ما
يفتخر به مهرجان لندن السينمائي حقاً، ويضعه بين أفضل المهرجانات
السينمائية
العالمية، هو اختيارات سلة عروضه السنوية المنقاة بجدية. ولو أضفنا الى ذلك
بُعده
عن ثقافة تُخضع كل شيء في حياتها لمنطق المنافسة، يصبح موعد
الإحتفال بالصنيع
السينمائي بمثابة عرس فني يتجدد مع خريف كل عام وسط عاصمة الضباب.
فما
تضمنه برنامج الدورة الثالثة والخمسين لمهرجان لندن السينمائي، والتي تنطلق
من الـ 14
الجاري ولغاية الـ 29 منه، إنما احتفاء
بمشاهدة سينمائية صرفة قادمة من 146
بلداً من قارات المعمورة الخمس.. إذ ستشهد هذه الدورة حضوراً مكثفاً لأكثر
من 191
شريطاً سينمائياً طويلاً، من بينها 15 شريطاً تعرض لأول مرة، و 113 شريطاً
قصيراً و 26
شريطاً وثائقياً، وحفنة من الأشرطة
التجريبية، فضلاً عن كنوز الارشيف السينمائي
والمرممة حديثا. ولو أضفنا الى هذا الحشد السينمائي الندوات
المدعومة من مجلة "تايم
آوت" الأسبوعية النافذة وللعام السابع، ومنها "السينما الإيرانية- ما بعد
الموجة
الجديدة، ما بعد الإنتخابات الرئاسية الأخيرة...الى أين؟" و "أزمة الإقتراض:
هل
يمكن للسينما ان تستفيد من الأزمة المالية؟" و "صناعة أفلام البيئة: هل
يمكن
للسينما ان تغدو خضراء مستقبلاً؟"، يكون من حق هذه التظاهرة المفاخرة مقابل
يوميات
مثيلاتها القائمة على البهرجة والنميمة الباذخة. ولكن ذلك لم يمنع الإقتباس
أحياناً، كما هو الحال مع شريط الإفتتاح، إذ وقع الخيار ولاول
مرة في تاريخ هذه
التظاهرة على فيلم التحريك "السيد فوكس العجيب" المنفذ بالكامل عبر
الكومبيوتر
للمخرج ويس أندرسون. وفيه استعادة لعمل كلاسيكي للكاتب روالد داهل، وفيه
نتابع
حكاية الثعلب (صوت جورج كلوني) الذي يترك حياته المستقرة مع
زوجته (صوت ميريل
ستريب) ويعود الى غريزته القديمة في اصطياد الدجاج، ما يدفع بالفلاحين
الأشرار بوجي
وبونس وبن الى الإيقاع به بأي ثمن. فيما سيكون شريط الختام من حصة فرقة
الخنافس
البريطانية الشهيرة، ومن خلال شريط "لا مكان يا صبي"، العمل
الأول للفنانة وللمخرجة
سام تايلور-وود، والتي تتبعت نشأة النجم جون لينون في مدينة
ليفربول، وتأثيرات
خالته ميمي ومن بعد أمه جوليا عندما اصطحبته الى السينما لمشاهدة فيلم عن
نجم الروك
أند روك الأشهر أليفس بريسلي ليتحدد خياره لاحقاً في عالم الغناء
والموسيقى.
فقرات المهرجان
الدعم المادي واللوجستي لفقرات هذه الدورة جاء هذه
المرة من مركز الفيلم البريطاني، وانعكس بشكل واضح في اعتماد قاعة عرض
سينمائية
جديدة وسط ساحة ليستر التجارية من أجل احتواء الزيادة العددية
للأفلام المشاركة
وإتاحة الفرصة للمشاهد البريطاني والأجنبي على حد سواء لمتابعة فعاليات هذه
التظاهرة الضخمة. ومع ذلك، فقد بقيت فقرات برنامج لندن السينمائي الأخرى
على حالها،
وتأتي على رأسها خانة الأفلام البريطانية، والسينما الأوربية ومثلهما فقرة
السينما
الفرنسية. ففي خانة الإحتفالات الخاصة "الغالا" سيحضر شريط
"الرجال الذين يحملقون
بالماعز" باكورة كاتب سيناريو "عمتم مساء وحظاً سعيداً" الأميركي غرانت
هسلوف. وفيه
تحضر نظرية المؤامرة العسكرية بقوة، وعبر لين كاسادي(جورج كلوني) المكلف
بمهمة غسل
عقول رجال النظام السابق والقاعدة في العراق من خلال تقنيات قراءة أفكارهم
مسبقاً.
