أعطى للذات مكانها، وللفرد صوته، في السينما الفلسطينيّة الحديثة مع «عرس
في الجليل». بين «الذاكرة الخصبة» و«الطريق ١٨١» تمتدّ مسيرة غنيّة استعادت
دفقها مع «زنديق»
«الذاكرة الخصبة» هي الفضاء الفلسطيني الأساسي الباقي بعد اختلاط
الأزمنة وضياعها. أما المكان المسلوب، فيعيش في الذاكرة، حيث الملجأ
الأخير، كما قرية معلول الفلسطينيّة التي «تحتفل بدمارها» بعدما ابتلعها
الاحتلال. بين هذين الحدّين، تراوح تجربته الإنسانيّة والسياسيّة
والسينمائيّة. إنّه ميشيل خليفي أحد أبرز السينمائيين العرب منذ فاز فيلمه
«الذاكرة الخصبة» (مع الكاتبة سحر خليفة) بالجائزة الأولى في «أيام قرطاج
السينمائية» (1980). معه بلورت السينما الفلسطينيّة هويّتها الحديثة،
واحتلّت مكانها في المحافل العالميّة... قبل أن تكرّ سبحة المخرجين الذين
واصلوا تطويرها وأخذوها من الخطاب النضالي إلى المشاغل الأسلوبيّة
والإبداعيّة.
من داخل الأرض المحتلة، انطلق خليفة، مؤسّساً لما سيعرف بالسينما
الفلسطينية الجديدة: هنا، يأتي التوثيق نقدياً، ويمسي الفلسطيني من لحم
ودم. الانعطافة التي شكّلتها سينما خليفي تأتي من «الذاكرة الخصبة»، شريطه
الوثائقي الأول الذي أتى من الداخل المغيَّب: هنا، امرأة اسمها رومية فرح
حاطوم ترينا حياتها. إنّها نموذج أمّ فلسطينية سرعان ما يطالعنا خليفي
بنموذج مغاير لها إن استجابت لتطلّعاتها، وذلك عبر الانتقال إلى سحر خليفة
التي ما كانت كذلك لو استسلمت لواقعها.
100 دقيقة في «الذاكرة الخصبة» كانت كفيلة بنقل السينما الفلسطينية
إلى مساحة جديدة، تتناغم مع متطلبات المرحلة وتتكئ على الخصوبة، الصفة التي
يجعلها خليفي لصيقةً بالذاكرة الفلسطينية. ثم توالت أفلامه: «طريق النعيم»
(1981) الذي يتناول اغتيال مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية في بلجيكا خضر
نعيم، و«معلول تحتفل بدمارها» (1985) حيث قدّم وثائقياً يجد في المكان
معبراً إلى التوثيق، عبر تقديم أدوات الحنين والاستعادة التي يمارسها أهالي
القرى المدمرة في إصرار على استبقاء المكان.
ثم كان «عرس في الجليل» (1987) باكورته الروائية التي اعتُبرت منعطفاً
في تاريخ السينما الفلسطينيّة. بعد 12 سنة على استقراره في بلجيكا، شكّل
فيلمه «عرس في الجليل»، نقطة تحول في السينما الفلسطينية، لجهة الشكل
واللغة الفيلميّة التي لا تنفصل عن الموضوع: العربي الأصيل في مواجهة
الإسرائيلي الطارئ، والذات الفرديّة الفلسطينيّة في مواجهة خطاب الجماعة
(القمعي بمعنى ما) حتّى في غمرة القضيّة الوطنيّة في مواجهة احتلال غاشم.
شكّل العرس الذي سيقيمه أبو عادل لابنه عادل بؤرة العمل الدرامية.
إقامة العرس تتطلب موافقة الحاكم الإسرائيلي الذي يوافق شرط حضوره مع
جنوده، ما يدفع مجموعة شبان إلى التخطيط لقتل الحاكم. ثم يمضي العرس
مزدحماً بفرح فلسطيني في مواجهة آلة عسكرية إسرائيلية لا تعرف سوى القتل.
