهذا المجتمع،
العشوائي، الذي أصيب بهوس البحث عن الذات وسط حياة قاتمة لا مخرج منها ولا
فكاك إلا بمحاولة كل فرد النجاة علي طريقة ياللا نفسي.. في هذه اللوحة التي
تقدم لنا جزءا من حي شعبي يضم أسرارا من الطبقة الوسطي وغيرهم من طبقات
أدني، ويتفاعل الجميع في شكل أقرب للقطيع بدون أن يحاول أحد من بينهم
الوقوف أمام التدني، حتي الموظف المحترم «ماهر سليم» والد عبلة «داليا
إبراهيم» خطيبة توشكي «عمرو عبدالجليل» لا يثور لكرامته ويفعل شيئا إلا حين
يكتشف أن خطيب ابنته زوج لامرأة أخري هي أشجان «غادة عبدالرازق» وله منها
طفل، في الفيلم تضيع الحدود ما بين «الشعبي» و«العشوائي» وحتي «الأمني» أي
البوليس لأن العشوائية أصبحت منهجا عاما، والفوضي سلوكا يوميا معتمدا يفرض
نفسه علي الناس وعلي القانون وهو ما يقدمه الفيلم في أفضل أجزائه حين يقرر
«توشكي» نجم الحارة المدلل أن يلعب لعبة الاتصالات وبيزنس الإعلام هو الآخر
ليحتفظ بمكانته داخل مجتمعه بعد أن أصبح ظهوره في برامج الفضائيات غير
مربح، فيقوم بفتح محل خطوط موبايلات، ويدعي أن نجيب ساويرس شريكه، وحين
تتفجر قريحته عن لعبة الدش يبادر بشراء أدوات الوصلة، و«تحزيم» المنطقة
بأكبر كمية سلوك «من السلك» ودفع مدخراته لشراء أجهزة تليفزيون توضع في
الشارع كأنها السد العالي ويجلس الناس أمامها ليروا مباريات مصر، الأعلام
تظللهم والزغاريد والأدعية تلفهم، وبالقرب منهم يلعب الأولاد في «ديزني
لاند» شعبي استكمل به «توشكي» مشروعه النووي الذي اهتدي إليه في لحظة خارقة
«كلمني شكرا».. إنها صورة تجمع بين الذكاء والواقعية والفانتازيا والقدرة
الفنية للمخرج في تحريكه للعاملين معه، وشحذ إبداعهم خاصة مهندس الديكور
حامد حمدان المسئول عن الحارة والبيوت ذات السلالم التي يري المشاهد البطل
من خلالها وكذلك مدير التصوير القدير سمير بهزان ففي هذا الجزء الذي اقتطعه
كاتب الفيلم من واقع العلاقة بين المصريين وشركات الدش السرية ومباريات
الفريق القومي إضافة رائعة لمفهوم الخلل العام الذي يترسخ تدريجيا لدينا من
خلال الحوادث المتتالية وعلاقة الناس بها ودور الإعلام الجديد فيها.. هنا
يبدو الخلل في أعلي صورة وتوشكي يمتلك «محطة إرسال» شبه كاملة في حارة،
والجمهور يعرف لكنه لا يعترض، بل ويسعد ويحمل أعلام مصر ويهتف لفريقها،
وحين يحضر الأمن ويحاول الضابط القيام بعمله يتكاثر عليه «المحبون لمصر»
والجمهور، ويطالبونه بتركهم يفرحون.. فينسحب الضابط وفريقه.. وترتفع
الأعلام.. وصور الخلل متناثرة علي مدار الفيلم منذ اللحظة الأولي التي يمرق
فيها توشكي في الحارة وبين أهلها إلي ما يخص علاقته الجنسية بالمرأة اللعوب
القوية أشجان، وعلاقته بصديقيه عرابي صاحب الفرن «صبري فواز» الذي يبيع
الدقيق في السوق السوداء ويطيل ذقنه من باب الأحوط، والثاني زين زوج شقيقته
«رامي غيط» الأصلع وعلي جانبي الرأس شعر متنافر مع نحافته البالغة «لم يكن
الشعر متقنا»، ثم أمه العجوز الطيبة المنكفئة علي ذاتها والتي تحمل قيما
عديدة راح زمانها «شويكار في دور جديد تماما عليها»، وأيضا عاطف صديقه
القديم «شادي خلف» وشريكه في أول محل للاتصالات والذي أصبح عدوه الذي
يطارده بالإبلاغ عنه في القسم دائما قبل أن ييأس من «الحلول الأمنية» ويخطط
بمفرده للنيل منه.