ومثله تحضر المخرجة جين كامبيون عبر عملها الجديد "نجمة ساطعة"، التي
سيقدمها عمدة
لندن بوريس جونسون، ومن خلال رسائل الحب النارية التي تبادلها الشاعر
الرومانسي
البريطاني جون كيتس مع جارته الشابة فاني براون عاشقة الموضة
وقتها. ومثله شريط "نبي"
للفرنسي جاك أوديار، الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان الأخير، وفيه
امتحان لقدرات سجين في الحفاظ على نفسه وسط عالم العصابات داخل السجن.
بالمقابل
سيحضر شريط المعلم النمساوي مايكل هانيكي "الشريط الأبيض"،
الفائز بسعفة كان
الأخير. وفيه يقارب صاحب "ألعاب مسلية"1997، حياة قرية بروتستانتية شمال
ألمانيا
قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، راصداً طقوسها وعاداتها ويومياتها
المنزلية وما
ستفضي إليه من كوارث بلغت ذروتها بصعود النازية.
أما عروض أفلام ساحة ليستر
فستشهد كثافة عروض سينمائية قادمة ذات قوة جذب جماهيري منها،
شريط "أدخل" لغسبار
نوي، و "حدود السيطرة" لجيم جاروموش، يعرض حالياً ضمن مهرجان بيروت
السينمائي، و "حليب
الأسى" للبيروفية كلوديا ليوسا، الفائز بجائزة دب مهرجان برلين الأخير،
والذي
يدور حول قصة الشابة فاوستا التي ولدت نتيجة عملية اغتصاب تعرضت لها
والدتها خلال
سنوات تصاعد حملات العنف من ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت
في بلدها، لكن ذلك لم
يمنع الشابة من دفن ولادتها في قريتها بطريقة تليق بالأم/الضحية. والى
جانبها تحضر
أفلام المكرسين مثل عمل شيخ المخرجين البرتغالي "غرابة الفتاة ذات الشعر
الأشقر"،
وستيفن سودربيرغ الأخير "المخبر"، و شريط "بلماي" للفرنسي كلود
شابرول، وشريط "من
أنت" للمالي سليمان سيسي.
المشاركة العربية والإيرانية
.....
النكهة الشرق
أوسطية حاضرة بقوة ضمن فقرات تظاهرة هذا العام، وعبر عدد من الأشرطة
العربية، لمصر
منها النصيب الأكبر، ومثلها تلك القادمة من إيران، وسيكون ثقل التاريخ
ونكباته هما
الطاغيين.. ويأتي في مقدمتها شريط "الزمن الباقي" للفلسطيني إيليا سليمان،
وفيه
يستكمل صاحب "وقائع اختفاء" و "يد الهية" سيرة عائلته في الناصرة، وحالة
الشتات
الذي عاشته عقب النكبة الكبرى في عام 1948. لكن النكبة تاخذ صيغة أخرى في
"المسافر"
باكورة المصري أحمد ماهر الروائية(افتتح به مهرجان أبو ظبي الحالي)، وعبر
استحضار
ثلاثة تواريخ مهمة من الهزائم العربية ليتوقف عند هجمات أيلول
2001 وتأثيراتها على
العالمين العربي والإسلامي، ومن خلال قصة حسن (يؤديها تباعاً خالد النبوي و
عمر
الشريف) العامل في مصلحة بريد بور سعيد. فيما تتابع مواطنته كاملة أبو ذكرى
في
شريطها "واحد-صفر" ليلة فوز الفريق المصري بكأس أفريقيا
بالنتيجة التي اقتبسها
عنوان الشريط، وحالة الفرحة المرة التي عمت الشارع المصري مقابل الحيف
الطبقي
والقهر الاجتماعي في بلدها. في حين سيحضر عمل الراحل شادي عبد السلام
"المومياء"(ليلة أن تحصى السنين)، بنسخته الجديدة بعد ترميمها من قبل
"مؤسسة
السينما
العالمية" التي يشرف عليها المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، ضمن خانة كنوز
الارشيف السينمائي.
