بذلَ المخرج رومان بولانسكي جهدًا كبيرًا بغية تفكيك الرؤية
الهولوكوستية التي اعتمدها الخطاب النازي الألماني ضد اليهود البولنديين.
وقد تمكن هذا المخرج المُبدع من تقديم تحفة فنية لا تتخذ من المواقف
البطولية محورًا لها. فالموسيقار المُطارَد في حالة بحثٍ دائم عن ملجأ يلوذ
به، ولقمة يسد بها رمقه، لكنه يمارس لعبة التحرر والانعتاق بوساطة العزف
على آلة البيانو التي يستدعي من خلالها الأيام الجميلة التي تذكرِّنا بأن
الحياة تستحق أن تُعاش، وأن الشر مهما طالت أنيابه لا بد من أن ينهزم أمام
منطق التاريخ.
لندن: لم تُستنزَف المواضيع التي تتمحور حول المحرَقة النازية "الهولوكوست"
على الرغم من إنجاز "164" فيلمًا روائيًا، و "152" فيلمًا وثائقيًا حتى
الآن بحسب موسوعة "الويكيبيديا الحرة"(1). ويبدو أن فكرة القمع والاضطهاد
والابادة الجماعية القائمة على أساسٍ ديني سوف تظل قائمةً طالما أن هناك
أناسًا يفكرون بطريقة معوّجة تفتقر الى المنطق السليم، لأنهم يعتمدون
أساسًا على منطق القوّة، ولا يعيرون أدنى اهتمام لقوة المنطق، ورجاحة العقل
البشري القويم الذي يجب ألا يفرِّق بين الناس على أساس العنصر أو اللون أو
الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقد السياسي وما الى ذلك. غير أن نظرية
الحزب النازي كانت تؤمن بتفوق العنصر الجرماني وسموّه على بقية الأجناس
البشرية المبثوثة في مختلف أرجاء المعمورة. فلا غرابة أن يتمحور فيلم "عازف
البيانو" للمخرج البولندي رومان بولانسكي على هذه الفكرة الرئيسة، كما
يتطرق الى مَحاوِر أخرى لا تقل أهمية عن محور التمييز العنصري بكل الجوانب
المُشار إليها سلفًا والتي كانت تسعى لابادة اليهود والشيوعيين والمعارضين
للسلطة النازية والمثليين والمعاقين والعاجزين والغجر وبقية الأجناس التي
يعتقد الحزب النازي أنها دونية ولا تستحق أن تعيش!
من خلال تحليلنا لهذه التحفة السينمائية الموسومة بـ "عازف البيانو"
سنحاول أن نسلّط الضوء على التقنية الفنية التي استعملها رومان بولانسكي في
توظيف سيرته الذاتية وتطويعها لأنه تعرض الى بعض المواقف التي قد تتشابه
بدرجة أو بأخرى، مع ما واجهه الموسيقار البولندي فلاديسلاف شبيلمان الذي ظل
يتنقل من مخبأ الى آخر كي ينجو بجلده، ولا يواجه المصير المفجع الذي واجهه
الآلاف من اليهود البولنديين وغيرهم من ضحايا الحرب النازية المجنونة.
البنية الاستهلالية
ينطوي المشهد الافتتاحي للفيلم على استهلال شديد الدلالة والتعبير
حينما نشاهد فلاديسلاف شبيلمان "أدريان برودي" وهو منغمس في العزف على آلة
البيانو في إذاعة وارشو بينما تبدأ القوات الألمانية بقصف العاصمة
البولندية. فالقطعة الموسيقية التي كان يعزفها لم تكن عابرة، وإنما هي
واحدة من أشهر مقطوعات الموسيقار فردريك شوبان الحالمة وكأن المخرج يوحي
لنا بأن الموسيقى، على وجه التحديد، هي التي ستمّد شبيلمان بالقدرة على
المقاومة في ظل الظروف الاستثنائية من أجل العيش والبقاء على قيد الحياة.
بكلمات أُخَرْ، إن شبيلمان ليس بطلاً، وليس لديه النية لإدعاء البطولة أو
التظاهر بها. فهو عازف موسيقي ماهر يزاول مهنته ليل نهار، ويعيش من مردودها
المادي. وربما يكون "ذنْبه" الوحيد أنه وُلِد فوجد نفسه يهوديًا، يعيش وسط
أسرةٍ ميسورة الحال تجد نفسها دون سابق إنذار في وضعٍ شاذ لم تألفه من قبل
بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية وغزو الجيش الألماني لبولندا واحتلاله
للعاصمة وارشو التي تنطلق منها أحداث الفيلم المثير للجدل "عازف البيانو"
الذي يقاوم بطله شبح الموت المجاني، ومُختلف أشكال القسوة والعنف
بالموسيقى، والاصرار على الحياة.
