(عندما كنت اصور الفيلم كنت اتساءل كيف يمكنني ان اقول اشياء للناس
الذين لا يعرفون شيئا عن افغانستان. وقد قلت لنفسي: يتعين عليك ان تقدم
الكثير من المعلومات. إنس انك تخرج فيلما. وهكذا، وجد الناس ان الفيلم مليء
بالمعلومات، وربما معقد ومبالغ فيه الى حد ما. غير انني لم اعرض اشياء
كثيرة. ولو انني عرضت كل ما رأيته، فلن يصدقني احد).... كانت هذه كلمات
المخرج محسن مخملباف الذي من الواضح انه قضّت مضجعه قضية الاضطهاد الفكري
والمعيشي الذي كان يعاني منه الناس في افغانستان في ايام طالبان فترك
الاحداث في فلمه تتحدث عن نفسها وكأنه مراقب محايد لم يكن همه غير توثيق
مايراه .... ينتمي محسن مخملباف الى تيار( سينما المؤلف ) صاحب الرؤية
فالفلم بأكمله كان بجهوده ابتدآءً من الفكرة وكتابة السيناريو والاخراج
والمونتاج فكان العمل متكاملاً ومتناغما لان شخصاً واحداً عمل عليه وطبعا
يحتاج اتقان هذه الفنون الى خبرة طويلة وتفاني وحب وايمان كبيرين بما
يقدمه.... شارك الفيلم في اكثر من مهرجان وتجمع وفاز في جوائز كثيرة اهمها
جائزة لجنة التحكيم العالمية لمهرجان كان السينمائي الدولي لدورته ال54
نالها بجدارة لملامسته للهم الانساني.... وللمخرج افلام كثيرة منها (كان يا
ما كان) ،و (الممثل) ، (سينما السلام) . و (غابة)و (لحظة البراءة) و(الصمت)
. و(الجنس والفلسفة) و(صراخ النملة) و(يوم أن اصبحت امرأة) و(زواج سعيد)
و(راكب الدراجة ) وقد تولدت فكرة الفيلم لدى المخرج عندما طلبت (نيلوفار
بازيرا) الكندية الافغانية الاصل و الصحافية الاذاعية والتلفزيونية في
اوتاوا من المخرج مرافقتها لتصوير فيلم وثائقي عن رحلتها الى افغانستان
لصعوبة القيام بالرحلة لوحدها وقد فكرت بالذهاب بسبب رسالة وجهت اليها من
صديقتها تشكو من سوء الاوضاع هناك .. فلم يستجب محسن لها لكنه اتصل بها بعد
سنة ليطلب منها تمثيل الفلم الذي كتبه مستوحياً الفكرة من طلبها ذاك ....
وكتبه بعد ان عاش تجربة حقيقية مع اللاجئين الافغان الهاربين على الحدود مع
ايران وماسهل على بازيرا الامر انها تتقن لغتين فكان تخاطبها مع الاهالي
بلغتهم ميسرا وكذلك تسجيل مذكراتها على آلة التسجيل باللغة
الانكليزية(للتواصل مع المشاهدين) ....والفيلم عبارة عن متابعة لصحفية
افغانية الاصل اسمها (نفس) تعيش في كندا فيما تعيش اختها المقعدة في قندهار
وتخبرها في رسالة تبعثها لها عن يأسها الى الدرجة التي تجعلها تقررالانتحار
مع آخر كسوف للشمس وبداية الالفية الثانية لذلك فهي تحث الخطى للوصول الى
اختها لمنعها مما عزمت عليه وتواجه خلال رحلتها هذه الكثير من المصاعب
تنتهي بالتلميح الى دخولها السجن ... ورغم قصر الفلم الذي يستغرق عرضه 85
دقيقة الا ان المخرج تطرق الى تفاصيل دقيقة ومؤلمة لمعناة الناس وطغيان
التخلف على كل مرافق الحياة .... فيبدأ الفلم بكسوف الشمس واختفائها (كان
الاسم المقترح للفيلم هو "الشمس وراء القمر")وهي اشارة الى ان الكارثة حلت
ودخل العالم في ظلام حالك(انتج الفلم عام 2000 اي قبل احداث 11ايلول واسقاط
