هذا فيلم كبير حقا بل إنه أحد أهم وأفضل أفلام 2009
أحدثكم عن
فيلم المخرج الفلسطيني الموهوب إيليا سليمان الذي يحمل اسم
الزمن الباقي..
سيرة الحاضر الغائب الذي اشترك في المسابقة الرسمية للمهرجان كان الأخير،
ورغم
أنه لم يفز بأي جائزة، إلا أنه فاز بالإعجاب والتقدير،
ولكنه حصل علي جائزة
أفضل فيلم شرق أوسطي عند مشاركته في مسابقة مهرجان
أبوظبي في دورته الأخيرة،
ولا شك عندي في أن الفوز جاء لتعبير الفيلم القوي،
وبأسلوب فني رفيع وخاص عن
استعادة الذاكرة المنسية.
الفيلم قصيدة حب مليئة بالحنين إلي
الماضي، وإلي الأب والأم اللذين أهدي إليهما إيليا سليمان
فيلمه المؤثر،
حنين ينتقل إليك كمشاهد فيجعلك تشارك مخرجه تجربته الثرية، في كل مشهد، بل
في
كل لقطة قصيرة يمكنك أن تستمتع بالسينما كما نعرفها، الصورة تقول أشياء كثيرة
وشريط الصوت يستكمل خلق الجو،
لحظات الصمت الطويلة أبلغ من أي حوار، وإيليا
سليمان المخرج صاحب الحكاية والذكريات يظهر أمامنا بنظرة
عينيه الثابتة والمندهشة
علي الدوام، وكأنه مجرد طفل صغير ألقي به في أرض العجائب فأصبح
غير قادر علي
الاستيعاب، نفس النظرات التي واجهنا بها
إيليا
في فيلمه السابق يد
إلهية، وكأن مخرجنا نسخة جديدة من شخصية
حنظلة
الكاريكاتورية التي ابتكرها
الراحل ناجي العلي لتشهد علي عصرها، وعلي المأساة الفلسطينية.
النكبة الفلسطينية كما تقدمها سينما إيليا سليمان تبدو مزيجا من
مسرحية عبثية تبعث علي الضحك والدهشة،
وعالم أقرب إلي كوابيس كافكا
تضغط علي
أعصاب الأبطال فيظنون
-ونظن معهم- أنها مستمرة بلا نهاية، أفلام هذا المخرج
تبدو مثل جدارية تختلط فيها الملهاة بالمأساة، هو الشاهد الحاضر حتي وإن غاب عن
المكان، إنه يعرف كل التفاصيل، ولكنك تشعر أحيانًا كما لو أنه يحافظ علي مسافة
مما يقوم بسرده،
يتسلل إليك هذا الشعور عندما يظهر إيليا
بنظرته المندهشة
وبصمته البليغ،
كأنه جاء من كوكب آخر ليتأمل وليسخر وليدين، هو داخل الحكاية
ولكنه يراها من الخارج لتكون الرؤية أوضح وأعمق تماما كما لو
أن شخصا بعث من جديد
إلي الأرض لكي يتفرج علي حياته،
ولكي يسترد ذاكرته في شكل صور لا تنسي.
أنت الآن تقرأ ما أكتبه عن هذه التحفة السينمائية، ولكن خبرة
المشاهدة تختلف حتما عن خبرة القراءة،
ولكني سأحاول أن أقرب لك المسافة،
وسأحاول أن أنقل لك الصورة بتفاصيلها وبألوانها وبحركتها المحددة وبلحظات
صمتها
وبشريط الصوت المليء بالأغنيات الشجية،
مهمتي عسيرة بما يتوازي مع محاولة
إيليا
سليمان الاستثنائية في إثبات أهمية استعادة الذاكرة بالفن ومن خلال صناعة
الأفلام، وأظن أن مشروعه السينمائي بأكمله
-وليس فيلم الزمن الباقي- هو
محاولة لاستعادة الذاكرة المفقودة.