بيع الأنوثة عبر الإنترنت
في علاقة الفيلم بالمجتمع الشعبي - إذا صح هذا التعبير - تتعدد الإشارات
إلي تأثير منتجات العولمة، والتكنولوجيا الجديدة علي هذا المجتمع، من الدش
والمحمول إلي «الشات» عبر الإنترنت الذي تمارسه حورية شقيقة «أشجان»
الجميلة المتعلمة والتي لا تبرح شاشة الكمبيوتر بعد أن وجدتها حلا لبطالتها
ووحدتها ويصل بها الأمر لبيع أنوثتها، عبر الشاشة، لشاب محروم مقابل كروت
شحن يرسلها لها عن بعد، قبل أن تسافر لتتزوجه فتقع في يد شبكة دعارة.. وهذه
المعالجة تطور معالجات سابقة عديدة قدمتها مسلسلات التليفزيون في رمضان مثل
«ابن الأرندلي» وعلاقة ابنة الفخراني بشاب عبر «الشات» ومسلسل «متخافوش»
وعلاقة أخري لفتاة سافرت إلي كندا عبر نفس الوسيلة وفي «كلمني شكرا» تعود
الشقيقة بعد إفلاتها من مصير قاتم لتواجه شقيقتها الكبري التي كانت تحتقرها
كاشفة أنها مثلها تماما.. نتاج مجتمع يكره النساء إلا إذا جئن وفقا
للمواصفات التي وضعتها الثقافة السائدة، ولهذا تبدو «أشجان» في الفيلم
نموذجا مختلفا، يثير الناس في الحارة بقدر ما يكشف عوراتهم النفسية، يطمع
بها الكل ويلفظها الكل لإصرارها علي البقاء وليس الاختفاء، وإصرارها علي
اعتراف توشكي بابنه منها.. مهما تعرضت من أذي.. وهو الخيط الذي يطوره
السيناريو في اتجاه النهاية حين تعرف «عبلة» الموضوع وتترك «توشكي» وتوافق
علي الزواج من آخر، وحين يخرج «صلاح معارك» أي ماجد المصري - المجرم
العتويل - من السجن ويقرر تأديب أشجان التي حصلت علي الطلاق منه وهو مسجون
فيرسل لها فرقة حرب بالرشاشات الآلية لإحضارها هي وابنها «علي» مما يضع
«توشكي» في مأزق بعد اعترافه المتأخر بابنه.. فيذهب مع أهل الحارة، مسلحين
بالعصي والفئوس إلي مقر «معارك» الذي يرسل لهم ميليشياته فيخضعون فورا
ويطأطئون رءوسهم «الجبن سيد الأخلاق» قبل أن يخرج معارك ومعه الصبي يسلمه
لتوشكي بخيلاء معلنا أنه «لا يخطف أبناء الآخرين» علي طريقة أشرف من الشرف
مفيش.. وهي تيمة كوميدية نفذت بشكل غير كوميدي فهل صلاح معارك - مثلا من
خلال صورته هنا - أكثر شرفا من إبراهيم توشكي الجبان الذي أنكر أبوته أمامه
ثم ادعي بطولته حين وصل الحارة؟ ومن هو السيد معارك هذا الذي يضعه الفيلم
في صورة بطل ويخفي سجله الإجرامي.. إنني لا أعترض علي أن يكون المجرم
إنسانا فهذا جزء من كل إنسان.. ولكن علي الصورة الأكثر تأثيرا له في نهاية
الفيلم.. صورة الجنتلمان.
الفضائيات وقضايا الحاسة المصرية
أخيرا.. فإننا أمام فيلم يستعين بالكوميديا لفتح ملفات شديدة الجدية،
ويستعيد بالزخم والصخب في الحارة «مكان الأحداث الرئيسي» لرصد سلوكيات
طاغية بسلبيتها علي الجميع بدون نموذج واحد إيجابي، وهو ما يجافي الواقع
نفسه، بل إن الإنسان في الفيلم يخالف طبيعته وهي الفهم والتعلم من أخطائه
ومثال هذا «توشكي» نفسه بطل الفيلم الذي يبدأ العمل به ذاهبا إلي الاستديو
للمشاركة في برنامج «توك شو» في دور الكومبارس الجالسين علي مقاعد
المتفرجين في الاستوديو للتصفيق والسؤال «وفقا للسيناريو في البرنامج»
ولكنه حين يخرج عن السيناريو ويسأل سؤالا غير المتفق عليه يتعرض لغضب
المخرج، وحين تلمح منتجة البرنامج، غير المصرية، طموحه الزائد للنجومية
والظهور تلاعبه بطموح مماثل هو استخدامه في موضوعات أكثر جرأة يطرحها
البرنامج، ويمثلها هو مثل القيام بدور عريس في «ليلة الدخلة» وماذا يحدث
فيها، ولتعرض هذه الحلقات في الفضائيات باعتبارها قضايا اجتماعية عربية،
غير أنها لا تصور إلا في مصر ولا تتعرض إلا لمجتمعها، وبتزايد مطالب
المنتجة من توشكي يتزايد خضوعه وكأنه روبوت بدون عقل رغم إدراكه أن ما يقوم
به يجرح مشاعر أصدقائه.. خاصة موضوع ليلة الدخلة وبافتراض أن هذه النماذج
موجودة ببلادتها وفقدانها كل المشاعر الكريمة، فإن مشهدا مثل ضرب الأم «في
فيلم ضمن برنامج آخر» غير مبرر، كما أن مهمة السينما ليست رصد كل البلادة
والتدني فقط، ولكن البحث عن الأمل، مهما كان ضئيلا، «وليس اختراعه».. فإذا
كان المخرج قد أصبح أكثر براعة في تصوير حركة الشخصيات في الحارة، وفي رصد
ما خلفها من مواسير صلب ملقاة ليلعب حولها الأطفال ويدخنون بقايا حشيش
وبانجو آبائهم، وإذا كان خالد يوسف قد تقدم كثيرا في تحريكه للمجاميع في
مواقف عديدة من الفيلم وفي تعبيره عن العلاقة المثيرة بين الفقر وأدوات
التكنولوجيا في مصر، فإن العديد من الشخصيات جاء بدون بناء درامي ملائم
ومفهوم مثل عرابي وزين وأم توشكي وحتي توشكي نفسه، أننا أمام شخصيات هي
نتائج لأسباب لا تعرفها تعيش وتحيا بدون أي تأصيل لسلوكها علي هذا النحو
وكأنها من فعلت بنفسها هذا التدهور.. علي طريقة هي كدة.. وماشية كده.. فيلم
جذاب سينمائيا ولكنه يعاني من قلة البلاغة بإصراره علي حوار زائد في غير
موضعه.
الأهالي المصرية في
26/01/2010 |