الفيلم محمّل بخطاب فكري وجمالي مركّب، وما زلنا نذكر أصدقاء العريس
يرددون: «طلع الزين من الأحلام... ما أحلى الرؤية بالأحلام». وعلى هدى هذه
الأهازيج، يحضر الحب، والأنوثة والعرق وطقوس الزواج. بل إن المجندة
الإسرائيلية ستكتشف إنسانيّتها عندما احتضنتها نساء فلسطينيات هنّ ضمير تلك
الأرض وروحها، قبل أن تعود سريعاً إلى بدلتها العسكريّة. أما عادل «العريس»
الفلسطيني فيشعر بالعجز الجنسي تحت وطأة السلطة الذكوريّة، ويتمّ فض
البكارة على يد العروس نفسها!
«الطريق 181» فيلمه المميّز مع إيال سيفان سيعرض قريباً في «مركز بيروت
للفنّ»
تداخل زمن عرض «عرس في الجليل» مع الانتفاضة الأولى، فتعقبها خليفي في
«نشيد الحجر» (1990) الذي يمثل ذروة في سينما المؤلّف، جامعاً بين الروائي
والتسجيلي ضمن نفس درامي يحيل إلى المسرح. هكذا، تخرج الممثلة بشرى قرمان
من أمومتها في «عرس في الجليل» وتمسي تلك العاشقة التي تلاقي حبيبها الخارج
من سجنه، بينما تمضي الانتفاضة إلى جيل جديد يشكّل مفصلاً مغايراً عن
سابقه.
هذا المفصل سيتيح لخليفي الجنوح إلى التجريب في فيلمه الروائي الثاني
«حكايا الجواهر الثلاث» (1994) مجدداً مقاربته الحياة الفلسطينية وفق
المتغيرات التي طرأت عليها بعد «عرس الجليل». هنا، تُصبح الشخصيات أشد
تعقيداً وتُمسي الحبكة مساحةً اختبارية مع تداخل الأزمنة بين الانتفاضة
والتراث النضالي للشعب الفلسطيني. بعد ذلك، سيدخل خليفي في مرحلة تريّث، لم
يحقق فيها سوى «الزواج المختلط في الأراضي المقدسة» (1995)، وفيلمه المهمّ
(والمختلف عن كل ما أنتجه) مع إيال سيفان «الطريق 181» (2003). هذا العمل
الذي يعرض قريباً في «مركز بيروت للفنّ»، رحلة طويلة ـــــ بصوتين
وحساسيتين ـــــ في وجدان وطن ممزّق في مهبّ رياح التاريخ.
غاب خليفي طويلاً حتى فكّر كثيرون أنّه استسلم للتعب والإحباط... لكن
ها هو يعود إلينا بفيلم «زنديق» الذي يجاهر بجماليّات «السينما الفقيرة»
(إنتاج عمر القطّان)، ليقول إنّ الرحلة مستمرّة والسينما أيضاً.
سيرة ذاكرة خصبة
نشأ ميشيل خليفي في الناصرة، حيث ولد عام 1950. في العشرين من العمر،
ترك الجليل إلى بروكسل، حيث درس الإخراج المسرحي والتلفزيوني في الـ
INSAS (المعهد الوطني العالي لفنون العرض)، قبل أن يتخرّج عام 1977. لفت
الأنظار منذ باكورته الوثائقيّة «الذاكرة الخصبة» (1980) التي نالت الجائزة
الأولى في «أيام قرطاج السينمائيّة»، وكان حينها قد بدأ العمل في التلفزيون
البلجيكي. ثم جاءت باكورته الروائية «عرس في الجليل» عام 1987. يومها،
استُقبل الشريط بحفاوة في «مهرجان كان» (جائزة النقاد ـــــ 1987)، وحصد
جوائز عدّة مثل «التانيت الذهبي» في «مهرجان قرطاج» (1988). واستمرّ نجاحه
مع «نشيد الحجر» (1990)، حتى «الطريق 181» (2003). وبعد غياب ستّ سنوات، ها
هو يعود بـ«زنديق» الذي نال جائزة أفضل فيلم روائي عربي في «مهرجان دبي».
خليفي يقيم حالياً في بروكسل، حيث يدرّس في المعهد نفسه الذي تخرّج منه،
إضافةً إلى نشاطه المتشعب بين الإخراج والإنتاج.