بناء غير تقليدي
لا تنتظر بناء تقليديا من مخرج موهوب ومتمرد يحكي عن قضية عجيبة
وغير تقليدية، إنه يتحدث عن الشعب الوحيد تقريبا الذي يخضع
لاستعمار مباشر في
الألفية الثالثة، ومن المفترض أن يتحدث شعب طرد ليعيش لاجئًا مع أنه صاحب الأرض،
ثم إن موضوع أفلام مخرجنا هو هذه الحالة العبثية المتقلبة التي لا يصلح
معها السرد
التقليدي، هناك مشاهد وانتقالات ومزج بين الخيال والواقع وكأننا أمام صورة
كبيرة
ولكن تم تفتيتها إلي أجزاء صغيرة،
في الزمن الباقي تتداعي الذكريات في ذهن
إيليا سليمان عندما يعود إلي مدينة الناصرة بعد غياب،
الأب والأم هما بطلا
الرحلة وبنهايتهما تغلق الأقواس، ويظل
إيليا
صامتا ومحتفظا بدهشته.
قبل العناوين، يضع إيليا نفسه في سيارة، يربط الحزام، سائق
التاكسي الإسرائيلي يتلقي رسالة من زميله،
تندلع عاصفة، يقول السائق هذا ما
تحتاجه يعلق السائق مواصلاً الضيق:
أنهم يبنون مدارس وليس محطات بنزين.
لا
أدري شيئًا. يصرخ السائق في زميله عبر الجهاز:
هل تسمعني
أين أنت. أول ظهور
لـإيليا في الخلفية سيكون في صورة ضبابية بلا ملامح، يردد
إيليا: أين أنا
لتكون تلك بداية فتح خزينة الذكريات في فلاش باك طويل عما حدث لأسرته عام
1948
وما بعدها تتوالي المشاهد الساخرة والعبثية، أشخاص علي المقهي يسألهم جندي عن
الطريق إلي بحيرة طبرية فيدلَّونه علي الطريق إلي حيفا، يقول لهم أنا من العراق
من الواضح أنه من طلائع جيش الإنقاذ العربي،
نسمع أصوات الجيش الإسرائيلي يعلن
بالعربية: ارموا أسلحتكم..
وساعدوا إسرائيل علي توطيد دعائم السلام.
سيارة ترفع راية الاستسلام البيضاء تطاردها طائرة في مشهد عبثي آخر،
عمدة المدينة يجلس وسط ضابط إسرائيلي،
يقرأ وثيقة تقول إن كل الذخيرة وبلدة
الناصرة ستكون ملكًا لجيش إسرائيل، العمدة يوقِّع بعد أن يسأل عن التاريخ
ونعرف أنه 16
يوليو 1948 .
تلتقط صورة تذكارية بهذه المناسبة،
ويتعمد إيليا سليمان أن تظهر صورة العمدة وسط المحتلين،
ويليها صورة لهم
جميعًا بدونه، وهي الصورة الأكثر واقعية.
مشهد ساخر آخر، جنود
الاحتلال يتنكرون في صورة فلسطينيين يرتدون العقالات، تزغرد السيدات،
ينطلق
الرصاص، يعتقدون أنها قوات المفتي العظيم،
وفي لقطة أخري من الذاكرة يظهر رجل
فلسطيني وهو يلقي الشعر، وفجأة يمسك مسدسه وينتحر، يتم إعلان حظر التجول.
داخل منزل العمدة، نشاهده وهو يسأل عن سيارة يمكن أن تأخذهم إلي
الحدود نتعرف علي ابنه الشاب فؤاد وشقيقته نادية
الابن يتلقي رسالة من حبيبته
ثريا تقول له فيها: كم أنت حزين من أجل الوطن سامحني
عزائي الوحيد أن تترك
سلاحك..