تكمن أهمية المشهد الافتتاحي أيضًا في التعريف بشخصيتين أُخريين وهما
التقني الذي يسجل معزوفات شبيلمان وصديقته عازفة الجلو اللذين سوف يساعدانه
لاحقًا على الرغم من خطورة العواقب المترتبة على إيواء أي مواطن يهودي في
ظل الاحتلال النازي الذي يضع إبادة اليهود في مقدمة أولوياته الرئيسة.
فحينما يتقوّض سقف الاذاعة لا يجد شبيلمان بُدًا من التوقف عن العزف
ومغادرة المبنى الى بيته بعد أن يلتقي لقاًء خاطفًا مع صديقته دوروتا
"أميليا فوكس" التي تخبره بأن رأسه ينزف دمًا لكنه يتجاهل هذا الحادث
البسيط قياسًا لما ألمَّ بوطنه من دمارٍ كبير. في لحظة وصوله الى البيت
يكتشف حجم القلق الذي تعاني منه أسرته. فالكل متحلقون حول المذياع الذي يبث
بشكل متقطِّع أخبار الاجتياح النازي لبولندا، لكن الخبر الذي أذاعته الـ
"بي بي سي" هو الذي سيثلج صدورهم جميعًا مفاده أن بريطانيا العظمى وفرنسا
قد أعلنتا الحرب على ألمانيا النازية وأن الحرب ستكون خاطفة وتنتهي بوقت
قصير جدًا خلافًا لما يتوقعه عامة الشعب البولندي المُمتحَن.
تشظيات الثيمة
لقد اختار المخرج هذه العائلة كي تكون أنموذجًا للعوائل اليهودية التي
تعرضت للقمع والتعذيب والتهجير القسري والموت في المعسكرات النازية. غير أن
هذه الثيمة الرئيسة سوف تتشظى لاحقًا الى مواضيع عديدة، غير أن شبيلمان هو
الشخصية الوحيدة التي سوف تتمحور حولها الأحداث الرئيسة التي تشكل مسار
الفيلم. ثمة تفاصيل مهمة تطرَّق اليها كل فرد من أفراد العائلة على حدة.
فبعد أن قرأت ريجينا الخبر المنشور في إحدى الصحف والذي ينص على تهجير
اليهود من العاصمة وارشو الى معسكر "تربلينيكا" ارتبك الجميع بما فيهم
شبيلمان الذي وخَزَهُ الخبر، لكنه ردَّ على الفور بأنه "ليس ذاهبًا الى أي
مكان" ثم عززت أخته هيلينا "جاسيكا كيت مييّر" موقفه حينما قالت:"حسنًا.
وأنا أيضًا لستُ ذاهبةً الى أي مكان" ثم يخلص الى القول:"اذا كان عليَّ أن
أموت فأنا أفضِّل أن أموت في بيتي. أنا باقٍ في مكاني". أما الأم "مورين
ليبمان" فإنها لا تحتمل فكرة تفرّقهم على الاطلاق. وبينما هم يتهيؤون
للرحيل تنشب بين الأخوة الأربعة خلافات بسيطة على المكان الذي يجب أن
يخبّئوا فيه النقود الفائضة عن الحد الذي قررته القوات النازية لكل عائلة.
فالأخ الأكبر هنريك "إيد ستوبارد" يسخر من ربطة عنق شبيلمان. والأخت هيلينا
تسخر من أختها ريجينا المحامية التي تريد أن تفرض الهدوء والنظام حتى في
هذا الوضع المتوتر الذي يفتك بأعصاب الجميع.
حينما وصلت القوات السرية الوقائية "أس. أس" الى وارشو فرضت قوانين
جديدة على اليهود البولنديين من بينها وضع علامات قماشية على الأذرع اليمنى
مرسوم عليها نجمة داوود. كما صدرت قوانين أخرى مُجحفة تمنع تجوالهم في
المتنزهات وجلوسهم على المصاطب وسيرهم على الأرصفة كما كانوا يتعرضون الى
الاذلال والتحقير والازدراء من قبل أفراد القوات السرية. فالأب "فرانك
فنلي" كان يمشي على الرصيف مثل عامة الناس فيصفعه أحد الضباط النازيين لأنه
لم يرفع قبعته وينحني له، كما طلب منه أن ينزل من الرصيف ويمشي على الشارع
الذي تسير فيه العربات!
المُلاحَظ أن شبيلمان يلجأ الى العزف في كل موقف صعب يواجهه.
