رحلة للبحث عن
الجذور
قيمة كبيرة تمثلها فعالية "بانوراما السينما الأوروبية" 16 – 22
ديسمبر 2009 التي تقوم عليها شركة مصر العالمية وشركة يوسف شاهين وشركاه
لمحبي السينما المختلفة، مهما تنوعت موضوعات الأفلام التي تقدمها وتنوعت؛
لكونها تجلب للقاهرة مجموعة من الأفلام المهمة ذات الإنتاج الحديث (2008 –
2009)، وتمنح محبي السينما فرصة حقيقة لمشاهدة هذه النتاجات، سواء ما ارتبط
منها بموضوعات الشرق والغرب أو أفلام اجتماعية وحتى كوميدية... إلخ.
البانوراما تعود هذه المرة بعد توقف دام سنوات خمس، ومع ذلك نراها
جلبت للمشاهدين أفلاما لم يقدر على جلبها مهرجان بوزن القاهرة السينمائي في
دورته الـ 33، إضافة إلى أن 6 أفلام (نصف أفلام البانوراما) هي لأفلام
شاركت في مهرجانات عالمية مثل: "كان" و"فنيسيا".
الحلم.. الكابوس
ومن الأفلام التي عرضت في المهرجان، واستوقفنا لموضوعه المثير، والذي
يتماس مع قضايا المسلمين في بلد أوروبي مثل هولندا، فيلم "دنيا وديزي" (
Dunya &
Desie)،
وهو من إنتاج عام 2008 للمخرجة "دانا نتشوشتان"، ومن تمثيل كل من "مريام
حسنوتي"، و"إيفا فان دو ويجديفان"، و"كريستين فان سترالن"، و"تيو ماسن"،
و"عزيز شتؤوفي"، و"كريم منير"، و"رشيدة إيالالا" وآخرون.
بداية علينا القول إنه لا يمكن فهم هذا الفيلم دون الوعي بظاهرة جديدة
تسم مجموعة كبيرة من الأفلام الأوروبية، وتحديدا تلك الأفلام التي يكون
فيها الحديث عن العلاقة بين الشرق والغرب أو أفلام الهجرة (الشرعية/ غير
الشرعية) أو الأفلام التي تتحدث عن المواطنة، وهي بمجملها أفلام تحاول أن
تقوم بدور خفي يعمل على الحد من هجرة المسلمين إلى الغرب عموما بعد تصاعد
نبرة الخوف والتخويف من الإسلام ومسلميه.
وهي ظاهرة أمكن رصدها من سنوات خمس أن لم نقل عشر أيضا، أي بعد أحداث
11 سبتمبر تحديدا؛ حيث يقدم الغرب على اختلاف دوله نقيض تصوراتنا النمطية
عنه، فهو بمثابة الحلم بالنسبة لنا، ومكان للتحقق والنجاح، وجمع النقود،
والعيش الرغيد، لكن هذه الأفلام تقول العكس، جهرا أو تضمنيا.
فيظهر في هذه الأفلام على أن هذه الدول/ الحلم لم تعد كذلك، فهي لا
توفر لمهاجريها ما يطمحون فيه، وتؤكد على صعوبات الاندماج، وأنها مجتمعات
مادية قاسية لا مجال فيها للحنان والعاطفة (على افتراض أنها سمات شرقية
بامتياز)؛ وبالتالي تقدم لمشاهديها الحالمين ما يخالف توقعاتهم، وتروج
لخطاب وتصورات معاكسة فتقول للحالمين: "وطنكم أفضل"، ولمن يعيشون بالحلم/
الكابوس: "من الأفضل لكم، ولكي تحافظوا على هويتكم عليكم العودة"، لتكون
مبشرة بهجرة معاكسة، أو موسما للعودة إلى الديار، أيا تكن هذه الديار، كما
هو الحال مع "دنيا وديزي".
غير أن ما يتميز به فيلم "دنيا وديزي" عن مجمل الأعمال الفنية التي
شاهدتها خلال السنوات الخمس المنصرمة هو تقدمه خطوة للأمام، فهو لا يقترح
من خلال أحداثه، وبطريقة فنية يحسد عليها، حقيقة حل العودة إلى المغرب؛
لتعيش الأسرة المغربية حياتها، وتحافظ على أصولها بعد 20 عاما في هولندا
فقط، بل يقدم لنا نموذجين: الأول لعائلة هولندية تعيش وتعمل في المغرب،
وعائلة أخرى نراها في نهاية الفيلم تخطط لمشروع الاستقرار في هذا البلد
الجميل!!، وبين هذا وذاك تفاصيل وأمور أخرى.
