لا يزال سؤال العلاقة
القائمة بين الفيلم الوثائقي والمواضيع المختارة وآلية المعالجة وعلاقة
المخرج
بالناس والمسائل، مثيراً للجدل. فالفيلم الوثائقي مرآة شفّافة للواقع،
واختبار
سينمائيٌّ لمخرج يرغب في التعليق على مسألة، وإضاءة حالة معينة
أو شخصية ما.
والمخرج يمتلك موقفاً. لهذا، يشعر بحرية في فعل أي شيء ممكن بهدف التعبير
عن موقفه
هذا. في تحقيق منشور في المجلة الفرنسية «استديو/ سيني لايف» (كانون الأول
2009)،
طرحت صوفي بونامون السؤال نفسه، انطلاقاً من الحالة التي
شكّلها الأميركي مايكل مور
في صناعة الفيلم الوثائقي. كتبت أن الوثائقي يُعتبر «الصفاء السينمائي في
حالته
الخام»، وأنه «معفى من الهدف الربحي، لأن قصده إنساني تقريباً». رأت أن
المخرج
يصوّر الواقع، ويسجّل بأمانة ما هو مُقدَّم أمام عدسة
الكاميرا، لكشف حقائق مجهولة
أو مُتَجَاهَلة، في مجالات يتَعذّر للعين أن تراها: «لنتجاوز الأفلام
القصيرة
الأولى (كـ «وصول قطار إلى محطة سييوتا» للأخوين لوميير)، فإن أول فيلم
وثائقي
مشهور ناقض هذا التحديد. في عشرينيات القرن الفائت، اكتسب هذا
النوع رسائله
النبيلة، مع «نانوك الإسكيمو» (1922) لروبرت ج. فلارتي. اكتشف العالم
الشروط الصعبة
للعيش لدى سكّان القطب الشمالي، في المساحات الجليدية الشاسعة التي يقيمون
فيها.
قدّم السينمائي نفسه باحثاً في علم السلالة. هذا رائع. لم يتردّد فلارتي عن
إدارة
هؤلاء الناس بطريقة إخراجية، وتغيير طريقة صيدهم. الأسوأ كامنٌ في ما عُرف
لاحقاً:
وافق المخرج على ارتداء ملابس شتوية ذات
الماركة التجارية المشهورة «ريفييون»
كدعاية مدفوعة، وطلب عربوناً عن «المجزرة التي ألحقها بالفقمات». مع هذا،
انتُخب
الفيلم واحداً من خمسة وعشرين فيلماً «يُحتفَظ بها بفضل قيمها التاريخية
والثقافية».
واقعي أم ذاتي
إذاً، هل الوثائقي بحث واقعي، أم نتاج ذاتي قائم
بحدّ ذاته؟
بعد أن عثر الفيلم الوثائقي على ممثليه في فترات قديمة، انقلب إلى
خانة «فن وتجربة». فريدريك وايزمان وجان روش وريمون ديباردون وكلود لانزمان،
المقبلون جميعهم من المدرسة نفسها، أي من مدرسة «السينما ـ
الحقيقة»، رفعوا عالياً
لواء الوثائقي، بطرحهم مبدأ عدم تدخّل السينمائي، وبرفضهم التلاعب الدرامي،
وباستبعادهم كل تعليق صوتي، وبتجنّبهم كل أشكال التزيين: «هذا أمر صارم
بالنسبة إلى
البعض، لكنه صاف بالنسبة إلى آخرين»، كما قالت بونامون. لكن الفيلم
الوثائقي ظلّ
خصوصياً غالباً، ولا يُفيد بشيء القول إن هذا النوع لم يُصنع
لإرضاء الجماهير.
والمفارقة التي ذهبت إليها بونامون كامنةٌ في أن النقاد الذين «حيّوا
النغَم
والطُرق الأصلية لمايكل مور، هم أنفسهم الذين يريدون اليوم
التخلّص منه».