فالموسيقى هي ملاذه ومَطْهره في آنٍ معًا. بينما يمشي شبيلمان في أحد
الشوارع شبه الخالية يلفت نظره مشهد الطفل الذي يحاول الهروب من تحت جدار
الغيتو ويبدو أن هناك نازيًا يضربه على مؤخرته بقسوة مفرطة فيتقدم اليه
شبيلمان ويسحبه من ذراعية من فتحة الجدار وكأنه يخلّص جنينًا من رحم أمه،
غير أن هذا الجنين يولد ميتًا. ينحفر هذا الموقف التراجيدي في ذهن شبيلمان
وينضاف الى موسوعة همومه اليومية التي تتراكم في ظل الاحتلال النازي لبلده،
ولا يجد مَخرَجًا لهذه الهموم سوى العزف على آلة البيانو.
كثيرة هي المَشاهد المروِّعة التي رصدها المخرج لتعزيز البنية الفكرية
التي يقوم عليها الفيلم برمته. فعندما يدخل جوزيف بلوش، وهو أحد مجرمي
الحرب النازيين، الى شقة سكنية مقابلة لشقة عائلة شبيلمان ويأمرَ جميع
أفراد العائلة أن يقفوا فيما يظل أحد المُعاقين، وهو شيخ طاعن في السن،
جالسًا على كرسيه المُدولَب، يطلب من أفراد قوته السرية أن يلقوا الرجل
المُعاق من شرفة الطابق الثالث فيموت في الحال. أما بقية أفراد العائلة
الذين نزلوا الى الشارع فقد أمروهم بالابتعاد عن المكان وحينما أداروا
ظهورهم أطلقوا عليهم وابلاً من الرصاص ثم تمر العجلة العسكرية على أجسادهم
التي لم يفارق بعضها الحياة بعد فكان أنينهم يمزق نياط قلوب المشاهدين
الذين انتقلوا من فعل المشاهدة الى فعل المشاركة في صناعة الحدث والتعاطف
مع الضحايا الأبرياء الذين يُقتلون بدم بارد.
مَشاهد القتل الوحشي تتكرر عشرات المرات في الفيلم لكنها توحي، في
واقع الحال، أنها حدثت آلاف المرات، هذا ناهيك عن الموت الجماعي سواء في
غرف الغاز أو بواسطة وسائل بربرية لا تمّت الى الجنس البشري بصلة.
كانت القوات النازية تبني الحواجز في العاصمة ثم تعززها بالأسلاك
الشائكة كي تحجز اليهود البولنديين في غيتوات معزولة. لابد من الاشارة الى
وسائل التحقير التي كانت تمارسها القوات السرية "التي بلغ تعداها مليون فرد
قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها" ضد اليهود البولنديين
المغلوبين على أمرهم، إذ كانوا يأمرونهم بالرقص أمام نقاط التفتيش
ويحولونهم الى أضحوكة يتسلون بها وكأن كل القوانين المجحفة التي صدرت بحقهم
لم تكن كافية ليمارسوا عليهم هذا النوع من السخرية القاسية التي تحّط من
كرامتهم الانسانية. وعلى الرغم من هذه القسوة الفادحة فإن العملاء
والمأجورين والخونة موجودون على الدوام، ولا يجدون ضيرًا في إغراء بعض
اليهود واستدراجهم بُغية التطوّع لتقديم خدماتهم الى القوات النازية غير أن
هنريك يرفض هذا العرض جملةً وتفصيلاً، بل أن العائلة كلها لا تحبِّذ الخوض
في فكرة خيانة الذات والاصطفاف الى جانب عدوٍ مغتصب سيزول إن عاجلاً أم
آجلا. ومع ذلك فإن هنريك يبدو منفعلاً ومتذمرًا على الدوام فلا غرابة أن
يُساق الى السجن الذي لن يخرج منه إلا بعد تدخِّل أخيه لدى بعض الأصدقاء
الذين يعرفهم في سلك الشرطة.
ثمة مشهد مؤثر، يبدو أن المخرج وكاتب السيناريو قد درساه بعناية فائقة
وعرفا مسبقًا تأثيره على الجمهور، وهو مشهد صراع رجل جائع "أميليو
فرنانديز" مع امرأة " صوفيا تشيرفينيسكا" تحمل وعاءً من الشوربة، ونتيجة
الشد والجذب تنسكب الشوربة على إسفلت الشارع فيتمدد الرجل الجائع ويلعقها
بنهمٍ كبير فيما تنهال عليه المرأة العجوز بضربات يائسة ثم تمضي في طريقها
الى البيت خالية الوفاض.