نظام طالبان), ليظهر صوت نافاس وهي تسجل كلمات لاختها تخبرها بها انها
قادمة اليها لتنقذها وتمنعها من الانتحار وتوصلها طائرة تابعة للصيلب
الاحمر توزع المساعدات والاطراف على الناس الذين فقدوا اطرافهم من جراء
الحروب او انفجار الالغام الارضية التي زرعتها الميليشيات المتناحرة فيما
بينها فيكون الابرياء هم الضحايا ثم بعد نزولها الى ارض افغانستان تدخل
متخفية كزوجة رابعة لرجل يعتبر كشفها لوجهها امتهاناً لشرفه وكرامته ويطلب
منها تغطية وجهها بالبرقع وبعد اعتراض طريقة من قبل قطاع طرق وسرق مايحملون
يقرر العودة الى ايران ثم تلتقي بطفل طرد من المدرسة لعدم اتقانه قراءة آية
من القرآن وتعطيه بعض المال ليكون دليلها الى قندها ثم تلتقي بالدكتور
(الذي جاء بحثا عن الله كما يعبر هو) فقد كان يعتقد انه يجده في قتاله ضد
الروس ثم بمشاركته مع الطاجيك ضد البشتون ثم مع البيشتون ضد الطاجيك في
الحرب الاهلية الطاحنة وفي هذا كله لم يجد الله بل وجده اخيرا في علاج
المرضى وانقاذ حياة الناس ثم برجل فقد احدى يديه يسمي نفسه حياة يحاول
استلام الاطاراف من الصليب الاحمر لبيعها وايضا يتعهد بايصالها لقاء مبلغ
معين ليحاولوا الدخول الى قندهار مع عرس لكن يكشف امرهم في نهاية الفيلم
...ويلاحظ على السيناريو انه كتب بحيث تتنقل نافاس بين الناس والاماكن و
تقابل البؤس والفقر اين ما حلت وهي بانتقالاتها تحرك موضوعة الفيلم الى
الامام في اسلوب غلب عليه طابع التسجيلية ونافاس كانت الشاهدة على الحدث
وكان لكل شخص تلتقي به قصة وعالم خاص به ولديه مشاكله معاناته وهي بتنقلها
بين الاشخاص تطرح مشاكلهم وتوضح همومهم ....وحرص مخملباف على استخدام اشخاص
حقيقيين عجنتهم الصعاب وحفرت ذلك على جباههم ولم يستخدم ممثلين محترفين فقد
احترفت شخصيات مخملباف المعاناة.... وحتى شخصية الطبيب الامريكي كانت شبه
حقيقية فالممثل ترك الولايات المتحدة وهاجر الى ايران بعد اعتناقه للاسلام
وقاتل في صفوف الثورة الاسلامية ضد الشاه لكنه صدم ايضا بسلبيات ظهرت بعد
نجاح الثورة فترك القتال وعمل على معالجة الناس الفقراء (وقد ظهر بعد ذلك
انه مطلوب في قضية اغتيال السفير الايراني لحكومة الشاه في الولايات
المتحدة وهرب الى ايران واسمه الحقيقي ديفيد بيلفيلد واثيرت القضية بعد
ظهوره في هذا الفيلم!!!) عرض الفيلم في معظم الدول العربية اولها السعودية
وكذلك في الكثير من الدول العالم منها امريكا وفرنسا وايطاليا ولاقى
اهتماما كبير خصوصا بعد احداث 11 ايلول فكان العالم حينها يريد معرفة اي
شيء عن افغانستان وطالبان(حتى ان بوش احتاج الى صورة واقعية من داخل
افغانستان فشاهد الفلم) وهذه تحسب للمخرج لانه نبه الى خطورة وكارثية هذا
الكيان السرطاني الخطير والذي يعتاش على الفقر والجهل والتخلف بأسم الاسلام
.... هناك محطات تحرك اليها الفلم بشكل مركز وهي دروس القرآن وعرفنا من
خلاله الطفل خاق الذي سيكون له دور مع نافاس وكيف يجبرون الاطفال على
التعايش مع الاسلحة باعطائهم معلومات يرددوها ببغائياً عن كل سلاح مع الدرس