مخرجو
الأفلام الوثائقية الخاصّة بالحيوانات مضطرون، غالباً، لاستخدام حِيَل بهدف
إظهار
صُوَر حيوانات وحشية، نادراً ما يراها الناس. أكثر هذه الحِيَل المستخدَمة
(وإن لم
يستعن بها الجميع) كامنةٌ في اجتذاب الحيوان بطُعم: «إذا تساهل
الناس مع هذه
الحِيَل في الوثائقيات الحيوانية، لأن معلومات جمّة تُنشَر بفضلها، فلماذا
تُرفَض
إذاً (هذه الطريقة) بالنسبة إلى الآخرين؟». صاحبة أفلام وثائقية وروائية
عدّة،
المخرجة كلير سيمون دافعت عن فكرة إخراج الوثائقي على الطريقة
الروائية، وعن خلط
الأنواع بعضها بالبعض الآخر أيضاً. فيلمها الأخير «مكاتب الله» (2008)
التقط، من
خلال أفواه ممثلين معروفين، اقتراحات مسموعة في مراكز التدريبات العائلية
حيث أجرت
تحقيقات لأشهر عدّة: «إن حالة المخرج الوثائقي الذي يُفكّر ملياً بترك
الكاميرا
تصوّر، استيهامية. إذا استُخدِم شريط كاميرا المراقبة، كما
يحصل أحياناً، فإننا
نحصل على وجهة نظر المُراقب. لكن القصّة لا تُصنَع إلاّ بمقياس الأسئلة
المطروحة في
الواقع. لا توجد حقيقة من دون نظرة، والحقيقة هي قصّتي دائماً». في
المقابل، هل
هناك موضوع أكثر صعوبة اليوم من ذاك الذي اختاره المخرج
كزافييه دو لوزان في فيلمه
«من
صوت واحد» (2009)، أي العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية؟ كيف يُمكن ألاّ
يرغب
المرء في البقاء حيادياً، إزاء هذه المسألة؟ بتصويره جولة موسيقيين
إسرائيليين
وفلسطينيين في فرنسا، أراد السينمائي أن يشتغل على فكرة السلام: «لا
يُمكننا أن
نكون موضوعيين أبداً. هناك جدل حصل من هذه الجهة ومن تلك، كما
انعقدت صداقات أيضاً.
لكن هدفي كامنٌ في أن أكون حيادياً بأكبر قدر ممكن. تتطلّب إنجاز المونتاج
عشرين
أسبوعاً». لكن، أليست الحيادية موقفاً؟
إلى ذلك، تطرّقت صوفي بونامون إلى «ظهور
المخرج على الشاشة» (أي في فيلمه): «هذا أمرٌ لم يعتده
المُشاهد قبل ظهور مايكل مور
باحثاً عن مدير «جنرال موتورز» في «روجر وأنا» (1989). هذا يناقض «كليشيه»
أن
الوثائقي مرادف لعدم التدخّل. مع ذلك، لهذا المبدأ حدود. بدايةً، لأن
السينمائي
يدخل في التأثير المتبادل مع الناس الذين يختارهم في فيلمه
لتصويرهم، وهذا واضح».
في «الحياة العصرية» (2008) مثلاً، لا يظهر ريمون دوباردون في الصورة إلاّ
لماماً،
لأن العلاقة الشخصية بالمزارعين طغت على الفيلم. في «الجمّاعون والجمّاعة»
(2000)،
أضافت آنياس فاردا نفسها على موضوعها (الجمّاعة هي نفسها)
لتدعم فكرتها القائلة
بضرورة انتباه المُشاهدين إلى الناس المجبرين على جمع بقايا المجتمع
الاستهلاكي. في «Super Size Me» 2004،
اختار مورغان سبورلوك نفسه مادة لاختبار نوع من الـ «هبمرغر»
خاص بسلسلة مطاعم «ماكدونالدز». في «الخليج
الصغير: خليج العار» (2009)، قاد المخرج
لوي بسيهويوس نفسه فرقة كوموندوس لتصوير مجزرة الدلافين في
اليابان.
