تحت عنوان «فضائيات الدراما وصياغة العقل العربي» كانت الندوة الأخيرة في
مهرجان الإعلام العربي والتي جمعت عددا من صناع الدراما سواء علي مستوي
الكتابة أو الإخراج أو الإنتاج، أدار الندوة عبداللطيف المناوي رئيس قطاع
الأخبار وحاضر فيها كل من الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، المنتجون
إسماعيل كتكت وجمال العدل وإبراهيم أبوذكري رئيس اتحاد المنتجين العرب
وناظر الحكيم المخرج والمنتج السوري وراوية بياض رئيس قطاع الإنتاج.
بدأ أسامة أنور عكاشة حديثه مؤكدا أنه خلال السنوات العشر الأخيرة اختلفت
الأمور اختلافا جذريا حيث أصبحت الدراما سلعة أدت إلي ظهور قوانين السوق
فخرجت من إطار الخدمة الفنية التي يقدمها الجهاز الإعلامي الخاص بالإمتاع
والتثقيف وإثراء الوجدان.. هذا بعد انسحاب الإعلام كهيئة سيادية وأصبح
القطاع الخاص هو المهيمن والذي يهدف بالضرورة إلي الربح وقلة فهم يصب في
الفن ويحرص علي جودة المنتج.. ويضيف عكاشة أن رمضان الماضي شهد عددا من
المسلسلات قد لا يتصوره العقل فحدث نوع من الشوشرة والتشويش ولم نجد إجماعا
علي عمل واحد وهناك مسلسلات عرضت ولم يشاهدها أحد، وهذا كله لأن الدراما
أصبحت تنتج لصالح الإعلان وبالتالي يتم تكثيف الدراما في رمضان، ويتوقع
أسامة مع زيادة العدد في السنوات القادمة أن يتخلق إنسان عربي ذو ملامح
خاصة أطلق عليه «الإنسان العربي المسلسلاتي» في ملامحه كثير من البلاهة مع
عدم قدرته علي التركيز والتشتت أو تنهار الدراما المصرية مثلما حدث في
السينما.
انتظام في سوريا
ويؤكد إبراهيم أبوذكري رئيس اتحاد المنتجين العرب علي اختفاء الزمن الجميل
والمبارزة الجيدة بين المسلسلات حيث كان الموقف مدروسا جيدا فكانت هي أهم
حقبة في الدراما العربية وظهر وقتها مسلسل «الشهد والدموع» أما الآن حتي
الإعلام الرسمي يسعي وراء الربح المادي.. وتساءل إبراهيم أبوذكري لماذا حدث
انتظام في سوريا هذا العام وعشوائية في مصر ففي سوريا أنتجوا 23 مسلسلا فقط
وزعوهم علي الفضائيات دون أي خسارة.. أما في مصر أنتجوا كما هائلا حوالي 80
مسلسلا وحتي إذا تم توزيعها فقد تم تحميل مسلسل قوي مع مسلسلين أقل منه
ويتساءل حول نوعية المسلسلات نفسها لماذا يتم تمجيد المخدرات خلال 30 حلقة
في رمضان ثم أقوم بإصلاح كل شيء في حلقة أخيرة كما حدث في مسلسل
«الباطنية»، لماذا لا ننتج مسلسلات تاريخية فهي موجودة في بلاد عربية أخري
مثل الأردن.. وهنا تدخلت راوية بياض رئيس قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري
لتؤكد أن المشكلة ليست في الكم ولكن في المنتجين الدخلاء وهم سبب كارثة
الدراما العربية، بينما يري مظهر الحكيم المخرج السوري أن سوريا لديها
امتياز يمنع تصدير أي عمل وسط فلابد أن يكون علي المستوي فالدولة تتدخل في
هذا لأن اللجنة المشكلة لهذا الغرض حكومية.