الترحيل القسري
بدأت عمليات دهم منازل اليهود البولنديين بغية الترحيل القسري في
الخامس عشر من مارس 1942. وقد حدثت في أثنائها العديد من الفظائع والأعمال
الوحشية إذ كانوا يسحبون بعض الناس بشكلٍ عشوائي من الطوابير المتهيئة
للرحيل ويطلقون الرصاص على رؤوسهم. وربما يتذكر المشاهدون الرجل الأخير
الذي أُطلق عليه النار لكن المسدس كان فارغًا، وكنا نتوقع أن المصادفة هي
التي أنقذته من موت محقق، لكن الضابط وضع في مسدسه شاجورًا جديدًا وأطلق
رصاصة واحدة نفذت في رأسه الأصلع ليفارق الحياة بأسرع من لمح البصر.
كان اليهود البولنديون يدركون جيدًا أنهم سوف يواجهون مصيرًا مُفجعًا
في معسكرات الاعتقال ومع ذلك فكانوا يحملون في حقائبهم بعض الأشياء الثمينة
التي يعتزون بها طالما أن القوانين النازية كانت تسمح لكل فرد أن يحمل معه
خمسة عشر كليوغرامًا من الحاجيات الأساسية. هكذا ظل اليهود المُساقون الى
معسكرات الاعتقال يحلمون بالنجاة على الرغم من بشاعة الموت الذي يطوّقهم من
كل حدب وصوب. بعد مرور خمسة أشهر من العام ذاته تقع أحداث قتل رهيبة تضفي
على العاصمة الخربة مناخًا سوداويًا كئيبًا. وفي مكان التجمع ثمة أمٍ تبحث
بشكل مسعور عن قطرة ماء لرضيعها العطشان. وسط هذا الجو الحزين نلمح بارقة
أمل حينما نشاهد هيلينا وهنريك وهما يلتحقان بعائلتهما في مشهد انفعالي
يحرك العواطف الانسانية، وكأن هذا المشهد يمنح المتلقين فرصة لالتقاط
الأنفاس وسط هذه الموسوعة البصرية من المواقف التراجيدية المحزنة. من
المواقف المدروسة وغير العابرة أيضًا أن قطعة الشكولاته قد وصل سعرها في
هذه الظروف الاستثنائية الى عشرين زلوتيًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.
ومع ذلك فإن الأب يشتري قطعة الشكولاته ويقسمها بالتساوي على أفراد أسرته.
قطار الموت والمدينة المهجورة
يختصر مشهد القطار المُخصص لنقل الماشية طبيعة الحكم النازي الذي
يحتقر الجانب الانساني لدى بقية القوميات والأديان. فها هو الجيش النازي
يحّط من شأن اليهود كبشر ويعاملهم معاملة "الحيوانات" تمامًا، إذ يحشرهم
حشرًا في عرباتٍ ضيقةً لا تحتمل هذا العدد الكبير من الناس. ونتيجة
الارتباك الذي يحدث في مثل هذه الظروف الشاذة والتي تشجع النازيين على
التمادي في غيهم فقد رأينا العديد من المَشاهد المرعبة مثل ضرب رجلٍ كبير
بأخمص البندقية أكثر مرة حتى فارق الحياة على الفور. وحينما غادر القطار
الممتلئ عن آخره، رأينا العديد من الجثث المُلقاة فوق الرصيف الترابي الذي
بدا مثل ساحة معركة توقف فيها القتال توًا. يذكرِّنا هذا المشهد المؤسي
ببقية المشاهد المماثلة للمدينة غير أن ما يميز هذا المكان عن غيره هو وجود
شبيلمان الذي سحبه صديق قديم للعائلة يُدعى اسحق هيللر "روي سمايلز"،
البوليس المتعاون حاليًا مع القوات النازية. وعلى الرغم من صرخات شبيلمان
التي ذهبت أدراج الرياح إلا أن صف العسكر الطويل حالَ بينه وبين ذويه، ولم
يجد بُدًا من العودة الى المدينة الموحشة التي تكتظ أزقتها بجثث الضحايا
الأبرياء المبثوثين وسط أكداس عشوائية من مخلفات المدينة المقوّضة. يتجوّل
شبيلمان في أزقة المدينة مذهولاً يحدِّق بجثث القتلى تارة، ويبحث عن ملاذٍ
آمن تارة أخرى. فيناديه صوت ينطلق من مخبأ في باطن الأرض فينحشر معه على
أمل الخروج بعد انفراج الأزمة. ينضم شبيلمان الى وحدة إعمار وارشو، لكنه لم
يتفادَ العقوبات القاسية التي قد ينزلها به أي جنديٍ نازي إذا ما اقترف
خطأً بيسطًا. ذات مرة أسقطَ شبيلمان بضعة طابوقات من مكان مرتفع فأمرَهُ
أحد جنود القوة السرّية بالنزول وألهبَ جسده بالسوط حتى أُغميَ عليه ولم
يفِق من اغماءته حتى رشقوه بدلو من الماء.