وكيف ان الطفل خاق يرفض قراءة الاية بشكل صحيح ويقلد نغمات القراءة فقط
لشدة تعلقه بالغناء ويعتبره مصدرعيشه الرئيسي... ومشهد تصوير العوائل
المهاجرة حيث تصور المرأة وهي داخل الشادر بحيث لايظهر منها اي شيء فهي
مغطاة بالكامل بل ويسمي الرجل العجوز النساء بالرؤوس السوداء فهي بالنسبة
له ليست سوى مجرد هذا الرأس الاسود المغطى و المبهم... ثم مشهد الطبيب وهو
يعالج مرضاه فلا يكلم المرأة مباشرة بل من خلال وسطاء هم الاطفال وحتى لو
اضطر الى فحصها فمن خلال ثقب صغير يستطيع من خلاله مشاهدة العين او الفم
بشكل مجتزأ على ان معظم تشخيصات الطبيب هي امراض يسيرة التشخيص بسبب تلوث
المياه او فقر الدم بسبب الجوع ..... واهم المشاهد واقواها تأثيرا كان مشهد
مخيمات الصليب الاحمر عندما يصور الافغان فاقدي اطرافهم ومدى معاناتهم
للحصول على طرف يعينهم على التأقلم مع وضعهم ومع المجتمع وبلغت جمالية
الصورة وتعبيريتها في مشهد اسقاط الاطراف بواسطة الطائرة وتسابق المعوقين
اليها فكان مشهدا معبرا جدا فهم يتسارعون بلهفة الى مايسقط من السماء
ورافقت ذلك السباق اليائس موسيقى جميلة جدا ارتقت المشهد .... ثم مشهد دخول
نافاس للعرس مع دليلها متخفين على انهما من اقارب العريس ومشهد زف العروس
يشبه الى درجة كبيرة مشهد تشييع فهن نساء يتحركن في صحراء قاحلة ويكررن
مايقولنه بشكل رتيب لايعبر عن الفرح ثم ايقافهم قبل الدخول الى قندهار
للتفتيش فيظهر ماخبأه الشادر من خفايا فقد لبسه عدد من الرجال واخفى البعض
منهن الة موسيقية فيما اخفت امراة اخرى كتاباً فالشادر عالم كامل يخفي
العوالم الحقيقية ويخفي تحته اسراراً لاحدود لها ويبدوا ان امر نافاس انكشف
بتوقيفهم لها ليختم الفيلم بلقطة معبرة من تحت الشادر الذي فيه ثقوب صغيرة
ليصور الفضاء الذي امامها كأنه قضبان سجن...... الفيلم صرخة مدوية بوجه
الضمير الانساني الذي سكت عن جرائم وممارسات ثلة كانت تريد اعادة رحى الزمن
الى ماقبل الحضارة فكل تلك الممارسات والمعاناة كانت تحصل بدون رد فعل
انساني وكان لمخلباف الفضل في تسليط الضوء على تلك البقعة من الارض واؤلائك
البشر .... لكنه ورغم عمله الكبير لم يعتبر ذلك كافياً فكتب (حتى بعد
انتهائي الآن من فيلم قندهار فانني لم اصل الى مكان ما في مهنتي. لا اعتقد
ان اللهيب الوجيز الذي يشعله تقرير او فيلم قادر على ان يضيء المحيط العميق
من الجهل الانساني).
بدأ الفلم بلقطات لكسوف الشمس وايضا في المشاهد الاخيرة ظهر الكسوف
لترابطه مع انتحار اخت نافاس وعلى الرغم من ان النهاية كانت سجن نافاس
واستخدم رمزية دخول العالم في ظلام لكن هذا الظلام مؤقت فكما هو معلوم ان
الكسوف حالة مؤقتة وتزول بعد مدة معينة فالقمر لايستطيع بحجمه الصغير
الاستمرار بأخفاء الشمس وهي حالة نادرا ما تحصل وهو بهذا تنبأ بزوال نظام
طالبان واعطى الامل في نفس الوقت الذي من المفروض ان تنفذ اخت نافاس عزمها
على الانتحار...لكن السؤال الان هو هل غطت الشمس ارض افغانستان؟
أدب وفن في
11/01/2010 |