لعل ليس من المغالاة، في شيء، القول إن فن الرواية هو، بين الفنون
النثرية، والإبداعات الكتابية، جميعها، أكثر ما يستطيع أن يقدِّم معرفة
بالواقع.. بل إن جورج لوكاتش ذهب إلى الدرجة التي رأى فيها أن ما تقدمه
الرواية، إنما هو نمط من «المعرفة الموضوعية»، بما يعني أن الرواية هي
الأكثر قدرة على إدراك الواقع، وقراءته، وتحليله، وإعادة بنائه.. في مسعى
لتفسيره وتحليله..
الرواية في فهم من هذا الطراز هي كتابة في الذات والموضوع. كتابة تدرك
الماهيات بتحوِّلها، وتحرّكها في الشرط التاريخي، بتفاصيله الدقيقة،
والفاعلة في آن، وفي مصائر البشر العاديين.. عند ذاك لا تعود الكتابة في
الرواية نزقاً، ولا ردَّ فعل، بل محاولة جادة وواعية للغوص في عمق الظاهرة،
بمعزل عن إرادة الروائي، ورغباته.. وربما نزواته..
الرواية أولاً هي ذاك الفعل الإبداعي الذي يتجاوز حكايته، دون أن
يفقدها أو ينكرها، ليكون بيان وجود عن ثقافة معبرة عن ذاتها، بكلمات مهمتها
صنع العالم. إنها كلمات.. نعم.. ولكنها تحاول إعادة صياغة العالم في مسعى
لفهم أدق، ووعي أعمق، وفض الالتباسات، وكشف الغوامض..
وعندما يختار المخرج مجدي أحمد علي، في فيلمه الجديد، الاتكاء على نص
روائي للروائي إبراهيم أصلان، وبالعنوان ذاته: «عصافير النيل»، فهو دون
أدنى شك يدرك ذلك كله، ويعرف ما الذي يقتضيه القيام بأفلمة رواية، على هذا
المستوى من العمق، ومن التشابك، فضلاً عن الروعة والشاعرية.
تحطيم السرد.. تعدد مستوياته
يبدأ فيلم «عصافير النيل»، انطلاقاً من لحظة زمانية محددة؛ هي لحظة
اللقاء بين «عبد الرحيم» و«بسيمة»، في رواق مشفى ما!.. وإذا كان من المتعذر
العثور بوضوح، وفي المشاهدة الأولى، على دلالة تلك اللحظة، إلا أن الفيلم
سرعان ما يعود بالخطف خلفاً، إلى لحظة اللقاء الأولى للعاشقين الآفلين.
وسيمضي الفيلم، منذ تلك اللحظة، في سرد صاعد مع الزمن، تخترقه حضورات
متكررة للراهن، مع استرجاعات للماضي، ينجزه صوتُ راوٍ، يبدي معرفة ورؤية
كلية منجزة، تجاه الزمان والمكان والشخصيات وتفاصيلها.. ويراوغنا في حديثه،
ليغوينا بالمضيِّ معه حيث يريد، ويورِّطنا في لعبته الروائية. ولا يترك
الصوت الراوي وسيلة، إلا ويستخدمها؛ بدءاً من الوصف، إلى الحوار، إلى
التداعي، والتأمل، والاستعادة عبر الذاكرة، وإرسال الحكمة، وصولاً إلى
التوغُّل في جوانية الشخصيات، وفضح دواخلها، وما يعتورها، من مشاعر وأفكار،
أو هواجس وأوهام..
ينتهج الفيلم طرائق سرد متعددة، تتراكب وتتكامل فيما بينها، مع تعدد
الأصوات، وتتالي الاعترافات، والانتقالات المتبادلة والمتتالية، بين الآن
وهنا، أي الحاضر الراهن بأساه، وبين هناك وما مضى، بتعرجاته وتحولاته التي
أسست لمصائر الشخصيات..
ومن المُدرك أن طريقة تعدُّد الأصوات الروائية، تقوم بكسر السرد،
والتخفيف من حدَّته، وتصاعده.. كما تنجو من رتابته، وتحقِّق إفلاته من أيِّ
إملال يمكن أن يصيبه، وتنجو من مطب إيراد الفيلم سياقات متوقَّعة ومفضوحة
سلفاً، من قبل المتلقي.. بل هي طريقة تقوم أيضاً وأولاً بتفتيت الحدث،
وتشظيته، وإعادة إنتاجه مرة وأخرى، منظوراً إليه في كل مرَّة، من زاوية،
ومن خلال وجهة نظر المتذكر، أو الصوت المتكلم، بتعدده، واختلافه.. كما أن
تعدد مستويات السرد يمكن له أن يضفي شاعرية ما على أجواء العمل، وهو ما
تحقق محفوفاً بحرفية التصوير، لرمسيس مزروق، وحركة الكاميرا التي لم تهدأ
في استعراض (بان، وتيليت)، صاعدة نازلة وذات اليمين وذات الشمال، وكأنما
تمسح بكفّها الوجوه والأمكنة والتفاصيل.
