إذا كان حادث نجع حمادي قد عزز توقعات الكثيرين منا، والذين يدركون ما
يحدث من عيشتهم في المجتمع المصري وإدراكهم لما فيه من تجاوزات، فإنه، علي
العكس، بدا وكأنه أمر جديد علي التليفزيون المصري، العام والخاص، وقضية لم
تكن في الحسبان بعد الصورة البراقة للتعامل مع عيد الميلاد للأقباط
الأرثوذكس يوم 7 يناير الماضي.
التي تضمنت مساحات أكبر علي شاشة الدولة الرسمية وقناتيها الأرضيتين
الأولي والثانية، سواء بتزيين وجه الشاشة من خلال بروموهات المعايدة
بالألوان البهيجة والرسوم الجميلة «وأظن أن هذا بدأ منذ رئاسة سوزان حسن
التليفزيون المصري قبل أن تحل محلها نادية حليم الآن».. أيضا حديث البابا
شنودة الثالث المهم مع عزة مصطفي رئيسة القناة الأولي في برنامج «خاص جدا»
قبل العيد بيومين وهو حديث لم يترك أي سؤال يمس كل ما هو مثار في الصحف
المصرية وعلي الإنترنت دون التعرض له ببساطة وذكاء عال، أما الإضافة
الجديدة فهي نقل القناة الثانية لقداس عيد الميلاد المجيد كاملا دون قطعه
بعد خطبة البابا وانصراف المهنئين من رجال الدولة والشخصيات العامة كما كان
الحال حتي العام الماضي، وربما وضع هذا الاحتفاء الإعلامي المشاهدين في
مناخ نفسي متوافق مع صورة المواطنة كما يدركها الكثيرون، ومع ذكرياتها في
الماضي كما يسترجعها الكثيرون أيضا في إطار تأملهم العلاقات الإسلامية -
المسيحية الآن، وتغيرها عن ماض ذابت فيه هذه العلاقات في وعاء متين من
الحياة المشتركة.. ولهذا حدث الانقلاب الدرامي المصري للناس بين مساء 6
يناير واحتفالات ليلة الميلاد للمسيحيين وفرحة الكل بالعيد والإجازة
وامتداد حبل التهاني والمشاركة عبر كل الوسائل، إلي لحظة الصدمة وانكسار
هذا الفرح بإطلاق الرصاص في نجع حمادي ووفاة 7 مسيحيين وجندي مسلم كان
يحرسهم وجرح غيرهم.. وكما ذكرت في البداية، فإن الحادث لم يفاجئ الأكثر
وعيا منا وإن فاجأهم التوقيت، لكنه بالقطع فاجأ غيرهم ممن هم أكثر بساطة
ومقدرة علي تجاوز تعقيدات الواقع حلما بأشواق حياة أفضل.. جرح الحادث
إنسانيتهم، دون تفرقة، وعزتهم وجار علي مشاعرهم النقية التي تعلو في أوقات
عديدة برباط طوله آلاف السنين.. ولهذا صدموا بعنف، مثل غيرهم، ومثل
الكثيرين من أصحاب المواقع المسئولة رسميا أو غير ذلك، أما التليفزيون فقد
كانت مهمته عسيرة، لأن عليه مجموعة مهام أولاها أن ينقل الأحداث وتطوراتها
وكل ما يصدر بشأنها لحظة بلحظة وبمصداقية عالية، وثانيها أن ينتقل من النقل
الإخباري إلي النوعي من خلال الأرشيف والتحقيقات وثالثا مسألة فتح النقاش
أمام الآراء المختلفة حول هذا الحدث، والحقيقة أن ما تم في إطار المهمة
الأولي قام به قطاع الأخبار بالتليفزيون المصري وقامت به قناة الأخبار
أيضا، أما ما بعده فقد قامت به قنوات التليفزيون الخاصة، المحور، ودريم
والحياة، فإذا كان قطاع الأخبار قد أدار برنامجا حواريا في الاستديو حول
الحادث ودلالاته، فإن المحور قد أرسلت هناء سمري مقدمة برنامج (48 ساعة)
إلي نجع حمادي لتعرض علينا جولتها في المدينة مساء الخميس 14 يناير وهي
جولة تتفاوت بين الجزء التقريري «حوار الأنبا كيرلس» إلي الجزء التفسيري
«لقاءات مع أعضاء مجلس الشعب» إلي الجزء الواقعي «زيارة بيوت أهالي الضحايا
الذين لم يتكلموا وإنما كانت أحزانهم وغضبهم أكثر تأثيرا علي المشاهد» إلي
الجزء التبريري «الحوار مع المحافظ مجدي أيوب»، وفي غضون أربعة أيام من
الحادث، كانت «نجع حمادي» هي حديث كل الفضائيات العربية أو الناطقة
بالعربية ليصبح الموضوع أكثر اتساعا في طرحه أسباب الجريمة وهوامشها
السابقة ومعالجاتها، وكان اللافت للنظر هنا هو فشل عملية الاستعانة بالوجوه
المألوفة والمعتادة داخل «القنوات» في تصنيفها الأحداث، والتي تشبه
الكتالوج للمتحدثين في كل قضية، ومن هنا كانت حلقة برنامج «القاهرة اليوم»
علي قناة الأوربت مع عمرو أديب ومحمود موسي مهمة حين ظهر فيها وجه جديد مهم
في هذا الموضوع هو الدكتور شريف دوس الذي لم أعرف موقعه للأسف، ولكنه قدم
سجلا موثقا به 160 حادثة طائفية بدأت منذ عام 1972 بأحداث الخانكة وحتي نجع
حمادي «وهذا نوع من الجهد الأرشيفي كان من المفترض تقديمه وحصره في قطاع