الإثبات
المفقود
«هل يُمكن تقديم مادة (حادثة أو حالة أو موضوع) وثائقياً لا يُمكن
إثباتها بالصوَر؟». هذا واحد من الأسئلة المطروحة في الغرب حالياً، حول
طبيعة عمل
السينمائي الوثائقي. وهذا هو الانتقاد الموجّه لأوبير سوبير،
مخرج «كابوس داروين» (2004).
ففي هذا الفيلم، المتعلّق أصلاً بسمك نهريّ في تانزانيا، كشف المخرج أن
تجارة السمك تغذّي تجارة الأسلحة، وأن العولمة تغتال أفريقيا: «الأسلحة
موضوع مطروح
دائماً، لكن من دون مشاهدتها» كما قالت بونامون، التي ذكرت أن
هذا كان كافياً لدفع
جامعيّ فرنسي إلى إعادة طرح مسألة مصداقية الفيلم، متّهماً المخرج بالخداع
والتلاعب. العدالة أدانته: «يُمكن إنجاز فيلم عن علاقة
إيروتيكية من دون مشاهدة
قضيب رجل»، كما قال المخرج، ما أدّى إلى القول «إن ما لا يراه المُشاهد لا
يعني أنه
غير موجود». هذا سؤال عمّا هو خارج اللقطة: «هذه الصورة تستحضر أموراً
كثيرة أخرى.
إنها صورة تتحدّث عن حالة أفريقيا».
بمتتالية ذات مخطّطات أربعة مصوّرة بشكل
متواز، قدّم مايكل مور برهاناً أفصح من خطاب طويل. استخدم
المونتاج المتعاقب، الذي
يكشف أن هناك حدثين اثنين يدوران في الوقت نفسه، على الرغم من أنهما حدثا
في وقتين
مختلفين: «الطريقة التي جعل بها جورج بوش سُخرة صدمتني بشدّة»، كما قال غي
ميلّييار، مؤلّف كتاب «مايكل مور، خلف المرآة» (منشورات «روشي»).
أضاف: «في «فهرنهايت
9/ 11»، عندما أظهره جالساً في قاعة الصفّ المدرسي وهو يقرأ كتاباً
للأطفال، ثم يأتي أحدهم ليُخبره بأن طائرة اصطدمت بـ «المركز العالمي
للتجارة»، كشف
(مور)
أن أستاذة المدرسة امتدحت برودة أعصاب الرئيس. غير أن المونتاج أظهره
أحمقاً.
بالنسبة إليّ، استخدم مور تقنيات «التلاعب
بالعقول»، التي استعانت بها ليني
ريفينستال (المخرجة الألمانية المعروفة بتحقيقها أفلام بروباغاندا نازية)».
لكن،
أليس كل مونتاج كذبة؟ ليست الأمور على ما هي عليها عندما تظهر على الشاشة
أبداً،
إلاّ في إطار تلفزيون الواقع. لذا، يجب تدخّل المخرج لوضع
مخطّطين جنباً إلى جنب:
«بالتأكيد
نقوم بتلاعب واع. كل شيء في الفيلم تلاعب. إذا أحببتم ما قيل، فهذا يُصبح
تفسيراً. إذا لم تحبّوه، يُصبح كذباً. كل شيء ملتو»، كما قال فريدريك
وايزمان.
إن الدعابة هي سمة مايكل مور: «أفلامه ابتهاجية لأنه أدخل الدعابة إلى
الفيلم
الوثائقي»، كما قال ويليام كاريل، مخرج «العالم بحسب بوش» (2004)، في حوار
منشور في
مجلة «الفيلم الفرنسي» في 18 حزيران 2004. فهل بات الضحك أداة سياسية؟ تقول
صوفي
بونامون: «بالتأكيد. لكن الحدود رقيقة جداً بين السخرية
والغباوة والجهل، والمخرج
يتخطّاها أحياناً».
السفير اللبنانية في
16/01/2010
كلاكيت
نكات البؤس
نديم
جرجوره
لم تعد «النكتة»
اللبنانية تمتلك حيويتها الضاحكة. فَقَدت محتواها الكوميدي، عندما هبط
المستوى
الحكائي لمضمونها إلى دَرْك خطر. مالت ناحية الفجاجة. أكاد أقول العهر.