مقاومة الاحتلال النازي
تتكرر المَشاهد المروِّعة في معظم الأفلام التي اتخذت من موضوع
الهولوكوست محورًا لها. وقد حدثت بعض من هذه المشاهد المؤلمة أمام عيني
شبيلمان الذي بدأ يقتنع بفكرة مقاومة المحتل التي زرعها في ذهنه أحد
أصدقائه العاملين في وحدة الاعمار، خصوصًا وأن معظم اليهود يعرفون بالخطط
النازية المرسومة لابادتهم جميعًا لذلك ينخرط في المقاومة السرية عدد غير
قليل من اليهود الذين يبدؤون بتهريب الأسلحة والدخائر الحية الى داخل
الغيتو. هكذا بدأ شبيلمان بتهريب المسدسات والعتاد في أكياس البطاطا وأوشك
أن يقع في الفخ حينما جاء أحد الجنود النازيين وطلب من شبيلمان لاصقًا
طبيًا لإصبعه المجروح وكان قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الأسلحة المهربة.
إن الاهانات المتواصلة والضرب المبرح والقتل المجاني هو الذي دفع
شبيلمان للهروب من الغيتو مفضلاً الانتقال من مخبأ الى آخر كي ينجو بجلده
من الموت المحقق على أيدي النازيين.
تبدأ رحلة شبيلمان في الاختباء بمساعدة عدد من أصدقائه القدامى بضمنهم
صديقته عازفة الجلو التي تعرّفه على زوجها الذي ينقله الى مخبأ مؤقت ينام
فيه ليلة واحدة خلف مكتبة خشبية متحركة ثم ينتقل الى شقة ثانية ويتعرف الى
صديقه التقني الذي كان يعمل معه في إذاعة وارشو لكنه لم يتذكره في الحال
نتيجة الضغوط النفسية التي كان يعانيها خلال مراحل الاختباء. وتحسبًا لأي
طارئ فقد أعطاه صديقه عنوانًا احتياطيًا قد يلجأ اليه في أي ظرف اضطراري.
يراقب شبيلمان من داخل شقته الفظائع التي يرتكبها الجيش النازي بحق
اليهود البولنديين وكأنَّ المخرج أراد له أن يكون شاهدًا على هذا العصر
المزري الذي تتسيّد فيه النازية وتقوم بالتصفيات، وعمليات القتل الجماعي،
ودهم المنازل، وحرق الجثث المكدسة في الأزقة الداخلية. فلا غرابة إذًا
حينما نرى مواطنًا محترقاً يلقي بنفسه من الطابق الثاني لشقة سكنية اندلعت
فيها النار.
وقبل أن ينتهي هذا المشهد المروّع نرى عملية قتل جماعية، إذ يصفّون
بعض المقاومين أمام جدار البناية ويطلقون عليهم النار بكثافة شديدة.
ينطوي الفيلم على إدانة واضحة لبعض البولنديين الذين آزروا النازيين
وكانوا يبلّغون عن أي مواطن يهودي تقع عليه أعينهم. فبينما كان شبيلمان
يبحث عن بقايا طعام يسد به رمقه وقعت أطباق الطعام وأحدثت صوتًا مدويًا وصل
الى أذني الجارة المتعاطفة مع النازيين فطلبت منه الخروج والكشف عن هويته
الشخصية لكنه تخلص منها بأعجوبة بعد أن ملأت البناية ضجيجًا بأنها اكتشفت
يهوديًا مختبئًا الى جوار شقتها.