«زنديق»... مع سبق الإصرار
للعودة زندقتها، وأحلامها أيضاً التي سرعان ما تصطدم بكوابيس تهبط على
المخرج «ميم» في فيلم «زنديق» الذي نال جائزة أفضل فيلم روائي في «مسابقة
المهر العربي» في «مهرجان دبي» الأخير. هنا، يتعقب ميشيل خليفي مصائر وطن
ممزق بالاحتلال والصراعات الداخلية، عبر اشتباك الفردي بالعام.
يأتي الفيلم متسلحاً بهم سينمائي توثيقي سرعان ما ينقلب على المخرج
ميم (محمد بكري) الذي يريد تصوير وثائقي يجمع فيه شهادات لمن عاصروا نكبة
الـ 1948. وعليه، يمضي المشروع جنباً إلى جنب مع مشاكل المخرج الشخصية،
ويمسي ما يسجّله تعويضاً عن الذي لم يسمعه من والديه، كونهما تجنّبا طيلة
حياتهما الحديث عن عذابات تلك المرحلة.
سيكون علينا تعقب غراميات ميم، وخياناته وتنقلاته بين امرأة وأخرى بما
فيهن إسرائيلية تقول له «إنها المرة الأولى التي أتذوّق فيها فماً
فلسطينياً». هنا، تظهر الناصرة غارقة في العنف، فيهرب منها المخرج لأنّ أحد
أفراد عائلته قتل فرداً من عائلة أخرى، بعدما علا صوت الثأر والصراعات
الأهلية. عنوان الفيلم «زنديق» لن يكتفي بزندقة المخرج وما يقوله عن انعدام
إيمانه بالله، بل يمتد إلى زندقة تطال الوطن والتاريخ، في حركة تنصُّل من
كل شيء وكفر بالماضي والحاضر وربما المستقبل.
مع هرب المخرج من الناصرة، يدخل الفيلم في نفق المجازات. كل شيء يقف
ضده لئلا يحصل على مساحة ينام فيها. كل الفنادق مملوءة، مع التنويع على
أسباب ذلك كامتلاء أحدها بالجنود الإسرائيليين. ومع تنوّع الأسباب، تمسي
تلك الليلة تكثيفاً لحال وطن متداع، نابذ ورافض للمخرج.
المستقر الوحيد الذي يجده ميم يكون في بيت أهله المهجور منذ 1948. يضع
مفتاحه القديم في القفل فيفتح، فإذا به محتلّ من قبل قتلة ولصوص وتجار
أعضاء بشرية، لكن بما يتيح له حرق صور أهله، كما لو أنه يقطع آخر صلة له
بهذه الأرض أو الذاكرة.
ضياع على ثلاثة مستويات: شخصي وعائلي ووطني
المجازات واضحة، والفيلم مأخوذ بها إلى درجة ينسى فيها أشياء كثيرة
ويكون الباب مفتوحاً أمام ضياع متشعب ومتداخل ذات ثلاثة مستويات: شخصي
وعائلي ووطني. إن نظر إلى الخلف، فالكاميرا تطالعنا بذاكرته. وإن نظر
أمامه، فسرعان ما يخرج من يتربّصون به من أفراد العائلة الثائرة ضد عائلته.
في الفيلم مساحة للعدمية تتخذ من الواقع مبرراً لها. ولعل عودة هذا
المخرج إلى فلسطين، ستكون دوامة لا يمكن الخروج منها، لأنّه لا مكان له
فيها. إنها محتلة بمختلف أشكال الاحتلالات، الوطنية والإسرائيلية. وما وصل
إليه وعاينه ليس إلا نتيجة لتفاقم ما بدأ مع 1948. ما من مكان يُفتح أمام
المخرج إلا البيت الذي فارقه أهله في ذاك العام. لكن حتى ذلك البيت، لا
يدعوه إلا لحرق صور عائلته.
الأخبار اللبنانية في
11/01/2010
شرلوك هولمز... يظنّ نفسه جيمس بوند
زياد عبد
الله
شرلوك هولمز، على ما عرف به، لم يفارق غليونه وقبعته. إنّه المحقق
العميق التفكير الواسع الثقافة، والبوهيمي الذي لا يفارقه حسّ الفكاهة.