أوصيك بنفسك،
وبشقيقتك نادية، يمسك فؤاد بندقيته ويخرج
الإسرائيليون في كل مكان، ينجح
فؤاد
في إنقاذ جريح ويحمله مع صديقه إلي منزل
مهجور، يلاحظ فؤاد أن الجنود مشغولون بسلب بعض محتويات أحد المنازل،
نسمع
من الجرامفون العتيق أغنية ليلي مراد البديعة
أنا قلبي دليلي، الجنود
يلتقطون الصور، يتم اعتقال فؤاد
وزميله، لينضموا إلي شباب معصوب العينين
ومقيد من الخلف، يضربون زميله بأرجلهم،
راهبة تقوم بسقاية المأسورين، يقودون
فؤاد إلي ساحة تحتلها أشجار الزيتون الضخمة التي تعطي التكوين رسوخًا من
رسوخ
الوطن رغم ضآلة البشر، يرفض فؤاد الاعتراف بمكان السلاح، يقوم الجنود
بإلقائه من أعلي إلي وادٍ سحيق،
علي يسار الكادر مازالت الشجرة الضخمة قائمة.
الخروج والعودة
في الجزء الثاني من عودة الذاكرة
تنتقل الأسرة إلي خارج الناصرة،
فؤاد
أصبح عاملاً في محطة بنزين أخته
نادية أصبحت لاجئة في الأردن، لقد تزوج وأنجب ابنه الصغير
إيليا، في
المنفي يتسلل صوت فيروز وهي تغني للبنت الشلبَّية، يظهر جار عجوز يبحث عن كبريت
لكي يشعل النار في نفسه، ويشتم بأقذع الألفاظ، ولكنهم يمنعونه من الانتحار في
كل مرة.
إيليا أصبح تلميذًا في مدرسة للأقلية العربية يغني مع
الأطفال اليهود غدًا سنبني حلمنا..
ربما سنبحر إلي ساحل العاج،
المسئول
الإسرائيلي يزور المدرسة ويشعر بالسعادة لأن الأطفال العرب ينشدون في عيد
بلادي.
صوت فيروز يغني وفؤاد يتعرض لأزمة صحية الطبيب يطلب منه
تخفيف السجائر، لقد أصبح هاويا للصيد -
يصطحب زميله ليلاً
ليستوقفه جنود
إسرائيل ويكررون عليه السؤال عن بلده،
يقول من
الناصرة يسألونه: هل هناك
سمك يقول نعم. يتركونه ويتكرر هذا المشهد عدة مرات تتلاحق المشاهد، نادية
تنضم إلي لجنة لمساعدة اللاجئين، الجار العجوز يقول ساخطا:
لو كان العرب
يشربون لكسبنا الحرب.. إيليا الصغير يشاهد في مدرسته مشهدًا من فيلم
سبارتاكوس محرر العبيد.. صوت راديو القاهرة يعلق تأييد العرب للمبادرات
السلمية.. يموت عبدالناصر الجار العجوز يسكب الجاز علي رأسه ولكن كالعادة
يمنعه الجيران من الانتحار..
الجيش الإسرائيلي يقتحم منزل
فؤاد.. يخرج إيليا
الصغير منزعجًا، يكتشفون أن ما يبحثون عنه مجرد بُرْغُل يستخدم للكبة
والمتبولة.
رسالة من فؤاد لأخته نادية عن إقلاعه عن التدخين بعد
عملية قلب مفتوح، ولكنه ما زال يحاول الصيد،
ويلعب الطاولة.. وقد هاجمه أيضا
السكر الملعون.. في الجزء الثالث، إيليا
وقد أصبح مراهقًا..
يجلس مع زملائه
يراقبون مجندة إسرائيلية عجوزا تصطاد الرجال..
إيليا أخذ مكانه أيضًا علي
المقهي الذي يلعب دورًا مهمًا في الفيلم..
صدامات مع الشرطة في يوم الأرض عام
1976..
فؤاد
ينقل إلي المستشفي ثم يغادرها..
يتركه
إيليا ليحضر له
الدواء.. يستمع فؤاد في السيارة إلي أغنية قلبي دليلي يموت الأب في
هدوء..
إيليا
يتأمله بنفس تعبيرات الدهشة.
في الجزء الرابع يظهر
إيليا سليمان في مرحلته الحالية..