الأخبار بالتليفزيون المصري»، كذلك جاءت حلقة قناة البي بي سي العربية مهمة
في إطار طرح أكثر تحديدا من خلال ضيف مسيحي اتضح أنه مهاجر من مصر منذ فترة
بسبب طائفي وعلي الهواء كان ضيفان آخران هما مجدي الدقاق رئيس تحرير مجلة
«أكتوبر» وسمير مرقس الباحث بمركز الأهرام الاستراتيجي، وكان الحوار هو هل
تعبر حادثة نجع حمادي عن مشكلة طائفية تخص المسيحيين أم مشكلة مصرية تخص
المجتمع كله ولماذا تستمر وتزداد عبر ما يزيد علي ثلاثين عاما؟ أيضا لم
يتوان برنامج «البيت بيتك» عن مناقشة القضية وبرامج أخري غيره، وعن استضافة
ضيوف معتادين من لجان تقصي الحقائق بمجلس الشعب، ومن الأمن، وتوقف هؤلاء
كثيرا أمام تبرير للجريمة يكاد يكون عليه اتفاق، دون اتفاق، هو أن مرتكبها
فعل ما فعل انتقاما لجريمة سابقة في مدينة فرشوط اعتدي فيها نجار مسيحي علي
فتاة مسلمة بالاغتصاب، وكان اللافت في هذه الآراء المتزايدة أنها تعكس
قبولا ما لمبدأ الانتقام بعيدا عن القانون، وإعلاء شأن الانتصار للشرف
بمعناه القبلي ومن خلال مسار الثأر وقوانين المجتمعات المغلقة، كما أن هذه
المناقشات جاءت مفيدة للغاية لدي مشاهدين كثيرين لرؤية كيفية تفكير عدد
كبير من القيادات البرلمانية والأمنية والسياسية «حتي لو يكن هذا هدف هذه
البرامج التي استضافتهم» والدليل علي هذا أنه تم تجنيب النائبة جورجيت
قليني من حوارات التليفزيون بمجرد اتهامها من الأسقف كيرلس «أسقف نجع
حمادي» ومن بعض قيادات مجلس الشعب بأنها متعصبة خرجت عن هدوئها في مناقشة
الجريمة واتهمت الأسقف بتغيير أقواله الأولي.. وكنت أتصور أن ما فعلته هو
الحدث الذي يجب أن تتلقفه برامج التليفزيون لكي تتابعه خاصة والسيدة قليني
وجه تليفزيوني لامع، فهل هناك توجيه ما بإبعادها لخروجها عن سيناريو معتمد
سواء من مجلس الشعب أو أي جهة أخري؟.. أخيرا فإنه في إطار كل ما قيل يأتي
برنامج «الحياة اليوم» مساء الأحد الماضي ليقدم مناقشة تتجاوز أو تحاول
تجاوز التفسيرات المعتمدة للحادثة من خلال دأب مقدمي البرنامج شريف عامر
ولبني عسل، في حوار مع لواء الأمن عبدالفتاح عمر ونائبين هما طاهر حزين
وطلعت مطاوع واللذين اعترفا فيه بأن تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية
جاء متسرعا ولم يأخذ وقته المطلوب ليصبح وثيقة حقيقية وقد استطاع مقدما
البرنامج دحض حجج النواب حول قضية فرشوط والتي أضيفت لها حدوتة المشاهد
المخلة علي الموبايلات بين مسيحيين ومسلمات أو العكس، حين واجهت لبني
ضيوفها بأن المجرم «الكومي» مسجل خطر وبلطجي وفيه كل العبر فكيف نأخذ
«غيرته» علي محمل الجد لتكون إجابة أحد الضيوف، أنه يوجد في مصر ما يسمي
«ثقافة الغرزة» التي تتضمن اجتماع الرجال لساعات لا يوجد بينهم إلا الحشيش
والبانجو والخمور ومن خلالها يستطيع الأكثر تأثيرا فرض آرائه علي غيره من
خلال حلقات الدخان وهزيان السطل.. وجدت في هذا الرأي تفسيرا ما مهما ليس
لسخونة مجرم نجع حمادي البلطجي فقط، وإنما هذا النشاط الإجرامي المحموم في
كل مكان بمصر والذي نقرأ آثاره يوميا في حوادث لا يصدقها أحد في صفحات
الجرائد، وإذا كانت ثقافة الغرزة مؤثرة إلي هذه الدرجة، فإن ما قالته
النائبة ابتسام حبيب علي القناة الثانية، بعد قليل، كان أكثر أهمية حين
استضافها تامر بسيوني في البيت بيتك لتؤكد أنها نائبة مصرية وليست قبطية
فقط، وأن مطلب العدالة والمساواة هو الحل الوحيد والحقيقي لكل الأزمات التي
تعيشها مصر منذ سنوات طويلة داعية إلي ابتكار «يوم مصري للصلاة» سنويا يذهب
الناس فيه إلي الجوامع والكنائس لهذا الغرض تحديدا.. للدعاء لله أن يرحمهم
ويرحم مصر من شرور بعض أبنائها.. والمؤكد بعد هذا كله أن المشاهد لكي يصل
إلي تكوين وجهة نظر تقريبية عما حدث، ولماذا حدث، وما هي خلفيات الماضي،
وإلي متي تستمر هذه الأوضاع وهل هناك حلول في الأفق، عليه أن يمر برحلة
شاقة عبر القنوات كلها، أرضية وفضائية، بين إعلام الدولة والإعلام الخاص،
مع أن إعلام الدولة هو الأقدم، وهو الأجدر علي القيام بهذه المهمة.. تنوير
المشاهد.. لو أراد!.
الأهالي المصرية في
20/01/2010 |