هكذا خلقه آرثر كونان دويل عام 1887 في أربع روايات، و52 قصة قصيرة هي من
كلاسيكيّات الأدب البوليسي. وقد انتقل المحقّق الإنكليزي الشهير إلى الشاشة
الكبيرة مراراً، وتناوب على تجسيده ممثلون كثر من أمثال روجر مور وجون
نيفيل، وبالتأكيد مايكل كين الذي ارتبطت صورة هولمز به إلى حد بعيد.
وها هو هولمز يعود مجدداً على يد السينمائي البريطاني غي ريتشي، ومن
خلال معالجة جديدة عمل عليها خمسة كتاب نقلوا هذه الشخصية إلى مساحات جديدة
نجدها تلتقي، في جانب منها، مع شخصيّة جيمس بوند لجهة اللجوء إلى الخوارق
والأدوات العجيبة، ومواجهة مخاطر تتهدّد إنكلترا والإنسانيّة. الشرير في
الفيلم يعدّ لمؤامرة تبدأ من مجلس الشعب لكنّها تتخذ بعداً عالمياً. هناك
نوع من «العولمة» للجريمة التي يفكّ ألغازها المفتّش المحبب إلى القلوب،
وأبعادها تتخطّى حدود لندن، مدينة هولمز الأثيرة.
شرلوك هولمز ذكي وفوضوي وخفيف الدم، وما من جريمة تعصى عليه. جسّد
شخصيته ببراعة روبرت داوني، وإلى جانبه شريكه ومكمّله الدكتور واتسون (جود
لو). أحياناً، نشاهد الأحداث مرتين في الفيلم: المرة الأولى كما يعرضها
الفيلم. وفي المرة الثانية، تكون عبر رواية هولمز نفسه لها، موضحاً أموراً
كثيرة تكون خافية علينا، مثلما هي الحال مع ايرين آدلير (راشيل ماك آدمز)
التي تكون نقطة ضعف هولمز، هو الهائم بها، هي التي تعمل دوماً لمصلحتها
وبأنانية مفرطة.
في الفيلم، يشرح لنا هولمز كيف يستخدم قبضته، ينازل مَن يفوقه قوةً،
لكنه يوضح كيف يستخدم عقله في إلحاق الهزيمة به. يفكر ويخرج بالأدلة التي
سرعان ما تتضح في نهاية الفيلم. يستخدم معرفته بالعلوم ويستثمرها في منع
الشر من أن يطاله ومن معه.
يعطّل المفتّش الشهير مؤامرة إجراميّة تتهدّد إنكلترا والعالم
عدو هولمز في هذا الفيلم هو اللورد بلاكوود (مارك سترونغ) الذي يمثّل
خطراً داهماً على إنكلترا والعالم، ويخطط لمؤامرة كونيّة، وتبدو ملامحه
أحياناً ذات إيحاءات نازيّة. يلقي هولمز القبض عليه منذ البداية، ثم يُعدم
بسبب ممارسته الشعوذة، لكن سرعان ما ينهض بلاكوود من بين الأموات ـــــ أو
هذا ما نعتقده ـــــ الأمر الذي يحوّله إلى رجل خارق، يسعى إلى السيطرة على
لندن، ثم على العالم من خلال السحر والشعوذة.
أهم ما في الفيلم هو أنّ هولمز لا يقع في فخّ بلاكوود. إنّه محقق
علمي، سرعان ما يكتشف حيل اللورد الشيطاني، ويعزوها إلى أسباب علمية لا
علاقة لها بالخوارق التي يتهيّأ لنا في البداية أن بلاكوود يمتلكها. أما
السلاح الكيميائي الذي سيكون بلاكوود أول مستخدم له، فسينتقل إلى شخصية
تبقى غامضةً طيلة الفيلم، وتُعرف باسم «البروفسور»، تكون ايرين تعمل
لمصلحته... فهل يُصبح «البروفسور» عدواً محتملاً لهولمز في جزء ثان ربما؟
الأخبار اللبنانية في
11/01/2010 |