صنعت رجاء عماري هذه الأيام الحدث في المشهد الثقافي التونسي، لا لأنّ
شريطها «الدوّاحة» شهد عرضه الأوّل في تونس كشريط روائي تونسي وحيد خلال
هذا الموسم فحسب وإنّما اعتبر حدثا لأنه سبق عرضه في مهرجانات عربية
وأجنبية دولية وتحصّل على جوائز، وكذلك لأنه أثار جدلا من خلال طرحه
المختلف لأفكار تعتبر من المسكوت عنها، وأيضا لأنّ كاتبته ومخرجته امرأة،
تحدّثت عن أسرار المرأة الدفينة بتفاصيلها الصغيرة وعقدها الكثيرة وتعرضها
للاستغلال والقمع من طرف الآخر ومن الذات (قمعها لرغباتها وأحلامها قبل كلّ
شيء). كانت النبرة النسوية عالية وشديدة الوقع، أثارت حفيظة بعض النقّاد ـ
العرب منهم بصفة خاصة ـ الذين اعتبروا جرأته صادمة...
ومهما تفاوتت ردود الأفعال بين ما هو ايجابي وغيره، فانّ شريط «الدواحة»
يبقى في نهاية الأمر ابداعا تونسيا يضاف الى الخزينة السينمائية التونسية
بما فيه من جمالية الصورة وحرفية الأداء ونقاوة الصوت ودقة الكتابة
السينمائية...
حول «الدوّاحة» والتجربة السينمائية لمخرجته إلتقينا رجاء عماري فكان
هذا الحوار:
·
بين «الستار الأحمر» (2002) و«الدوّاحة»
(2009) أكثر من ست سنوات، هل كانت للتأمل أم للبحث عن فكرة مختلفة، أم أن
التمويل كان السبب في هذا الانتظار؟
سنة 2004 أنجزت شريطا وثائقيا «على آثار النسيان» وبعده كتبت نصّا
للمسرح ثم راودتني فكرة سيناريو ملحّة عن موضوع الهجرة. لكني لم أجد له
منتجا يموّله. في الأثناء كتبت سيناريو «الدوّاحة» وكان حظه أوفر لأنه وجد
التمويل مباشرة اثر الكتابة.
·
السيناريو كتب باللغة الفرنسية
وتجسيده تمّ بالدّارجة التونسية، هل ضاعت بعض التفاصيل وملامح الشخصيات في
الأثناء؟
أنا مزدوجة اللغة (فرنسية / عربية) وأجد نفسي أكثر دقة وميلا للكتابة
بالفرنسية. وأثناء كتابة الحوار بالدارجة التونسية لم تفقد الشخصيات شيئا
من مكوّناتها وتفاصيلها، بالعكس كانت العملية دقيقة وممتعة.
·
بعد انطلاق التصوير ذكرت أن فكرة
الشريط استقيتها من شخصيتين كنت تلتقيهما في الحديقة العمومية، استفزتك
عزلتهما وانغلاقهما على عالمهما الخاص، الى أي حدّ كانتا قريبتين من شخصيات
«الدوّاحة» راضية وعائشة والأم؟
المقـــاربة غير موجودة، لأنّي لم أعرف قصّة المرأتين فـي الحديقة، لم
أتجرأ على الاقتـــراب منهمــــــا، ولكـن حالـة الانغلاق على الـذات التي
كانتـا عليها استفـــزتني وكانت بمثابة الشــــرارة التي ولدت الفكرة
لكتابة شخصيــات الفيلم، راضية وعائشة والأم شخصيات متخيلة ولكنها يمكن أن
تتواجد في أي مجتمع عربي أو أوروبي أو أمريكي وغيره...
·
حالة قاعات السينما في تونس، هل
مازالت تغري السينمائيين على الانتاج؟
تقلّص قاعات السينما في تونس أصبح يمثّل مشكلة جدية لأنّ السينما
كمادة إبداعية اذا لم تجد الفضاء لتقديمها الى الجمهور فانّ صاحب الفيلم
يشعر بنوع من الإحباط، وعندما أعلموني أن الفيلم سيعرض في ثلاث قاعات فقط،
تفاجأت بالاضافة الى عائق آخر يتمثل في عدم توفر القاعات الموجودة على
التقنيات الحديثة للعرض السينمائي والفرجة المريحة والتكييف المركزي، وهو
ما يفسّر هروب جمهور السينما الى الأفلام المقرصنة، لمشاهدتها في البيت في
ظروف مريحة، لأنّه لم يجد ضالته في قاعة السينما.
وفي خضم كلّ هذا يبقى الأمل قائما في تحسين وضعية الفضاءات واعادة فتح
ما أغلق منها ليعود إليها الجمهور بشغف...
أمام تعدد الفضائيات وتفاقم ظاهرة القرصنة، أصبح الفيلم لا يجد مسالك
للعرض الاّ في المهرجانات السينمائية!
المهرجانات مهمة جدّا وجمهورها مختلف عن جمهور القاعات، لأنه يضم
النقاد والإعلاميين والمهتمين بالسينما عموما، وهؤلاء يمثلون الاختبار
الاول الذي يخضع له العمل الابداعي.