هناك ابتذال
لا يُحتَمَل. التحوّل الاجتماعي اللبناني ضرب، بسلبياته، مفهوم النكتة. أبو
العبد،
إحدى أطرف الشخصيات البيروتية الشعبية في الحكايات اليومية
ونكاتها، بات شخصاً
مهووساً بالجنس، بتفاصيله البذيئة. حتّى هو فَقَد جماله الداخلي وحسّ
الكوميديا
الضاحكة لديه، عندما أُدخلت هيفا وهبي إلى هذا العالم. والعالم المذكور
مرآة بيئة
وناس. تفوّقت النكات الخاصّة بهيفا وهبي على نكات أبو العبد،
في المجال الجنسي.
أعتقد أن البنية الحكائية والمضمون الضاحك للنكتة المصرية فُرِّغا من
كوميديتهما المعتادة أيضاً. لم يعد المصريّ قادراً على اختراع النكات، بعد
أن كانت
النكتة المصرية السليمة والجميلة والضاحكة سيّدة مطلقة السلطة على الناس.
على الرغم
من هذا كلّه، تُصنع نكات جميلة ومثيرة للضحك بين حين وآخر،
سواء تعلّق مضمونها بشأن
سياسي أم بمسألة حياتية أم بوتيرة عيش يومي. في مقابل الجنس الطاغي في
الغالبية
الساحقة من النكات السائدة حالياً، هناك نكات أخرى بديعة للغاية، متعلّقة
بالحشّاشين والمدمنين على المخدّرات وتوابعها. ومع أن هذا
الجانب محافظٌ قوي على
جمالياته، المنسحب بعضها على أسئلة وجودية وإنسانية مغلّفة بكَمّ بديع من
الضحك؛
إلاّ أنه يواجه حرباً شعواء من قِبل مبتكري النكات الجنسية ومروّجيها.
لم تعد
النكات كلّها مُتَداوَلة في المقاهي والسهرات الليلية، هنا وهناك، فقط.
لشدّة
حضورها، انتقلت إلى الشاشة الصغيرة. لا بأس. لا يُمكن فصل النكتة عن بيئتها
الاجتماعية. عن الفضاء الإنساني المقيمة فيه. بهذا المعنى،
يُفهَم الانحدار المخيف
الذي تعيشه النكتة حالياً، إذ إن المجتمع برمّته مُصاب بألف عاهة ومرض. بات
العثور
على نكات مضحكة، لا علاقة لها بالبذاءة، صعبٌ. تحوّل الأمر إلى تلاعب
بالكلمات
والمعاني. في إحدى الحانات الليلية، يتفنّن ساهرون في ابتكار
تعابير مُحرَّفة،
لإشاعة مناخ مريح في السهرات اليومية. يتفنّنون في استنباط تعليقات من واقع
أو حالة
أو عنوان أو لافتة أو اسم، ويسقطون عليها رديفاً محوَّراً بحرف أو أكثر.
لكن وضعاً
كهذا نادرٌ. فالبذاءة منتشرة في الأمكنة اللبنانية كلّها، وليس
فقط في النكات
المتلفزة. الدَّرْك خطر. طال مستويات العيش اللبناني. النكات الجنسية
والأخرى
الهابطة المستوى وليدة هذا الدرْك. لذا، يُفترض بالمحاسَبة أن تتوجّه إلى
من أوصل
البلد وناسه إلى هذه الحالة. أو أن تتوجّه إلى الناس أنفسهم،
الذين ارتضوا العيش في
هذه الحالة السيئة، في يومياتهم المليئة بالغبن والقهر والتمزّق والوجع،
وهم صامتون
راضون بما أنعم زعيم «المحلَّة» الضيّقة عليهم من فتات.
انزعج حرّاس الأخلاق
الحميدة من النكات «البذيئة» المبثوثة على الشاشة الصغيرة. لكنهم تغاضوا عن
البؤس
الفظيع للخطاب السياسي والمذهبي، المؤجّل احتدامه حالياً إلى وقت لاحق. أية
لعنة.
السفير اللبنانية في
14/01/2010 |