وسط جوٍ شتوي قارس البرودة يفر شبيلمان باحثًا عن مخبأ جديد وهو
يواصل مشروعه الذي يقتصر على التحمّل والصبر ومحاولة البقاء على قيد الحياة
في ظروف صعبة وقاسية ومتقشفة. وقد صادف أن يكون مخبأه الجديد قرب مستشفى
ومركز شرطة ألمانيين. المكان لا ضوضاء فيه، وربما يخيّم الهدوء على الحي
كله. وفي منزله الجديد بيانو كبير الحجم. الثلج يتساقط والجو يزداد برودة
الى الدرجة التي لا ينفع معها التلفع بالأغطية الثقيلة. وصديقه التقني يجلب
له بين أوانٍ وآخر زجاجات الفودكا، لكنه بات يحتاج الى النقود لاقتناء
المشروبات الروحية التي تبعث الدفء في ثنايا جسده. ينزع شبيلمان ساعته
اليدوية ويعطيها لصديقه التقني كي يبيعها ويشتري بنقودها كحولاً له مفعول
السحر في هذا الظرف المؤسي. القوات الروسية تتقدم وتقصف برلين وهامبورغ
وغيرها من المدن الألمانية. تتضاءل مؤونته ثانية ولم يبقَ أمامه سوى حبّة
بطاطا ذابلة. تزوره صديقته وزوجها فتكتشف أنه مريض باليرقان ومصاب بسوء
التغذية فتعمل له كمّادة باردة تضعها على جبينه ثم يطلبان له طبيب "أطفال"
يثقون به فيفحصه ويحاول أن يجلب له بعض الأدوية المناسبة.
تتحسَّن صحة شبيلمان، وما إن يلتقط أنفاسه حتى نكتشف أن المقاومة أخذت
تصعِّد من هجماتها وأصابت عددًا من الجنود النازيين غير أن الممرضات سارعن
الى اخلائهم بسيارات الاسعاف في الحال. وحينما امتدت النيران الى مركز
البوليس فقد النازيون صوابهم وأخذوا يطلقون النار على المدنيين الأبرياء
الذين مروا من هناك وأردوهم قتلى. وربما يظل منظر المرأة الراكضة التي
أُصيبت بطلقٍ ناري في ظهرها وانكبّت على وجهها، عالقًا في أذهان المشاهدين.
وحينما تأتي دبابة وتوجِّه ماسورتها صوب بعض الشقق السكنية وتبث الدمار في
أرجائها يقرر شبيلمان الهرب من هذا المخبأ لكي ينجو بجلده ويواصل حياته
بإصرار عجيب.
تندلع الاشتبكات في الأزقة والشوارع التي ترصدها عدسة المصور البارع
ليخلق منها بولانسكي تحفة فنية تنطوي على مختلف أشكال الاثارة والتوتر
والترقّب. وفي أثناء عبوره لأحد الشوارع الفرعية يشاهد من مسافة غير بعيدة
كردوسًا من النازيين فينبطح على الأرض على مقربة من إحدى الجثث، وحينما
يبتعد الكردوس ينهض مواصلاً هربه من هذا المكان الخطير. وبينما هو يبحث عن
أي شيء يؤكل كان الجنود النازيون يجمعون جثث الضحايا الأبرياء ويحرقونها في
الأزقة وهم يتناولون الطعام. يقضي شبيلمان وقتًا غير مريح في بناية مهدمة،
لكنه كما عوّدنا دائمًا يلتجأ الى العزف في الظروف الصعبة التي تلّم به،
غير أنه الآن يعزف بأنامله الرهيفة على بيانو وهمي.
يستفيق على صوت قاذفات اللهب التي يصوِّبها الجنود النازيون الى أعماق
المنازل ويشعلون فيها النار. ومع ذلك فقد نجا بأعجوبة من ألسنة النيران
المحرقة متفاديًا إياها مثل جندي مُدرَّب. يهرب من خلف البناية الضخمة
المحترقة الى حي خلفي مهدّم يشي باليأس المطلق والخراب التام الذي يذكِّرنا
بالأرض اليباب تمامًا. يتسلق أكثر من جدار ويهبط غير مرة فتُصاب قدمه بآلام
شديدة تحُّد من سرعة حركته.
يلج في أحد القصور المهجورة من ثغرةٍ مفتوحة في أسفل الجدار،
وكالعادة، يفتش أرجاءه باحثًا عن بقايا طعام. وما أن يقع بصره على علبة
مخللات بولندية ويحاول أن يفتحها فتسقط وتتدحرج على الأرض حتى يكتشفه نقيب
في الجيش الألماني النظامي ويسأله:
"- من أنت؟
- . . . . .
ثم يسأله ثانية:
- ماذا تفعل هنا؟
فيرد بهلع شديد:
- كنت أحاول أن أفتح العلبة".
وحينما يمضي النقيب في أسئلته الاستيضاحية يقول شبيلمان أنه عازف
بيانو. وبالمصادفة كان هناك بيانو ضخم جدًا فيطلب منه النقيب أن يعزف له
بعض الموسيقى. وكأي عازف محترف يبدأ شبيلمان بعزف واحدة من معزوفات شوبان
الشهيرة التي تخلب لب النقيب فيتعاطف معه ويعامله معاملة إنسانية راقية. من
هنا يمكن القول إن رومان بولانسكي لم يكن يتهم كل الجيش الألماني، وإنما
كان يفرِّق بين النازي والمواطن الألماني العادي حتى وإن كان ضابطًا في
الجيش النظامي.