من الواضح أنه تغلب علي العاصفة،
وها هو
يطرق منزل أمه العجوز، يرتدي بيجامته ويستمع لثرثرة الخادمة الفلبينية، أمه
تحدثه عن إطلاق النار والصواريخ..
يعود إلي المقهي ليقابل أصدقاءه،
صورة لـسيد
درويش علي الجدران في عيد الميلاد تخضر شجرة مضيئة، حقنة أنسولين للأم،
هو
وأمه واقفان كأنهما في صورة فوتوغرافية ثابتة.
يتسلل صوت نجاة العذب
أنا باعشق
البحر.. الخادمة تغني إحدي أغنيات سيلين ديون.
انفجارات الصواريخ
النارية.. إيليا يلم ملابسه.. الأم صامتة. تبدو ساهمة وسط الصواريخ
الملونة.. في السيارة إيليا يطلب من السائق أن يذهب به إلي رام الله..
تسمع
أغنية تقول:
سيبوني يا ناس بحالي،
أروح مطرح ما أروح، غزالي سابني لوحدي
أنوح.. فوضي في شوارع رام الله،
جنود يضربون المتظاهرين،
فتاة تقول للجنود في
تحدٍ: أنا أروّح علي البيت؟ إنت اللي تروح ع البيت..
شاب يخرج القمامة،
تتابعه دبابة
جيئة وذهابًا في مشهد عبثي ساخر، شباب يرقص ويغني في داخل مبني
في حين يردد الميكروفون طلب حظر التجول.
إيليا أمام الجدار
العازل، يستخدم زانة طويلة للقفز فوقه..
في المستشفي
إيليا مع أمه،
الأطباء يقولون لها حمدالله علي السلامة..
الأجهزة تحيط بالأم..
تخلع
نظارتها فيضعها ببساطة فوق تمثال للعذراء.
يمسك صورة والده الراحل ويضعها في يد
أمه.. تقوم بخلع الأجهزة التي تمنحها الحياة..
يجلس
إيليا بلا حراك..
يتحول المستشفي إلي ما يقرب من مسرح يتحرك عليه الزوار والمرضي..
يظهر سجين يجر
أحد العساكر.. ينتهي الفيلم البديع.
أربع لوحات هائلة رسمت بصبر
واقتدار تلخص أحداث وطن خلال ما يقرب من نصف قرن..
الحكاية خاصة جدًا ولكنها عامة
جدا وتعبر عن معاناة الأسرة الفلسطينية..
التيمة الأساسية هي الانتظار وكأننا
أمام فصول متكررة من تأليف صمويل بيكيت..
إيليا
ينتظر في التاكسي، والأب
ينتظر أن يصطاد سمكة، ونادية
تنتظر في الأردن،
والجار العجوز ينتظر الموت،
والأصدقاء ينتظرون علي المقهي،
الأم وحدها التي تتخلص من الانتظار فتنزع الأجهزة
التي تربطها بالحياة، الانتظار سيتحول حتما إلي طاقة فعل تجعل إيليا
يقفز فوق
الجدار العازل مستخدما الزانة الطويلة،
وتجعل السجين هو الذي يجر العسكري في
المشهد الأخير.
إيليا الصامت المندهش قد يصرخ في أفلامه
المقبلة، إن صمته أكثر بلاغة من الاحتجاج لأنه يدين العبث والفوضي
واللامعقول،
إنه يواجه العبث بمزيد من السخرية المريرة..
كادارته الثابتة تمسك بالزمن وكأنها
تطلب منه أن يسجل ويحفر، إيليا
مقاوم من طراز خاص،
لقد قرر أن يحارب باستعادة
الذاكرة.. وما تبقي من رائحة المكان والناس والبحر واللهجة والشتائم
والجرامفون
الذي تصدح فيه ليلي مراد
يؤكد أن الوطن باق ما بقيت الذاكرة، وما بقي فنانون
كبار يمتلكون أدواتهم مثل
إيليا سليمان ليصنعوا لنا هذا الفن الخالد!
رز اليوسف اليومية في
14/11/2009 |