موهبة فطرية سخرتها
العناية الإلهية لصنع النجوم وبناء عروش المجد..
ترجمة دقيقة للدنياعندما تعطي
وتمنح ومتحدث رسمي باسم نفس الدنيا عندما تأخذ وتمنع..
نموذج جديد لعظماء منسيين
ومشاهير لا يعرفهم أحد.. إنه المعلم صديق أحمد
أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً
مضت علي آخر ليلة عرض مسرحي كان بطلها المعلم صديق أحمد،
وإذا شئتم الدقة فقد
كانت ليلة السادس عشر من أكتوبر عام
٦٥٩١..
العرض المسرحي الأخيروالذي كان
حقيقياً من غير تمثيل شهدت أحداثه الدرامية
غرفة كئيبة مظلمة بأحد الفنادق
المتواضعة التي اشتهر بها شارع »كلوت بك«.
هاهو الخادم يعاود طرق الباب المغلق
من الداخل للمرة العاشرة خلال الساعات الأخيرة دون أن يجيبه النزيل العجوز
الذي
تجاوز السبعين.
مخاوف الخادم سرعان ما نقلها إلي صاحب
الفندق ومنه إلي رجال
البوليس الذين اعتادوا تلك الحالة في فنادق الحي.
عندما فتحوا الباب بالقوة وجدوا
الرجل الذي ملأ الدنيا مخبأ طوال أكثر من نصف قرن مستلقياً ومستسلماً للموت
بهدوء شديد منذ أكثر من يوم كامل.
إجابات الأسئلة التي وجهها ضابط البوليس
للحاضرين لم تسفر عن معلومات تساعده في العثور علي أهل للرجل
يتسلمون جثمانه حتي
يستطيع أن ينهي المحضر ويتفرغ
لبقية أعماله،
فهو ليس في حاجة إلي هذا العجوز
المجهول الذي يصفه الجميع بأنه كان »علي باب الله«.
الغرفة شبه الخالية لم
تكن في حاجة إلي مجهود من أي نوع لتفتيشها فكل محتوياتها حقيبة متهالكة
تكاد أن
تكون فارغة عندما قلبها الضابط اندهش لوجود صورة تحية كاريوكا بها وعليها
رقم
تليفون سارع بالاتصال به ليكتشف أنه تليفون النجمة المشهورة في
كلمات سريعة معتذرة
حكي لها القصة.
ثوان من الصمت أعقبها ما يشبه النواح ثم صوت الكوكب اللامع
تقول
في عزيمة الرجال »نعم أعرف أهله..
كل النجوم الذين تسمع عنهم وأولهم أنا
أهله..
دقائق وأحضر لاستلامه ودفنه في مقابر أسرته«.
تعديل الخطط
خمسون
عاماً من النجاح ومتعة اكتشاف النجوم أو علي الأقل إعادة تلميعهم وتقديمهم
كما
ينبغي.. نصف قرن عاشه بين قوسين أولهما منيرة المهدية وآخرهما عبدالحليم
حافظ.
هذا هو صديق أحمد الذي جاء إلي القاهرة عندما كان في العاشرة
كواحد من آلاف
الصعايدة الفقراء الذين تقذف بهم الحاجة ولقمة العيش إلي المحروسة في
نهايات القرن
التاسع عشر. مضت سنوات قلائل تقلب خلالها الصبي الذكي في عشرات الأعمال
لمجرد كسب
لقمة العيش ومع ميلاد العام الأول للقرن العشرين استقر أخيراً
كعامل لصق إعلانات
للفرق المسرحية التي تعاقدت معها مطبعة الرجاء التي عمل بها. كثيراً ما كان
يمر
عليه أصحاب الفرق أو مديريها لمتابعة إعلاناتهم وهو ما أتاح له التعرف علي
رموز
الفن حينذاك ومناقشتهم في تعديل الأماكن التي حددوها مسبقاً
للإعلان. الشاب »البصمجي«
الصغير كانت له آراء جريئة كثيراً
ما أقنعت الطرف الآخربأن يغير
خطته الدعائية.. دعوات مجانية كثيرة كانت تنهال عليه لحضور عروض الفرق
وحفلات
كبار المطربين والراقصات.