خناقة رمضان
بينما يري جمال العدل أن أساس الدراما يوجد النص نفسه ويرفض المقارنة بين
فترتنا وزمن آخر لأن عظماء زمان كانوا يحصلون علي أجور صغيرة جدا حتي
الكاتب والمخرج فيشبه جمال العدل موسم رمضان «بالخناقة» كل منتج يريد توزيع
عمله ويتذكر ما حدث مع مسلسله «حديث الصباح والمساء» وهو مسلسل له قيمة
فنية عالية ولكن تزامن عرضه مع مسلسل «عائلة الحاج متولي» جعله يخسر..
ويضيف أن ثلث إعلانات السنة تأتي في شهر رمضان والتليفزيون ليس مصدر
التثقيف الوحيد فأي محطة فضائية تشتري ما يناسبها خاصة أن تكلفة المسلسل
تصل إلي 25 مليون جنيه مصري.. وفي سؤال طرحه عبداللطيف المناوي حول التناقض
بين مضمون المسلسل وجودته أجاب عكاشة أن ما يمنع ذلك هو «تورم» ميزانية
المسلسل في إطار الأجور الباهظة وأقل القليل يصرف علي العمل نفسه مما يؤثر
علي جودته.. فيما أكد إسماعيل كتكت أن العشوائية هي التي تضع النجوم في
مأزق ولولا تدخل وزير الإعلام أنس الفقي هذا العام لكان النجوم مكانهم داخل
السجن، وعن نفسه يؤكد كتكت أنه لا يعتمد علي النجوم في أعماله الفنية بل
يعتمد علي النص نفسه فنجمه الأول الكاتب والثاني الكاتب والثالث هو المخرج
وقد بدأ رحلته بالسير الذاتية مثل الإمبراطور والملك فاروق وأسمهان لأنه
اكتشف كما يقول إن للدراما دورا مفصليا في تعديل التاريخ فلعب علي هذا
الوتر واتفقت معه راوية بياض لتؤكد أهمية النص والشق التثقيفي في العمل
وعدم الاستعانة بنجوم ولكن ربطت بين هذا وبين البث في توقيت جيد.
خراب العقول
وفي نهاية الندوة اتفق الجميع علي أهمية الفصل بين الدراما والإعلان حتي
إذا استبعد من العرض في شهر رمضان، فيما أكد جمال العدل أنه لا يري مشكلة
فيمن يريد متابعة أي شيء ومن يريد متابعة الجيد أو السيئ فهو حر فالإعلام
حر وليس موجها.. فيما أكد عكاشة أننا نستغرق في الدراما السلعية والتي
تنبيء بخراب العقول علي مستوي الأجيال القادمة.
الأهالي المصرية في
24/11/2009
مباراة وموقعة 18 نوفمبر .. والحرب الإعلامية الفضائية
الأولي
ماجدة موريس
لم يكن أكثر المتشائمين من جمهور الفضائيات الملتزم يتوقع أن ينقلب الشحن
المعنوي لصالح الفريقين المصري أو الجزائري، إلي حرب بالمعني الحقيقي
للكلمة، والحرب هنا تأخذ أبعادا مختلفة عن الحروب النظامية بالأسلحة
والجيوش، لكنها تتعامل مع الآخر بنفس العقلية التي تعتبر نفسها في حالة
قتال، مهما اختلفت الوسائل، ووسائل القتال هنا أكثر اتساعا في كل جبهات
الإعلام، من الصحف الورقية إلي الإذاعات والقنوات المحلية ثم الفضائيات..
وأخيرا الإنترنت ومواقعه.