ثنائية الريف/ المدينة..
يعود فيلم «عصافير النيل»، كما الرواية، إلى الموضوع الأثير في الأدب
العربي خلال القرن العشرين، وهو موضوع ثنائية الريف/ المدينة. وهنا نؤكد
أنه وعلى الرغم من اقتراب الفيلم من موجة «سينما العشوائيات»، إن صحَّت هذه
التسمية، إلا أنه لا علاقة له بها أبداً. إنه أبعد وأكثر عمقاً وأغزر دلالة
من ذلك. الموضوع هنا هو تلك الإشكالية الهائلة التي عاشها العالم العربي،
ثنائية الريف/ المدينة، والتي نعتقد أنها قوَّضت المشروع العربي برمته،
تماماً كما انتهت بالريفيين إلى مصائر دامية على حافة المدينة.
وهكذا، فعلى الرغم من أن المكان في فيلم «عصافير النيل» هو المدينة،
إلا أن الفيلم لم يقدم أيَّ شخصية تنتمي إلى المدينة!.. جميع الشخصيات في
الفيلم هي من أبناء الريف.. إنهم ضيوف على المدينة، أو وافدون عليها. ورغم
أن الجزء الهام من أعمارهم أمضوه في المدينة، وأن بعضهم جاء إلى المدينة
محملاً بأحلامه، والتدرج على السلم الاجتماعي والحياتي.. إلا أن الأمر
المثير هو أن لا علاقة حقيقية نشأت بين الشخصيات الريفية والمدينة..
كأنما هم غرباء فيها، وكأنما هي تبدي الصدود تجاههم.. كأن المدينة
انغلقت على ذاتها، واحتفظت بأسرارها، التي لن يدركها الريفيون، ولن يخترقوا
الجدران الكتيمة التي سوَّرت نفسها بها.. فبقيت المدينة ميداناً/ مكاناً،
يتحركون فيه، يفعلون ويتفاعلون (في ما بينهم كريفيين) فيه، دون أن يصلوا،
أو يتصلوا بالمدينة!
المثير في الفيلم أن الجميع هم من أبناء الريف، الإيجابيون منهم
والسلبيون، الجلادون والضحايا، الفاعلون والمنفعلون.. إذ لا نرى أياً منهم
كجزء من البنية الاجتماعية في المدينة، بل لا يتواصل أي منهم مع أيٍّ من
تعبيرات المدينة، يتفرجون عليها، ولكن لا يعيشونها.. إن المدينة على
اتساعها تنغلق في وجوه شخصيات الفيلم، فيلوبون في شوارعها، ويتوزعون في
أركانها، ويتصادمون في ما بينهم، هذا في الوقت ذاته الذي تبدو المدينة
سادرة في هدوئها، تنظر (وربما تنتظر) إلى أية هاوية ستؤول أحوال أولئك
الريفيين!
وإن كان للفيلم أن يلامس موضوعة «الريفي إذ يفد المدينة»، من ناحية ما
تحتمله من طرائف، «كأن لا يعرف طعم التفاح، مثلاً»، وهو متوفر في العديد من
الأفلام العربية، فهو لم يبتعد أيضاً عن موضوع الهوس الجنسي الموسوم به
الريفيون، وبشبقهم العالي حتى للنساء اللواتي لا يتمتعن بالجمال. وسيمنح
الفيلم وقتاً فائضاً لعبد الرحيم وهو يتمرغ في أحضان نساء لسن فاتنات، ولا
ممتلكات لمقادير من الجمال، بل هن محض مغويات.
ومن الذكاء أن المخرج مجدي أحمد علي حاذر الاقتراب من أي أقنوم جمالي
في السينما المصرية، فبدت جميع الشخصيات النسوية في الفيلم موضوعاً جنسياً
مباشراً، فاقدات للكثير من المواصفات الجمالية، وهو ما يكاد يتسق مع فكرة
أن الجمال والأناقة والرقة، هي من صفات النساء المدينيات، بينما الريفيات
يقفن على حافة الجمال، وإن امتلكن شيئاً منه، فإنهن سرعان ما يقمن بتشويهه
بالماكياجات الصارخة.
وبالاعتقاد أن الأهم في الشخصيات الفيلمية، هو ما يمثله الفتى «عبد
الله»، ذو النزوع السياسي، والمنتمي كما يبدو إلى المشروع التغييري، الذي
التحق عبره الكثير من أبناء الريف وانتسبوا من خلاله إلى شوارع السياسة
المدينية!.. إن الفيلم يتوافق هنا تماماً مع واقع الحال ومجريات الأمور
التي بدأت تقريباً مع النصف الثاني من القرن العشرين.. أي أنه ينطلق من
معرفة وإدراك وملاحظة ذكية لما حصل منذ مطلع الخمسينيات، على الأقل، إذ في
لحظة تاريخية ما أعقبت فترة الاستقلالات الوطنية، ورحيل جيوش الانتداب، بدأ
الريف العربي بالتعبير عن ذاته، من خلال انخراط الكثير من أبنائه في
السياسة، سواء الأحزاب، أو الجيوش (الوطنية)، التي كانت قد بدأت بالتشكّل
عندما كان الانتداب يشهق آخر لحظاته، ويكاد يلفظ أنفاسه..