تدور محادثة قصيرة بين النقيب هوزنفيلد "توماس كريتشمان" وبين شبيلمان
الذي يطمئن تمامًا في خاتمة المطاف حيث يقول له النقيب:
" - هل أنت مختبئ هنا؟
فيأتيه الرد المقتضب:
- نعم.
-هل أنت يهودي؟
فيجيب:
-نعم".
ثم يدلّه على مكان اختبائه في العلّية. يسأله إن كان لديه طعام فيريه
علبة المخللات التي حاول أن يفتحها. تأخذ علاقة شبيلمان بالنقيب الألماني
طابعًا انسانيًا عميقًا يتجاوز حدود التعاطف الانساني العابر. فعلى الرغم
من المسؤوليات الكبيرة المُناطة بالنقيب الذي يتعرض جيشه لهجمات متواصلة من
قبل القطعات الروسية المتقدمة التي أوشكت أن تدخل العاصمة البولندية وارشو،
إلا أنه يضع هذا العازف الموسيقى في نصب اهتاماته ويجلب له الطعام بين آنٍ
وآخر. وحينما تنسحب القطعات الألمانية من وارشو يعطيه كمية كبيرة من
الطعام. وأكثر من ذلك ينزع معطفه العسكري ثم يسأله عن إسمه لكي يستمع له
لاحقًا إذا ما سارت الأمور على ما يرام فيرد عليه "شبيلمان". يحفظ النقيب
هذا الاسم في ذاكرته. يرتدي شبيلمان المعطف العسكري من دون أن ينزع عنه
رتبته العسكرية وحينما تتقدم طلائع الجيش البولندي لتفرض سيطرتها على وارشو
يرى بعض الجنود شبيلمان فيظنونه ضابطًا ألمانيًا، لكنه يصرخ بأعلى بانه
بولندي ولكنه ارتدى هذا المعطف بسبب البرد القارس فيتركونه وشأنه.
يقع النقيب الألماني هوزنفيلد في الأسر وحينما يمر عازف الكمان بجانب
معسكر الأسر المسيّج بالأسلاك الشائكة يلتمس منه النقيب أن يخبر شبيلمان
بأنه وقع في الأسر علّ هذا الأخير يساعده ويبذل جهدًا لاخلاء سبيله.
وبالفعل يعود شبيلمان وعازف الكمان الى معسكر الأسر نفسه لكن بعد فوات
الأوان، إذ تمّ نقل الأسرى الى مكان آخر ولم يستطع أن يرّد جميل النقيب
الذي تعاطف معه وعامله معاملة إنسانية رائقة تليق به كإنسان متحضر.
في المشهد الأخير نرى شبيلمان يعزف ضمن الفرقة السمفونية معزوفةً
لشوبان في حفل كبير وباذخ. ثم نرى على الشاشة معلومة توثيقية تقول بأن
"فلاديسلاف شبيلمان" قد واصل حياته اليومية في وارشو حتى وفاته في السادس
من تموز "يوليو" 2000. وكان عمره آنذاك 88 سنة. أما النقيب الألماني
هوزنفيلد فقد توفي في معسكر أسرى الحرب السوفياتي عام 1952.
خلاصة البحث
كشف المخرج البولندي "المولود في فرنسا" رومان بولانسكي عن الفظائع
التي ارتكبتها وحدات النخبة النازية "أس. أس" ضد اليهود البولنديين، على
وجه التحديد، وضد الشعب البولندي بصورة عامة بعد الاجتياح المروِّع للعاصمة
البولندية وارشو. وقد اعتمد بولانسكي على رؤيته الاخراجية الفذة التي
جسّدت مجازر النازية وجرائمها بلغة بصرية قلّ نظيرها تراوحت بين التصوير
الواقعي والرمزي لأبرز الأحداث الجسام التي مرّت على يهود بولندا بشكل عام،
وعلى شخصية الموسيقار البارع فلاديسلاف شبيلمان بشكل خاص بوصفه أنموذجًا
للإنسان المثقف، والعازف الموسيقي مرهف الحس. وعلى الرغم من سلسلة المخاطر
التي واجهها هذا الموسيقار الكبير إلا أنه نجح في نهاية المطاف في إنقاذ
نفسه، وكأنه ينقذ لنا شريحة واسعة من الفنانين والمثقفين المبدعين
البولنديين من براثن النازية التي كانت تهدف الى إبتلاع بولندا، وإبادة
اليهود البولنديين.