من الأمانة أن نسجل أن السبب المعلن في هذا هو المنافسة علي الاشتراك في
بطولة كأس العالم والتي خرجت منها كل الفرق العربية وبقي فريقا مصر
والجزائر يدخل الفائز منهما هذه البطولة، لكن الأمانة أيضا تقتضي ذكر حقيقة
مهمة وهي أن هذا الحدث سبقته أحداث ومواقف مماثلة تواجه فيها الفريقان علي
مدي نصف القرن الماضي، وكانت نهايات هذه اللقاءات مؤسفة في أحيان عديدة،
بمعني أن «الحدث» الذي فجر «الحرب» له تواريخ ووقائع مماثلة، وبالتالي لا
يمكن اعتباره مقطوع الصلة بالماضي، وبما حدث خلاله من تجاوزات كثيرة أهمها
قصة اعتداء لاعب الجزائري لاخضر بللومي علي طبيب مصر وفقأه لعينه عام 1994
والتي سجلت وقتها حالة من الصراع والاتهام المتبادل بين فريقي مصر والجزائر
بدأ أثره محدودا بالقياس لما يحدث الآن بسبب محدودية الإرسال التليفزيوني
وقتها «قناة لكل دولة» وبداية البث الفضائي الخاص.
مشاكل متراكمة
أن مشاكل اللقاءات الثنائية بين فريقين يمثلان شعبين تراكمت وسببت جروحا لم
يتم تنظيفها، حتي جاء الحدث الذي فجر هذا السجل من «المعارك الرياضية»،
وطال أيضا العلاقات غير الرياضية، وحاول التنصل من ماض مشرق يخص علاقة ثورة
مصر بثورة الجزائر وحرب تحريرها من المستعمر الفرنسي، وعلاقة ثورة الجزائر
بدعم حرب مصر وقت الاستنزاف، فجر «الصراع» الرياضي كل المجالات الأخري
للتعاون بين الشعبين وبدا من سيناريو الأحداث التي بدأت قبل مباراة 14
نوفمبر في مصر أن الجزائر «الرياضية» تسلك نفس السلوك السابق برغم وجودها
ضيفة في مصر «عملية تحطيم زجاج الباص وإلصاقها بالمصريين كافتتاحية» مع ذلك
مضت المباراة الأولي بعدم الحسم ليصل الفريقان إلي السودان التي اعتبرها
المصريون نزهة واعتبرها الجزائريون معركة، وبرغم وجود كل الإمكانيات
الإعلامية لدي مصر (22 قناة أرضية وفضائية ومتخصصة) فإن أحدا لم يرافق بعثة
الجزائر ويلاصقها ليقدم وثيقة حية مصورة عن كيفية تكسير زجاج الباص، في
وقتها، أما رحلة السودان فهي أيضا سقطة كبري، ليس للأجهزة المصرية والسفارة
فقط ولكن لأجهزة الإعلام الفضائية المصرية العامة والخاصة التي لم تعمل
بشكل متفرد ولم يرسل أحدها أي فريق عمل إلي السودان، قبل سفر الفريق
والمشجعين ليقدم لنا تحقيقا عن المكان والمناخ والملعب والمشجعين والإعلام
وعن المصريين في البلد الشقيق، سقط الإعلام المصري وعجز عن تقديم ملف واف
لنا، سواء عن تاريخ مباريات مصر والجزائر، أو عن السودان وملعبها المريخ
«الذي ثبت أنه ملعب متواضع محاط بمناطق سكنية عالية الكثافة» لم يكن
الإعلام المصري مهتما بأي شيء سوي خطط المعلم وفريقه وجلب المعلقين للحديث
عن الفوز المنتظر.. ومن هنا، حيث وقعت الواقعة لم يكن لدينا ما نقدمه
لملايين المشاهدين إلا بعض التسجيلات لفريق التليفزيون الذي ذهب لنقل
المباراة، وبعض كليبات الهواة، والباقي برامج وحوارات وشهادات العائدين من
السودان، صحيح أن بعض البرامج قدمت جهدا مشكورا لنجدة المصريين في السودان
عقب المباراة، مثل برنامج إبراهيم حجازي علي النايل سبورت في مساء الخميس
والذي ظل يحاول «توصيل» المصريين ببعضهم أو بالسفارة لتجميعهم بالطائرات،
وقد تجاوب معه بالفعل المهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون
وهاتفه لأكثر من مرة مؤكدا جهد وزارة الإعلام ووزيرها وجهات أخري للبحث عن
المصريين التائهين في السودان من أجل إعادتهم سالمين.