في حين استدار الجزائري رشيد بوشارب بكاميرته في جديده "نهر
لندن"(ضمن فقرة السينما البريطانية الجديدة)، ليقتفي قصة الأرملة اليزابيث(بيرندا
بلايثن)، مقابل عامل الغابات الفرنسي من أصل أفريقي عثمان(سوتيغيو كويات).
ما يجمع
أقدار هاتين الشخصيتين هو تفجيرات لندن في صيف عام 2005، في اشارة الى ان
الإرهاب
لا يفرق بين ابنة أليزابيث البريطانية وولد عثمان الفرنسي
الأفريقي. أما السينما
الإيرانية فستكون ممثلة بشريط "لا أحد يعرف عن القطط الفارسية" للمخرج بهمن
قوبادي،
وفيه متابعة لعالم موسيقى "الأندرغراوند" في مدينة طهران. وقد صوره صاحب
"زمن
الخيول الثملى" و "السلاحف تستطيع الطيران" بالكامل بكاميرا رقمية، وعبر
مزج بين
الوثائقي والروائي، ومن دون ترخيص من قبل سلطات بلده. ويدور حول حياة
موسيقيين
يحاولان إنشاء فرقة موسيقية تتمرد على قيود الرقيب، ما يدفعهما
الى طرق ملتوية
للحصول على جوازات سفر وتأشيرات لمغادرة إيران. فيما تتخذ قضية الرقابة
والمنع
شكلاً آخر على يد مواطنته الفنانة شيرين نشأت في عملها "نساء من دون رجال"،
والمقتبس من رواية تحمل الإسم نفسه لشاهرنوش باريزبار التي
منعتها سلطات بلدها من
التداول عند نشرها في عام 1989. إذ سبق لنشأت ان استعارت بعض أجزاء هذا
العمل في
اشتغالاتها التجهيزية قبل ان تقرر نقلها بالكامل الى السينما، وفيه عودة
الى أيام
الإنقلاب الذي دبرته وكالة المخابرات الأمريكية بالتعاون مع
بريطانيا بقلب نظام
الرئيس المنتخب مصدق في عام 1953 غداة تأميمه النفط، وعلى ضوء هذه الخلفية
المضطربة
نتابع مصائر نساء يبحثن عن أصواتهن. بينما يكشف لنا المخرج أصغر فرهادي في
"عن
إلي"(أفضل اخراج في مهرجان كان الأخير) عن ازدواجية الطبقة
الوسطى والمرفهة في
بلده، من خلال الشاب أحمد العائد لتوه من ألمانيا بعد تجربة زواج فاشلة،
وينقلنا
الى إحدى المناطق السياحية المطلة على بحر قزوين حيث يتم تدبير لقاء يجمعه
مع
المعلمة إلي من قبل أصدقائهما.
المدى العراقية في
14/10/2009
الفوارق الدقيقة والبحث عن مفاتيح
الكينونة
ترجمة: نجاح
الجبيلي
عند تلك النقطة وبعد 11 سنة من عرض فيلمه "باثر بانشالي" كتب وأخرج 13
فيلماً رئيساً وكلها عرضت في مسرح "والتر ريد" الذي بدأ الشهر الماضي مع
سبعة أفلام
من العقد اللاحق في مهنته. والأفلام في الأقل متنوعة كما توحي عبارته ومن
غير
المحتمل أن يصيبكم القلق كما فعل راي عام 1966 ،
إن
كان ذلك التنويع يشير إلي "قلق الذهن والحيرة والحاجة إلى التوجيه الناتج
عن تضبيب
المنظر - أو إن كان هناك شيء ما مخفي يربط أعمالي المتفاوتة جميعاً".
قلقة نعم.
مضببة كلا. "والشيء المخفي" الذي هو ببساطة فضوله غير المحدود عن كيفية
تلبية الناس
للمطالب الملحة للطبيعة والثقافة، من المستحيل أن يخطئ لا يهم نوع الفيلم
الذي
تشاهده لساتياجت راي.