فيلم طريق
ينتمي "دنيا وديزي" إلى نوعية "أفلام الطريق" وهي نوعية من الأفلام
تعتمد في بناها الدرامي على رحلة أو سفر طويل، وفي الفيلم الهولندي نجده
سفرا طويلا ومدهشا، لكن داخل المغرب هذه المرة من فتاة هولندية "دنيا" ذات
أصول مغربية!! وصديقتها الهولندية "ديزي".
تضطر "دنيا" للعودة برفقة عائلتها للمغرب لتتزوج من ابن عمها "منير"
(بعد أن تتأكد العائلة من استحالة البقاء في هولندا؛ لأسباب أخلاقية، وخوفا
على ابنتهم وابنهم مهند)، وهو ما تقبله الفتاة الصغيرة على مضض وقلق من
"بعبع" عودتها، في حين تأتي "ديزي" للمغرب بحثا عن والدها الذي تركها بعد
أن أنجبتها أمها، تحديدا بعد أن علمت بخبر حملها من مدرب السياقة الذي رفض
الزواج منها.
خطان دراميان متقاطعان في كل لحظة ودقيقة هو ما يحرض الفيلم على
تقديمه، مأزق فتاة عربية/ مسلمة تهرب من نفسها/ ذاتها/ أو قل أصلها وفصلها،
وفتاة هولندية تبحث عن ذلك الأصل، معبرة عن مأزق غربي كبير تعيشه الفتاة
التي نراها عاجزة عن تربية "جرو" -كانت أمها ستهديها إياه- لتعيش في حالة
من التوتر والحيرة بعد علمها بخبر حملها.
الفتاة "ديزي" المكلومة من حملها ومن هجران حبيبها ستعيش ذات تجربة
والدتها في حال قررت الحفاظ على حملها، وهو ما يفجر أسئلتها حول والدها
"هانكز" الذي تركها مسافرا للمغرب ليعيش هناك متزوجا بأخرى، وأسئلة عميقة
أخرى عن جدوى وجودها في ظل هرب والدها من تحمل أعباء ولادتها الأخلاقية
والاجتماعية، وهو ما يتضاعف عندما تضطر والدتها إخبارها أنها لم تكن ترغب
بمجيئها للحياة (تكذي على ابنتها كي لا تعيش ذات معاناتها)؛ لذا تضطر للسفر
بحثا عن والدها لتطرح عليه السؤال الذي سيحدد مجرى حياتها وحياة جنينها،
وهو سؤال بسيط، لكنه إشكالي على الحياة الغربية ممثلا: هل كنت ترغب بي؟
بالنسبة لديزي فإن هذه السؤال سيظهر جدوى حياتها، وعن حقيقة وجود من
يهتم بها يومنحها مشاعر الحب والحنان، وهل وجد من الأصل من كان يرغب
بقدومها للحياة، وهي بتلك الحمولة من الأسئلة القلقة بعمر فتاة مراهقة
ترافق "دنيا" التي تهرب أيضا من عائلتها الراغبة بتزويجها من ابن عمها
(المعاق) بهدف حفاظها على هويتها. فتكون رحلة ديزي للبحث عن والدها فرصة
مثالية لذلك.
وخلال الرحلة التي تمر بظروف صعبة على فتاتين تزوران المغرب للمرة
الأولى، فتقعان ضحية مجموعة من المشاكل أثناء تنقلهما من مكان لآخر بحثا عن
والد ديزي المجهول.
أثناء الرحلة تقرر "ديزي" الحفاظ بجنينها بعد تردد وقرارات متضاربة
كثيرة بحسب الموقف الذي تمران فيه، لكنها في لحظة لقاء والدها (الذي يعمل
سائق شاحنة وتعيش أسرته في محطة بنزين واستراحة على طريق جبلي) تكتشف أنه
فعلا لم يكن يرغب بها.. لكنه كان دوما يفكر فيها ويتمنى رؤيتها، ويعترف لها
أن والدتها أصرت على قدومها للحياة، وهو ما يدفع بها إلى الإصرار على
الحفاظ على جنينها الذي تكتشف بعد فحصه أنهما توأمان.