قنوات غاضبة
أننا بعد هذا الوقت وهذا البرنامج، نستطيع أن نكتشف بسهولة تحول كل البرامج
في كل القنوات المصرية، العامة والخاصة، إلي قنوات غاضبة رافضة لما حدث،
تبحث عن الضيوف في الاستديو، وعلي خطوط هواتفها، للحديث عن هذا الحدث
المروع، ما حدث في السودان للمصريين من الجزائريين، ولأن الكلام يجر بعضه،
والألم والمرارة أيضا، فقد انفتحت الآلام علي البحري، من البيت بيتك «ق2»
والنايل سبورت والنايل لايف «المتخصصة» إلي العاشرة مساء «دريم 2» إلي «90
دقيقة» و«48 ساعة» بقناة المحور، وربما كل القنوات بلا أي تحفظ، حتي التي
لا مصلحة لها، مثل قنوات خاصة عربية كثيرة منها «المستقلة» و«الإخبارية»
وبالطبع الأوربت و«الجزيرة» و«العربية» و«الحرة» وحتي البي بي سي وفرانس 24
ساعة، لم تخل فضائية من رصد هذا الحدث غير المسبوق للجميع، تحول جمهور
مباراة كرة من التشجيع إلي محاولة اغتيال وترويع أنصار الفريق الآخر.
ضبط النفس
لن أكون مبالغة إذا قلت إن القنوات المصرية الفضائية لم يكن لها ميزة كبيرة
علي غيرها إلا في مصداقية بعض مقدميها وقدرتهم علي ضبط النفس والبحث عن
الموضوعية وإيقاف المهاترات أو الشتائم المباشرة وفي هذا تفوقت مني الشاذلي
في دريم وسيد علي في المحور ومحمود سعد في البيت بيتك، غير أن الأمر تطور
من المباراة وما حدث فيها إلي فتح الملفات الأخري للعلاقات العربية -
العربية، مثل ملفات الماضي والحاضر، العمالة والبطالة والتشغيل لنسمع
أصواتا من مصريين في الخليج يشكون فيها من تدني قيمة المصريين بل ومعايرتهم
بالفقر والبطالة، شكاوي مريرة جاءت معبرة عن حالة توحد بين عدد كبير من
المصريين داخل مصر وخارجها تري فيما حدث تأكيدا علي الاستهتار بالمصريين
برغم كل تاريخهم مع العرب والعروبة، ونموذج لهذا ما قاله مشاهد لهناء سمري
في برنامج 48 ساعة، وكان يتحدث من الخليج.. قال «كل المصريين اللي عايشين
في الإمارات يطالبون الإعلام المصري بأن يتعامل مع هذا الحدث بأسلوب محترم
أكثر من هذا، ويطالب رب الأسرة المصرية أن يجعلنا نسير مرفوعي الرأس علي
هذه الأرض.. لأننا ابتهدلنا كتير.. ولأن هذه الأشياء بقالها 35 سنة.. وما
بتطلعش من دماغ الواحد.. والخليجيين بيفكرونا بالمواقف القديمة..» أنه
الفلاح الفصيح في الزمن الحديث يتحدث من غربته ليؤكد الكثير والكثير مما
قاله غيره في هذه الأزمة.. وما لم يقل بعد حول هذا الحدث.. وهذه الحرب التي
لابد أن يظل ملفها مفتوحا.. لأنها لن تنتهي.. ولابد أن تفتح ملفاتها كلها..
بإيدينا.
الأهالي المصرية في
24/11/2009
المعلم حنفي «إللي گلمته منزلتش الأرض أبدا»
أشرف بيدس
عندما ندخل عالم «المعلم حنفي»، فنحن غير ملزمين بالاستئذان أو طرق الأبواب
المغلقة، يكفي أن نقول «إحم00 دستور» أو نردد «يا جماعة ياللي هنا» وندخل
لنري عالمه الجميل0، حيث يتحول الجد إلي هزل وتلقائية، وتتبدل اللغة فتصبح
الفصحي والعامية خليطا ممزوجا بخفة دم عفوية.