بعض الأفلام في السلسلة ( الذي تعاون و اشترك في رعايتها
جمعية الفيلم لمركز لنكولن و جامعة كولومبيا) مثل الحكاية
التشردية الغريبة الخاصة
بالجن " غوبي غاين باغا باين"-1968 يمكن أن تكون عقبة صغيرة بالنسبة
للجمهور غير
الهندي؛ لا شيء يرحل بصورة رديئة أكثر من الدعابة الشعبية. والبعض منها
يشعرك كأنك
بحاجة لمعرفة الكثير عن تاريخ شبه القارة الهندية وسياساتها - وبالأخص موطن
راي
البنغال حيث كانت تدور أغلب قصص أفلامه - لفهم الفوارق الدقيقة
لسلوك الشخصيات. غير
أن راي عليه أن يحرق فوارقه: يمكنك أن تفوت تماماً القليل منها وتظل تشعر
كأنك تعرف
الناس بصورة حميمة.
مثلاً فيلم "شارولاتا"- 1964 المتسم بالحب (المشرق) تقع
أحداثه في كالكاتا عام 1880 وشخصياته المتعلمة (المثقفة) والثرية تقضي معظم
وقتها
في مناقشة جدية عن الأدب والسياسة المعاصرين. ومناقشاتها
النشطة مليئة بالأسماء
التي لم يسمع بها الغربيون إلا القليل وبقضايا ربما نساها البنغاليون منذ
أمد طويل.
ومع ذلك ، ما هو واضح هو شغفها الشديد
بالأفكار والطرق العجيبة والصغيرة التي تلون
فيها العاطفة الأحاسيس التي تكنها الواحدة منها للأخرى.
وتلك هي الطريقة التي
يجري بها الحوار في أفلام راي وحتي في أفلام مثل "شارولاتا" و القطعة
الرائعة
الموحدة التشيكوفية "أيام وليال في الغابة" - 1970. كان راي أقل اهتماماً
بما يقوله
الناس لا سبب ما يقولونه وفي أحسن أفلامه فإن أشد اللحظات كشفاً تميل إلى
أن تكون
صامتة أو ما يقرب من ذلك.
المشهد الافتتاحي السلس في فيلم "شارولاتا" هو عبارة
عن ست دقائق صامتة تقريباً لإمرأة - الشخصية في العنوان تؤدي دورها الجميلة
"مادهابي موخرجي" ذات العينين المتقدتين - وهي تسير بالأحرى بلا هدف
من غرفة لأخرى
في بيتها. الإيقاع الواهن لخطواتها يخبرنا كم تبدو الأشياء
مألوفة لها بصورة مملة
والانتباه المنتشي الذي تكرسه للناس المارين في الشارع تخبرنا بشيء أكثر
حزناً مع
ذلك: في حياتها المريحة لكن غير المحفزة أو المثيرة تبدو الفعاليات العادية
للناس
العاديين غريبة جداً ومدهشة. فهي تراقب الحياة اليومية بمنظار
الأوبرا كي تشعر
بأنها أقرب قليلاً.
لدى راي نزوع خاص لليقظين و المشاهدين الصبورين مثل هذه
المرأة الوحيدة ومثل "آبو" البطل الطفل لفيلم "بانثر بانشالي" الذي يصبح
طالباً في
فيلم " أباراجيتو"- 1956 ثم زوجاً وأباً في فيلم " عالم آبو" -1959 وهو
ينظر إلى
الحياة بشكل مختلف قليلاً عند كل مرحلة لكنه دائماً ينظر ويبحث عن مفاتيح
لماهيته و
كينونته.
ثلاثية آبو هي من أفضل أعمال راي بالقياس بصورة كبيرة: القلة من
الأفلام التي صنعها بين "عالم آبو" حتى موته عام 1992 متاحة على أقراص دي
في دي في
الولايات المتحدة وبريطانيا والمعارض الاستذكارية له مثل تلك التي ينظمها
مركز
لنكولن لفنان بمثل مكانته كانت نادرة جداً. هذه السلسلة تحتوي
على أفلام بارزة
ومؤثرة كان من المستحيل رؤيتها في السنوات الحالية مثل "ديفي"- 1960 وهو
تحر رائع
للجنون الديني و فيلم "كانشنجونغا"- 1962 وهو أول فيلم ملون لـ"راي". يسجل
فيلم "كانشنجونغا"-
بضع ساعات في حياة عائلة ثرية من كالكوتا تقضي عطلتها في "دارجيلنغ"
وتنجح ، وبفعل ليس أكثر درامية من التجول والحديث، بخلق صورة غريبة حية
(وطبعاً
فارقة) للمجتمع الهندي وهو في حالة تحول.