تجدر الاشارة الى أن قصة الفيلم لها علاقة وطيدة بالمخرج رومان
بولانسكي. فقد هرب من غيتو "كراكوف" حينما كان طفلاً صغيرًا، وإنتهى به
المطاف في مخزن للحبوب في مزرعة بولندية. وظل مختبئًا هناك حتى نهاية الحرب
العالمية الثانية. فلا غرابة أن يقوم بولانسكي بتمويل الفيلم بالكامل، لأنه
يعتبر هذا الفيلم تحديدًا قضيةً شخصيةً بحتة تتعلق بمصيره كانسان وفنان
مبدع.
يبدو أن بولانسكي قد اعتمد على هذه الواقعة وإتخذ منها بؤرة للأحداث
التي تشظت لاحقًا بعد أن دمجها بأغلب الوقائع والأحداث الرئيسة التي مرَّ
بها الموسيقار فلاديسلاف شبيلمان، أنموذج الفنان المرهف والمثقف العميق
الذي يُدرك أهمية المبدع الذي يستطيع أن يقاوم النازية في أوج عنفها وذروة
وحشيتها. فالفنان المبدع من وجهة نظره يجد نفسه منسجمًا مع مقولة أرنست
همنغواي الشهيرة بأن :"الانسان لم يُخلَق للهزيمة. ممكن أن يتحطّم الانسان،
ولا يمكن هزيمته".
أدان بولانسكي كل الأعمال الوحشية التي إرتبكتها القوات النازية في
بولندا، ولكنه ظل يميّز بين الجندي الألماني العادي وبين عناصر الـ "أس.
أس" أو الـ " شوتز شتافل" الإجرامية التي أدانها إدانة واضحة لأنها كانت
تنتهك كل القيم الأرضية والسماوية. فلا غرابة أن يتعاطف المشاهدون مع
النقيب الألماني الذي عامل شبيلمان معاملة إنسانية راقية.
لقد فكّك بولانسكي الرؤية الهولوكوستية الشريرة التي اعتمدها الجيش
النازي وأكد على فشلها وإندحارها أمام قوى الخير التي تمثلت بإنسان أعزل لا
يمتلك غير الموسيقى في الدفاع عن نفسه.
وفي الختام لابد من التنويه الى أن هذا الفيلم قد حصد العديد من
الجوائز العالمية التي انتصفت للمخرج والمصور وكاتب السيناريو والممثل
الرئيس والتقنيين البارعين. إذ نال الفيلم ثلاثة أوسكارات لأفضل مخرج،
وأفضل ممثل، وأفضل كاتب سيناريو. كما نال المخرج جائزة السعفة الذهبية.
إضافة الى جائزتي "بافتا" وست جوائز "سيزار" ذهبت بعضها لأفضل موسيقى،
وأفضل صوت، وأفضل معالجة سينمائية. كما تتوّج الفيلم بجائزة "غويا" لأفضل
فيلم أوروبي. فلا غرابة أن يصنفه النقاد بالتحفة السينمائية التي تستحق أن
تكون ضمن قائمة كلاسيكيات السينما العالمية.
إحالات:
*رومان بولانسكي ممثل ومنتج ومخرج بولندي. هربت عائلته إثر احتلال
القوات النازية لبولندا حيث تم اعتقال أمه في معسكر أوسشفايتس سيء الصيت ثم
لقيت حتفها هناك. أما والده فقد نجا بأعجوبة. فيما سُلِّم رومان لعائلة
فلاحية بولندية خبأته في حضيرة أبقار خشية أن تعتقله القوات النازية في
أثناء عمليات الدهم التي كانت تشنها بين أوانٍ وآخر. أخرجَ بولانسكي نحو
"30" فيلمًا من بينها "قاتل، رجلان وخِزانة، المصباح، عندما تسقط الملائكة،
المشعوذات الجميلات، سكين في الماء، مأساة ماكبث، الحي الصيني، المستأجر،
القراصنة، الموت والعذراء، البوابة التاسعة، أوليفر تويست وكل له سينماه
الخاصة". تزوج ثلاث مرات وزوجاته على التوالي بربارة لاس، شارون تيت
وإيمانويلا سينر. وقد قبضت عليه السلطات السويسرية على خلفية اعترافه
لمحكمة أميركية بأن اعتدى جنسيًا على فتاة قاصر. وقد أُخلي سبيله بكفالة
قدرها "4.5 " دولار أميركي لكنه يخضع للاقامة الجبرية ولنظام المراقبة
الإلكترونية.
1-
http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_Holocaust_films
إيلاف في
04/12/2009 |