هل نسي أحد مرافعته البليغة في فيلم «الأستاذة فاطمة» والبراهين التي
قدمها، والحجج التي ساقها، والتي قال فيها «يا حضرات المستشارين إن المتهم
الماثل أمامكم قتل الأخلاق اللاتي واللائي يحميهن القانون واغتال البراءة»
مما دفع القاضي لإصدار حكم بحبسه داخل قفص الاتهام، إنه عبد الفتاح القصري،
الفطري المعجون بخفة الدم، الشهم الذي يختبئ عندما تبدأ المعارك تحت
ترابيزة أو خلف حائط، وإن كان هذا لا يقيه من احتضان كرسي أو استقرار زجاجة
في رأسه.. كان «القصري» مستودع «لزمات» لا يكف عن اختراعاتها ويفاجئنا في
كل مشهد بواحدة تنزع ضحكاتنا0 إن كلمته الكوميدية بالفعل لم تنزل الأرض
أبدا، ولاقت شفاة باسمة تتلقفها برحابة صدر وتسعد بها.
ولد «القصري» في الجمالية وراقب عن قرب شخوصه والتي تمثلت في أولاد البلد
وتفاصيل حياتهم، فلم يكن غريبا تميزه في أداء هذه النوعية من الأدوار وإن
صبغها بنكهته الخاصة، ورغم إنه كان ابنا لعائلة ثرية تعمل في تجارة الدهب،
وكان يسيرا عليها إلحاقه بمدارس فرنسية، فإن حبه للفن لم يستطع التغلب عليه
وقاده إلي فرقة عبد الرحمن رشدي، وانتقل منها إلي فرقة عزيز عيد ثم فرقة
فاطمة رشدي، حتي أعاد اكتشافه نجيب الريحاني واسند له الأدوار الكوميدية
بفرقته والذي استطاع تفجير قدراته وإمكاناته، ثم رافق زميل عمره اسماعيل
ياسين وعمل معه في فرقته وشاركه في معظم أفلامه0 فقلما نجد فيلما لاسماعيل
ياسين دون مشاركة القصري والعكس، وكونا معا ثنائيا قدما من خلاله أفلاما
كثيرة لاقت استحسان وقبول الجماهير0
اشتهر «القصري» بأدوار السنيد، ولم يقم طوال تاريخه الفني ببطولة فيلم، وإن
كان اشتراكه في أي عمل يمثل إضافة كبيرة، فكثير من الأعمال التي شارك فيها
لم يبق منها سوي قفشاته وعباراته التي مازالت الجماهير تحفظها عن ظهر قلب
رغم تكرار عرضها، إن عبقريته كانت تتمثل في ردود فعله غير المتوقعة والتي
كانت تثير الضحك والدهشة وتميز أيضا بسرعة البديهة و السخرية اللاذعة، كما
أنه كانت له طريقة خاصة في نطق العبارات مستخدما يديه اللتين تلوحان
باستمرار واهتزاز جسمه عند كل ايماءة أو اشارة.. إن جيل عبد الفتاح القصري
استطاع أن يحصن موهبته من التقليد والنقل والاقتباس وامتازوا بخصائص لم
يستطع أحد من الأجيال التالية لهم من السطو عليها أو الاقتراب من تراثهم،
وإن كان الكثيرون فتحوا عيونهم علي ابداعاتهم، ونهلوا منها الزاد الذي
تقوتوا به في مسيرتهم الفنية.. إن الكثيرين من فنانينا عندما نؤرخ لهم فنحن
ملزمون بذكر قائمة طويلة من أعمالهم، أما مبدعنا عبد الفتاح القصري فيكفي
أن نقول كلمة واحدة مثل «نورماندي» حتي تذهب الذاكرة سريعا إلي تحفة فطين
عبد الوهاب لنتذكر ذلك المشهد العبقري والذي كان يحتفل فيه بتدشين «المركب»