الأفلام التي قد تتردد بشكل أقوى في
عام 2009 مع ذلك هي التي تتعامل مع الحرمان الاقتصادي والعالم
الموازي الغريب الذي
هو التجارة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة. الفقر الريفي المدقع "لـ"بانثر
بانشالي"
يجري وصفه بصورة قوية لكنه ليس مقترباً نموذجياً بصورة كاملة لراي بالنسبة
لمسألة
المال الشائكة وغيابه. الحاجة الشديدة هي من بعض الجهات في
منتهى الشدة ومطلقة جداً
بالنسبة لحساسيته القلقة.
إنه أكثر اطلاعاً على المواقف مثل تلك التي تتعلق
بصراع عائلة من الطبقة المتوسطة في فيلم "ماهانجار"- 1963 التي لديها
القليل من
المال أقل من حاجتها فعليها أن تتبنى اختيارات مربكة: في هذه الحالة،
الزوجة ( مرة
أخرى السيدة موخرجي) تشتغل وتكتشف بأن العالم في خارج البيت أكثر إثارة من
العالم
في الداخل وأكثر قبحاً. ونهاية فيلم "ماهانجر" سعيدة من النوع
الطموح. في الوقت
الذي صنع فيه راي فيلم" العدو- 1971" وهو الأول في سلسلة ما يعرف "ثلاثية
كالكوتا"
على الرغم من أن الحبكة والشخصيات للأفلام الثلاثة غير مرتبطة - إلا أن
المشهد
الاقتصادي والسياسي للهند يصبح مظلما إلى حد بعيد فكان عليه أن يراقب
بإحكام وببرود
لفهم هذا العالم المتغير.
المدى العراقية في
14/10/2009
ترويــض الخيــــال
أحمـد عبد
الســادة
لا
شك في أنّ الكلام عن الزيجة القائمة بين فن الرواية وفن السينما يحتاج
أولاً الى
تحديد عناصر وملامح كل منهما، وذلك لمعرفة إشكالية الاشتباك الحاصل بينهما،
ذلك
الاشتباك الذي يقضم في أغلب الاحيان من أفق الرواية لصالح
السينما.
هناك
حقيقة بديهية تتلخص في أنّ السينما لا يمكن أن تحتوي على الانفعالات
والتداعيات
اللغوية والشعورية للرواية، أي بمعنى أنّ الفيلم لا يغني مطلقاً عن قراءة
الرواية،
وهذا ينسحب – بنسبة أو بأخرى – على جميع الروايات التي تحولت الى أفلام
سينمائية.
عالم الرواية عالم متشعب وطائش يضم تحت جناحيه الشاسعين رؤى ومفاهيم
وأفكاراً ومكابدات نفسية ووجودية وحوارات ومونولوجات داخلية وتفاصيل دقيقة
ومغامرات لغوية مديدة، وبالمقابل يعتمد عالم السينما على ما
يمكن أن نسميه (الضربة
الصورية) أكثر من الاعتماد على اللغة، إذ غالبا ما نجد في السينما اختزالا
للكلام
وتكثيفا للأحداث، الشيء الذي يمنح سيادة واضحة لسلطة الصورة.
تعتبر الصورة
طبعاً حجر الاساس والمحور في الصناعة السينمائية، كما تعتبر تجسيداً حاسماً
للخيال
الناتج عن القراءة، ومعادلاً موضوعيا للغة في الرواية، فما يمكن مثلا أن
يعبــّر
عنه بـ (100) صفحة في الرواية يمكن أن يـُختزل بمشهد من ثلاث
دقائق مثلا في
السينما، لذلك من البديهي القول أنّ من المستحيل أن تذوّب كل العناصر
والتفاصيل
الروائية المهمة في مصهر السينما، وبالتالي لا يمكن مطلقـاً – كما أسلفنا
–
الاستغناء عن قراءة رواية لمجرد مشاهدة فيلم عنها، اذ أنّ الرواية
تبقى فناً قائماً
بذاته له اشتراطاته البنائية والجمالية الخاصة، فنــّـاً لا يمكن أن تختزله
السينما
التي هي بالمقابل فن له أبعاده واشتراطاته الجمالية الأخرى، لذلك يمكن
القول بأنّ
ما يحدث من علاقة زواج غير مكتملة بين الفنين (الرواية
والسينما) لا يعدو –في أغلب
الاحيان – اكثر من استثمار صوريّ للزخم الحدثيّ والثراء اللغويّ الموجودين
في
الرواية.