لن يذهب الفيلم كثيراً مع «عبد الله»، ولم يكشف لنا عن أي مصير
يلاقيه، على الرغم من أن الواقع قال قولته الحاسمة في هذا الإطار، فلم
تتوقف المصائر التراجيدية عند أمثال «عبد الرحيم» و«بهي» و«الرشيدي»، بل
لعلها طالت المشرع السياسي الذي قاده الريفيون، واقتحموا به المدينة. وإذا
كان جمال عبد الناصر (كما الأسد، وصدام، والقذافي) الريفي القادم من أقاصي
الصعيد المصري، قاد وأسَّس لمرحلة كاملة من مشروع وطني وقومي، فإنما ذلك
كان، في الوقت نفسه، إعلاناً عن انقلاب حقيقي على النخب السياسية المدينية،
وتراجعها وعزلها، والشروع بالدور الذي سيتولاه ويقوده أبناء الريف،
عسكرياً، وسياسياً، ومشروعاً اجتماعياً ثقافياً.. فمن الضروري القول إن هذا
المشروع انتهى في أغلبه الأعمّ إلى الفشل!.. فلم يكن بالمستطاع «ترييف
المدينة»، رغم كارثة الهجرة الداخلية، من الأرياف إلى المدن، التي كانت
إحدى أدنى نتائجها، الإخلال بالتوازن الاجتماعي، وضرب تناسقه، وتخريب
لياقته، ونشوء مناطق السكن العشوائي، وما تحفل به من مفاسد ومخاطر،
وانحرافات اجتماعية وتربوية وأخلاقية.. وإفساد التطور الاجتماعي، في مجتمع
من المفترض أنه كان يقف على عتبة تحولات كبرى في حياته الراهنة، وتحديد
اتجاهاته المستقبلية.
كما كان من أدنى نتائجها الإخلال بالتوازن البيئي، لناحية استنزاف
الموارد الطبيعية، من حيث نضوب الثروة المائية، وتحول المدن إلى مناطق
مهددة بالجفاف، وتصحير المناطق الخضراء باقتلاع الشجر، وزرع غابات الإسمنت،
وما أدى إلى تلويث البيئة، وإفساد المناخ.. كل هذا فضلاً عن إفراغ الريف من
الطاقات الشابة، القادرة على تطويره وتنميته.. وتحول الريف جراء ذلك إلى
هامش عاجز عن المساهمة الفعالة بدوره الحقيقي.. الأمر الذي جعل البلدان
العربية، الزراعية، أصلاً وأولاً، تستورد المنتوجات الزراعية من خلف
البحار، أو تشهد فقراً فيها، تبدي عوزاً، وغلاء أسعار، ونقص مواد، وصل إلى
حدّ الجوع الحقيقي..
ليس السؤال هنا حول قدرة الريف على حمل مهام المشروع الوطني والقومي،
أي المشروع الحلم.. فهذا أمر آخر.. لكن السؤال هو عما تجلَّت عنه التجربة
في شكلها الذي تمّ، والنتائج التي انتهت إليها.. وهي تجربة بحاجة إلى قراءة
وتحليل وتدقيق، ومراجعة تاريخية، دون أدنى تجنٍّ!
فيلم «عصافير النيل»، لم يكلِّف نفسه عناء الخوض في هذا الغمار،
واعتقد أنها ليست مهمته، بل إنه اكتفى بتبيان مآلات الخسران، وتهافت
التجربة. وعلى هذا لم يتردد الفيلم كثيراً في الذهاب إلى قول الحقيقة، مهما
كانت موجعة، وكشف المصائر مهما كانت فاجعة.. وسيستكمل الفيلم قولته تلك
بالتأكيد على أن العودة إلى الريف هي سبيل الخلاص!.. فلا يتوانى عن الوشاية
دائماً بأن على الريفيين العودة إلى الريف، ولو جثثاً!.. وإن ستتلاشى في
الفضاء توسلات الأم «حدّ ياخدني البلد».
خاتمة.. ما
فيلم «عصافير النيل»، للمخرج مجدي أحمد علي، نص إبداعي متماسك، ونسيج
بارع، وأداء راق ينساب هادئاً رائقاً، دون أن يفقد توتره، وانشداده كخيط
حرير، ذاك الذي يفوق أعتى المعادن قدرة وصلابة وتماسكاً.. خيط ينسل من
أرواحنا وأحلامنا، يأتي من نور، ليضيء تلك الزوايا المعتمة في التجربة..
لم نقل «اللهم نجنا من التجربة»!.. إذ إننا انخرطنا فيها.. فولغت في
دمنا..
وكان صباح.. وكان مساء.. وكان ما كان.. والفيلم يتجرأ على قول بعضه..
المستقبل اللبنانية في
27/12/2009 |