تسجيلي أم وثائقي؟ هذا هو السؤال الذي غالبا ما يطرحه عليّ زملاء، حيث إنه
لا يزال يثير إشكالية إيجاد تسمية عربية تصف النوع الآخر من السينما
الموازي للسينما الروائية. وفي حين قد تبدو هذه الإشكالية مرتبطة بمجرد
اختلاف في الترجمة عن التسمية الانجليزية (دوكيومنتري)، فإن هذه الإشكالية
في واقع الأمر تتعلق بمسألة أكثر تعقيدا تنجم عن وجود أكثر من جنس داخل هذا
النوع الذي لا يتأسس على إعادة خلق الواقع، كما هو الحال بالنسبة للسينما
الروائية، بل يتأسس اعتمادا على تصوير مواد الواقع الفعلية. يجري تصوير
مواد الواقع هذه إما خصيصا لصنع فيلم محدد الموضوع يصنف ضمن النوع التسجيلي
(الوثائقي)، أو يجري التصوير لمجرد التوثيق لموضوع أو لوقائع معينة، وهذه
المواد المصورة لمجرد التوثيق يمكن أن تصبح بدورها خامة لفيلم محدد
الموضوع، مما يستدعي الحاجة إلى إيجاد تسمية جديدة تصف هذا النوع من
الأفلام وتميزه عن الأفلام التي يجري تصويرها ضمن خطة محددة مسبقا ومنظمة
في بنية. وفي الواقع يمكن لنا الاستطراد كثيرا في وصف أشكال متنوعة من هذه
الأفلام تحتاج إلى تسميات تحدد خاصيتها وتميزها.
ما هي طبيعة السينما التسجيلية/ الوثائقية، وما هي وظيفتها؟ عرف تاريخ
السينما وجود اتجاهين رئيسيين لفهم هذا النوع من السينما. كان الاتجاه
الأول يرى أن السينما التسجيلية/ الوثائقية مرآة تعكس الواقع كما هو من دون
أي تدخل من المخرج أو المؤلف، استند هذا المفهوم إلى السينما التسجيلية/
الوثائقية التي تكرست كنوع خاص منذ عشرينات القرن العشرين وخاصة اعتمادا
على تحليل (غير دقيق) لأفلام المخرج الأمريكي روبرت فلاهرتي الذي صور
أفلامه بأسلوب الملاحظة الطويلة ومعايشة الحدث، ولكن هذا المفهوم يظل قاصرا
ويتجاهل أن هذا النوع من الأفلام فن بحد ذاته، لأن غياب شخصية المخرج/
المؤلف، غياب وجهة نظر المخرج، يفقد الفيلم الكثير من قيمته لأنه من غير
الممكن النظر إلى الواقع مجرداً عن كل ما يحيط به، النظر إلى الواقع من دون
فهم العلاقات الموضوعية المتبادلة فيه. عندما يجد المخرج المؤلف أمامه مواد
معينة فإنه يختار الموضوع والحقائق المتعلقة به وهذا الاختيار لا يمكن أن
يكون ذا صبغة سلبية.
وأما الاتجاه الثاني وهو استمرار لتقاليد المخرج السوفييتي زيغا فيرتوف
ومبدأه المسمى “الحقيقة السينمائية”، فينظر للواقع لا كهدف بل كطريق للوصول
إلى الهدف، وهذا ما يعكسه بوضوح ما أعلنه المخرج الوثائقي الهولندي يوريس
ايفنس الذي حازت أفلامه شهرة واسعة في النصف الثاني من القرن المنصرم: “أنا
واثق من أنه قد حان الوقت لتثبيت أهمية الأفلام الوثائقية مخضعين كل شيء
فيها من أجل كشف عالم الإنسان”، مضيفا إلى هذا أن السينما الوثائقية يجب أن
تضع أمامها هدفاً ليس كشف عالم الإنسان وحسب بل وكشف كل الظواهر المادية
الموجودة في الحياة.
هذا يعني في المحصلة أنه يجب أن يكون لكل مخرج/ فنان، يعمل في مجال الأفلام
التسجيلية/ الوثائقية مبادئه وأساليبه الخاصة به التي تقوده في عمله الفني
وليس من الصعب أبداً فهم أسباب ذلك. إن الأفلام الوثائقية لتلتصق التصاقاً
مباشراً بالحياة المادية، بالواقع، إنها تحليل للواقع البشري يعتمد على
حقائق حياتية ثابتة، يرى المخرج أمامه مجموعة من الأحداث والبشر المتفاعلين
بعضهم مع بعض ويجب عليه أن يختار من بعض المواد الموجودة أمامه ما يسمح له
بأن يعبر عن الفكرة التي يريد وبعد ذلك يجب عليه أن يختار أسلوب العمل،
ويمكن أن نقول إن اختيار المواد ومن ثم اختيار أسلوب العمل هما العاملان
اللذان يجددان خاصية ليس أسلوب كل مخرج، ونظرته للحياة فحسب، بل أساسا يحدد
مدى انتماء الفيلم للفن وعدم اكتفاءه بالوظيفة الإخبارية أو التوثيقية.
إذن، بعيدا عن الإشكالية المرتبطة بالتسمية، فإن المعضلة الحقيقية تتعلق
بتحديد وظيفة وطبيعة هذا النوع من الأفلام، خاصة مع وجود الفضائيات التي لم
تفسح المجال واسعا أمام عرض هذا النوع من الأفلام، بل طورت أيضاً صيغا
جديدة لأفلام وبرامج مخصصة لعكس الواقع، مما زاد من هذه المعضلة، مضيفا
إليها السؤال حول إن كان ينتمي إلى عالم التلفزيون أم إلى السينما، مما جعل
النقاش يستمر في الدوران حول طبيعة ووظيفة الفيلم التسجيلي/ الوثائقي، فهل
وظيفته إخبارية أم تحليلية، هل هو إعلام أم فن، هل هو التزام بمواد الواقع
أم يمكن إضافة الخيال إليه، هل يحافظ على صفاء النوع أم يمكن مزجه مع وسائل
التعبير المستخدمة في الفيلم الروائي وهو ما تجسده الصيغة التي تزداد
انتشارا والتي بات يطلق عليها تسمية “الدراما الوثائقية”؟
الخليج الإماراتية في
14/11/2009 |