بالاضافة الى ان أهمية المهرجانات تتمثل في توفر بعضها على «سوق توزيع
الافلام» واذا كان الفيلم جيدا سيجد حتما مسالك لتوزيعه انطلاقا من
المهرجان الذي عرض به.
·
عرض شريط «الدواحة» في مهرجانات
مختلفة (عربية واجنبية) وتفاوتت ردود الافعال وتقاربت، كيف تقيمينها؟
الى حد الان كان التفاعل ايجابيا مع «الدواحة» جمهور المهرجانات فهم
الفيلم وما أردت إبلاغه من خلاله.
وقد تجاوبوا خاصة مع جمالية الطرح وكنا ـ كفريق عمل ـ مطمئنين لردود
الافعال.
بعض النقاد وجدوا الشريط جريئا نوعا ما، عند عرضه بمهرجان أبو ظبي.
وهذا المهرجان لم أكن أعرفه ولا أعرف كذلك بلدان الخليج التي عرضت
فيها لأول مرة لكن المفاجأة الكبرى كانت من جمهور تونسي مقيم بالخليج (وهو
قلة) اعتبر الفيلم صادما، يتحدث عن المجتمع التونسي وتركيبته، وأننني اقدم
صورة مشينة عن المرأة التونسية وأنا أتساءل أية إمرأة تونسية يقصدون؟
المرأة عندنا لها أوجه مختلفة، الريفية والحضرية / الجاهلة والمثقفة /
المنطلقة والمحافظة..
قلت إن قصة «الدواحة» وشخصياته متخيلة يمكن وجودها في أي مجتمع.. ولا
بد من رؤية الشريط من زاوية جمالية بحتة والحكم عليه من خلال الكتابة
والاخراج والتقنيات المستعملة وليس من زاوية تخضع صاحبه للمحاكمة.
كلما تحدثت المرأة العربية عن مشاكل المرأة اتهمت بالجرأة، بينما
يتسامح المجتمع مع الرجل المبدع ويتقبل انتاجه مهما كان طرحه.
كنت أقول ان هذا الرأي غير صحيح وفيه الكثير من المغالاة، لكن بعد
«الستار الاحمر» احسست ان المجتمع العربي يتقبل جرأة الرجل ـ كيفما صور
المرأة ـ ويتعامل بعكس ذلك مع المرأة، رغم ان المرأة في إبداعها تتعامل مع
المرأة ككائن إنساني لأنها الأقرب لتصوير مشاغلها وأحلامها وورغباتها وكل
تفاصيلها وتركيبتها...
هل تعتبرين الجدل الذي أثير في المهرجانات العربية بسبب بعض المشاهد
الجريئة ام بسبب طرح الموضوع النسائي البحت وتغييب الرجل؟
ـ لكل هذه الأسباب،أنا لا أستطيع الدخول في عقل الرجل وفي جسده لأتحدث
عنه، ومن اعتبر الفيلم جريئا لم يشاهده من الداخل بل اكتفى برؤيته من
الخارج.
والرجل في الدواحة كان حاضرا بالغياب فالاب كان ميتا لكن الحديث كان
يدور حوله في اغلب المشاهد وكذلك شخصية الزائر علي، رغم مروره العابر الا
انه شكل نقطة اساسية في احداث الشريط.
وعموما الجانب الغامض في الشخصيات يستفزني وأحب الاشتغال عليه، لان الرمزية
تبعث على التشويق.
اختيار حفصية حرزي لشخصية عائشة كان موفقا الى حد بعيد، رغم قلة
تجربتها استطاعت تجسيد دور يتطلب خبرة كبيرة في التمثيل والحياة ايضا، كيف
تم هذا الاختيار؟
ـ لا اختار الممثل انطلاقا من تجربته السابقة، وإنما لتوافقه مع
الشخصية المطلوبة، حفصية حرزي شاهدتها في معلقة «كسكسي بالبوري» واقترحت
عليها الدور قبل أن أشاهد الشريط، وقد اعجبتها شخصية عائشة خاصة وسنهما
متقارب.
نفس الشيء حدث مع سندس بالحسن وريم البنة ووسيلة داري، التجربة ليست
دائما عاملا مهما وأساسيا في اختيار الممثل وقد قضينا اسبوعا كاملا مغلقا
في دراسة الشخصيات والتحضير لها ورسم معالمها النهائية. وكان أسبوعا مفيدا
للتعارف عن قرب أثمر هذا الاداء المتقن للشخصيات.
أهمية التتويجات قبل عرض الشريط للجمهور العريض؟
ـ الفيلم تحصل على جائزتين: احسن صورة بمهرجان فالنسيا الاسباني
والجائزة الكبرى لمهرجان الفيلم والثقافات المتوسطية بباسطيا،
والجوائز تمثل دائما تشجيعا ومكافأة حقيقية لكل فريق العمل الذي كان
يتميز بحرفية نادرة يتعامل مع العمل التونسي بكل اريحية وجدية.
ماذا بعد «الدواحة»؟
ـ سأراقب عرضه في الوقت الحالي امام الجمهور العريض وأرصد ردود افعاله
على امل ان يحظى بإعجابه.. ثم قد أعود لأشتغل على السيناريو الذي ذكرته في
بداية الحوار عن الهجرة..
ألف ياء في
13/12/2009 |