التي باعها المعلم حنفي لـ «حسن وابن حميدو» واعتلاء ابطال الفيلم جميعا
منصة الاحتفال وهم أحمد رمزي وإسماعيل يس وزينات صدقي وهند رستم وسعاد أحمد
وتوفيق الدقن ومعهم القصري الذين راحوا جميعا في فاصل من الرقص الحر
ليتفاجأوا - ونحن معهم- بغرق المركب قبل أن تبحر قدما واحدا0
إن «القصري» قدم أظرف وأغرب رد فعل لزوج خائن عندما ضبطته «الست أم طعمة»
عند الراقصة «كيتي» فلم يجد مخرجا غير ادعاء الجنون للخروج من هذا المأزق،
وصرخ في وجه زوجته «انا ايه اللي جبني هنا، زنوبة زنوبة،» لكن «أم طعمة» لم
تقتنع بما ساقه إليها وراحت تطلق «شبشبها» يمينا ويسارا.. إن «القصري»
اشتهر بالأدوار الكوميدية وقلما نجد مشهدا تراجيديا واحدا علي مدار تاريخه
الفني، لكن بداياته مع نجيب الريحاني كشفت لنا عن إمكاناته التراجيدية،
عندما كان يجسد شخصية زعيم العصابة «عبد المجيد ساطور» وقام باصطحاب
«الريحاني» في الغرقة الملحقة بالبار ليخبره عن مكان العقد الذي قام
بسرقته، وعندما يشعر بأن «الريحاني» يماطله، يمسك برغيف الخبز ويشطره علي
عينيه قائلا «وادي العيش علي عينيه إن مظهرش العقد لاخد زمارة رقبتك»،
ليتصبب العرق من وجه «الريحاني».. إن الامثلة كثيرة في هذا الصدد فبمجرد
ذكر اسمه تتوالي المشاهد تباعة0 إن أعماله ستظل محفورة في أذهاننا ولا أحد
يستطيع أن ينسي أدواره في أكثر من 60 فيلما، ومن أشهرها «سكر هانم، ليلة
الجمعة، فيروز هانم، لو كنت غني، قمر 14، خبر أبيض، معلهش يا زهر، اسمر
وجميل، حماتي قنبلة ذرية، حرام عليك، شمشون ولبلب، الدنيا لما تضحك، بين
أيديك».. مثلت البدايات أملاً جميلا ومشرقا حيث رغد العيش ويسر الحال، لكن
النهايات تأتي غالبا محزنة وشديدة القسوة وكأنها تبدل الضحكات بالعبرات،
تزوج «القصري» أربع مرات فقد كان يحلم بانجاب ولد، لكن القدر شاء عكس ذلك0
في إحدي الليالي بينما كان «القصري» يجسد أحد أدواره علي خشبة المسرح فوجئ
بتلاشي نور عينيه حتي أظلمت الدنيا تماما، فراح يصرخ مفزوعا ، وظنت
الجماهير بأن ما يحدث ضمن أحداث المسرحية وانتابتهم نوبة من الضحك، لكن
المأساة أن ما حدث لم يكن تمثيلا، بل كان حقيقة وتحول الهزل إلي مأساة، ظل
يعاني معها حتي آخر أيام حياته، وكان فقدان البصر هو الضربة القاضية التي
اجهزت عليه وساءت حالته النفسية بصورة خطيرة أدت إلي تصلب الشرايين وفقدان
الذاكرة.. ويتقلص المشهد الضاحك في حياة عبد الفتاح القصري (1905- 1964)
ويتحول فجأة إلي ميلودراما سوداء، ليجد نفسه وحيدا بائسا مريضا لا حول له
ولا قوة، بعد هجر الزوجة والأحباب والأصدقاء، ويموت القصري أشهر من أضحكنا
وأمتعنا في غرفة متواضعة لا يملك مصاريف جنازته.. رحم الله عمنا عبد الفتاح
القصري.
الأهالي المصرية في
24/11/2009 |