بدقة مذهلة كان يتابع هذه العروض ونسبة الإقبال عليها
ويحلل أسباب هذا الإقبال-
أو العزوف- ويسجله في دهاليز عقله الاليكتروني
الجبار. بعد عام واحد من عمله-
وكان لم يكمل العشرين-
تأكد أن نجاح الفرقة أو
المطرب يقوم في الأساس علي خطة دعاية جيدة يتولاها منها حفلات متمكن من
عمله وهي
وظيفة جديدة وضع بنفسه إطارها العام وكان أول من أداها بنجاح
ساحق.
الرحلة
كانت بدايات صديق أحمد العملية هي تعاقده مع بعض الفرق
متواضعة أو علي الأكثر متوسطة الشهرة ونقلهم من الأماكن والمسارح البسيطة
التي
اعتادوا العمل فيها إلي أماكن أكثر رقياً
وشهرة في الأزبكية وعماد الدين الناشئ
مع تكثيف ومضاعفة الملصقات الدعائية المصاحبة لعروضهم، وقد أسفرت هذه الخطة
عن
بعض النجاح ولكن القمة التي احتلها كمتعهد حفلات أوحد ومفتاح لنجاح ومجد
الآخرين
كانت بعد ذلك ببضع سنوات عندما بلغ الخامسة والعشرين تقريباً
أي في عام ٠١٩١
عندما أقنع منيرة المهدية أن تتعاقد معه علي مجموعة من العروض، ولم تكن
»الست
منيرة« في حاجة إلي المزيد من النجاح أو الشهرة، ولكن المعلم صديق تمكن من
مضاعفة مكاسبها-
ومعها مكاسبه- أكثر من خمسة أضعاف ما اعتادت عليه وذلك من خلال
حملة دعاية لم يعرفها الشرق من قبل غطت سائر صحف ومجلات القاهرة مثلما
غطت سائر
جدران أحيائها الوطنية والأفرنجية الحديثة.
تكررت الخطة وتضاعف النجاح مع نجوم
متوسطي الشهرة وقتها مثل جورج أبيض وعلي الكسار ثم يوسف وهبي ومحمد
عبدالوهاب الذي
ابتكر له لقب مطرب الملوك والأمراء،
كما كان أول من تنبه لتفرد وعظمة صوت الصبية
الريفية أم كلثوم مثلما كان أول من تنبأ لها باحتلال عرش الطرب، وقد تعاقد
معها
طول السنوات العشر الأولي لها في القاهرة كمتعهد لحفلاتها واستأجر لها صالة
»سانتي«
ورفع أجرها من ثلاثة إلي عشرة ثم عشرين فثلاثين جنيهاً في الليلة
الواحدة لمرتين أو ثلاثة أسبوعياً..
ثم اختلف معها في النهاية مثلما اختلف مع آخر
نجومه عبدالحليم حافظ الذي رفض أن يستمع لنصحه ويغني »حاجة فرايحي«
وبين منيرة
المهدية وعبدالحليم يتراص عشرات المطربين والممثلين والراقصات والفنانين في
جميع
المجالات الذين رفع صديق أحمد قدرهم وأجرهم ومكانتهم ومنهم
عبدالعزيز وكارم محمود
وتحية كاريوكا وشهرزاد ومحمد قنديل ونجاة وغيرهم كثيرين.. وللتدليل علي
دوره
ومكانته يكفي أن نشير إلي رسم كاريكاتوري شهير تصدر غلاف إحدي المجلات الفنية عام
١٢٩١
مثله جالساً علي عرش الفن ومن تحته الست منيرة وأم كلثوم
وعبدالوهاب!
لم
يتخل المعلم صديق أحمد طوال حياته في القاهرة عن زيه الشهير الذي كان يتألف
من
جلباب بلدي وبالطو أصفر وطربوش..
وربح في خلال حياته أكثر من ربع مليون جنيه-
تعادل الآن بضعة مليارات- منها سبعين ألفاً تجمعت في يده مرة واحدة ثم أنفقها
خلال ثلاثة أشهر لا
غير! وعندما مات كان مديناً بألف جنيه ولم يترك شيئاً
لأولاده وهم ولد وبنتين من أكثر من خمسة عشر زيجة عجلت
بإفلاسه، ونحن لا نعلم عن
أبنائه أو أحفاده شيئاً
وليت بعضهم يقرأ هذه السطور ويتصل بـ»أخبار النجوم«
لنرد للرجل بعض حقه الأدبي..
يا ليت.
أخبار النجوم المصرية في
03/12/2009 |