فيما دنيا تصل لقناعتها بذاتها وبهويتها من خلال ذات الرحلة التي
تصلها إلى القلعة التي ترمز لهويتها المغربية/ العربية وهو ما يجعلها
تستحضر هدية والدتها التي تلقتها غداة عيد ميلادها الـ18، وهي ذات القلعة
المغربية القديمة لكن من خلال لعبة كرتونية كانت بنظرها في هولندا مصدر عبث
وإحباط وملل لكنها عندما تصلها بعد رحلة طويلة تستسلم لقدرها وحياتها الذي
جعل منها تعيش هذه السلسلة الطويلة من المفاجئات.
وهي قناعة تسندها مجموعة من نظرات الإعجاب التي تتبادلها مع شاب مغربي
حالم يحضر للبيت من أجل تشطيبه في دلالة على نمو قصة حب في الطريق.
مشاكل وجودية
الفيلم الجيد فنيا، والذي قدم أفكاره بطريقة غير تقليدية وبسلاسة
تستحق الشكر، استطاع أن يعبر بعمق عن مشاكل وجودية للفتاتين معا، برغم
اختلافهما الظاهري، لكنه استبطن فكرة تحدثنا عنها سابقا لو نظرنا إليها
بعمق لوصلنا لقناعة مفادها أنها لا تخدم المسلمين وتعايشهم في الدول
الغربية، إنما تقدم لهم حلا يتمثل بالعودة في ظل ما يحفل به الفيلم من صور
للاختلافات الثقافية بين ثقافتين واضح أنهما لن يلتقيا أو يتعايشا تارة، أو
أنهما يتعايشان تارة أخرى، لكن بشروط وظروف مختلفة، عندما نرى عائلة ديزي
الهولندية، والتي تحضر بحثا عن ابنتها تتعايش مع الأسرة المغربية، ويحتفلان
بقدوم الفتاتين بانتصارهما على نفسيهما وأسئلتهما القلقة على شاطئ بحر قرية
وديعة.
برغم رؤى المخرج التي ربما نختلف معها في ظل سياق الأفلام الأوروبية
العام، فإننا نعجب بالطريقة التي قدمت فيه المخرجة رؤيتها، سنشاهد مثلا
الأسرة المغربية تصل إلى مدينتها الساحلية في المغرب لتجد بيتها غير مكتمل
التشطيب، لكن وإن كان مزعجا، إلا أنه لا يقف حائلا أمام العيش فيه، برغم
نوافذ البيت البلاستيكية، والأرضيات التي ينقصها البلاط، وأمور أخرى؛ حيث
تتكيف الأسرة مع الوضع الجديد على أمل تعمير البيت وترتيبه في ظل وجود
الماء والكهرباء كما يقول الأب الذي يعد بتحويله إلى قصر، وفي ذلك إشارة أو
استعارة إلى طبيعة المشاكل التي قد تواجه العائدين إلى ديارهم بعد رحلة
اغتراب تطول أو تقصر، وكأن المخرجة تقول: "إنك لن تعود وتجد القصر مبنيا،
بل ستعاني قليلا في سبيل اكتماله".
تفاصيل كثيرة يقدمها الفيلم في سبيل خدمة فكرته والرؤية التي يحملها
ويقدمها للقارئ بسلاسة وخفة يستحقان الشكر عليهما، الحوار ذاته بين
الفتاتين، السرد البصري، الدراما، مفارقات ثقافتين... إلخ، إنه فيلم طريق
يعلمنا كيف يتغير البشر، وقبل كل ذلك كيف تصارعنا الأسئلة ونبحث عن إجابات
شافية تجعلنا نستمر بالحياة مهما اختلف المكان، وبأضعف الإيمان نجد أن
رسالة الفيلم تقول: إن من لا يقدرون على التعايش (بحسب المفهوم الغربي)
يمكنهم العودة، صحيح هناك كم كبير من المشاكل، لكنها على الأقل عودة تجلب
الراحة.. راحة ما تغري حتى الهولنديين أنفسهم بالارتماء في أحضانها، وهذا
نصر كبير!!.
ناقد فني ومحرر في النطاق الثقافي والفني في شبكة
إسلام اون لاين.
إسلام أنلاين في
23/12/2009 |