إنّ أكثر ما يقضّ شعور الروائيّ الذي يشهد تحول رواية له الى فيلم
سينمائيّ ، هو الخوف من أن لا تصل اللقطة السينمائية الى ذلك المناخ
اللغويّ
والنفسيّ والفكريّ المغروس والمنتشر في الرواية، وهذا الخوف
برأيي – فضلا عن الرغبة
بحماية خيال القارىء من تجسيد السينما – هو الذي غمر ماركيز بدوامات التردد
قبل أن
يصادق على تحويل روايته العظيمة (الحب في زمن الكوليرا) الى فيلم سينمائيّ،
ذلك
الفيلم الذي قرأت عنه قبل أيام تقريراً في موقع (العربية نت)
وصف كاتبه الفيلم بأنه
(
يشبه في إعادة صياغته للرواية الأدبية بصرياً تقديم فرقة هواة مدرسية عرضاً
مسرحياً لنص من النصوص الشكسبيرية).
إنّ خيانة العملية السينمائية للمناخات
الروائية تصبح – في أغلب الاحيان – مسألة حتمية خاصة إذا كان
العمل الروائيّ مركباً
وممتلئاً بتداعيات وانزياحات لغوية هادرة لا يمكن أن تحتويها الصورة
السينمائية
الهاربة، إذ كيف يمكن للسينما أن تترجم مثلا الأجواء الكافكوية الغامضة
والمعقدة
واللامعقولة، وكيف لها أن تترجم روايات مدرسة تيار الوعي التي
تزعمها جيمس جويس
وفرجينيا وولف ووليم فوكنر، وكيف لها أيضا أن تترجم التصدعات النفسية
الهائلة
والعذابات العقلية المطولة والثقيلة في روايات ديستويفسكي الذي كان سيـُصدم
بالتأكيد وسيأكله الالم – لو كان حياً – وهو يشاهد مدى
الاختزال الظالم والمهول
الذي تعرضت له روايته (الجريمة والعقاب) عند تحويلها الى فيلم سينمائيّ.
تجدر
الاشارة طبعا الى أنّ هناك نوعاً من الروايات يمكن أن نطلق عليه (رواية
الحدث)، وهو
نوع يعتمد بالدرجة الأساس على سلسلة درامية من الاحداث أكثر من اعتماده على
المناخات والانزياحات اللغوية، ذلك النوع الروائيّ – أي رواية
الحدث – يملك من
المقومات ما يؤهله الى اقامة زيجات سلسة – نوعا ما – مع السينما، ما ينتج
بالتالي
أفلاما مقبولة وناجحة نسبياً إذا ما قورنت بغيرها، والأمثلة على ذلك النوع
عديدة
كرواية (البؤساء) لفيكتور هيجو وروايات نجيب محفوظ واحسان عبد
القدوس التي حققت
حضوراً لا بأس به في خارطة السينما العربية.
لا بدّ من الاشارة أيضاً الى أنّ
هناك بعض الافلام الروائية حققت نجاحاً مقبولاً بسبب ذكاء
المخرج في اختيار
الممثلين المناسبين لتجسيد الشخصيات الروائية، والمحافظة قدر الامكان على
المناخ
العام للرواية كما حصل في الفيلم الجميل (لوليتا) المأخوذ من رواية بالاسم
نفسه
لفلاديمير ناباكوف.
تبقى الرواية بالنهاية فناً لغوياً جامحاً ومتشعباً لا
يمكن أن تحتويه وتأسره اللقطة السينمائية مهما بلغت درجة رسوخها في أرض
المهارة
والدقة والاحتراف.
المدى العراقية في
14/10/2009 |