علي مدي ما يرقب من
ثلاثة عقود، وبعد كتابته للسيناريو والحوار لمخرجين آخرين،
قدم لنا »رأفت
الميهي« من تأليفه وإخراجه معا اثني عشر فيلما، شكل بها تيارا خاصا في السينما
المصرية، ظل فارسه الأوحد، وإن تجلت ملامحه في بعض الأفلام القليلة جدا لآخرين
من الأجيال التالية لجيله.
فمع مشاركته علي استحياء مع المخرج
»سيد عيسي«
في كتابة سيناريو فيلم (جفت الأمطار) عام ٧٦٩١، وكتابة سيناريو وحوار
قصتين من القصص الثلاث التي ضمها فيلم (صور ممنوعة)
عام ١٧٩١، وأخرجهما »محمد عبدالعزيز«
و»أشرف فهمي« (كانت القصة الثالثة من تأليف واخراج مدكور
ثابت)، أسس أول خطواته الأولي كسيناريست له أسلوبه الخاص في البناء الفيلمي
خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي،
وبصورة خاصة مع المخرج »كمال
الشيخ« في أفلامه الطويلة الأولي وهي: (غروب وشروق)
و(شيء في صدري)
و(الهارب) و(علي من نطلق الرصاص)، فبدت أول ملامح هذا البناء في عنصر
التشويق القائم ليس علي اخفاء معلومة ما عن المتفرج تجعله يلهث
وراء وقائع الفيلم
لمعرفتها، بل بإخفاء هذه المعلومة عن بطل الفيلم لجعل المتفرج متابعا لبطله
وللمواقف التي يمر بها ليعرف الي أي طريق سيصل بطله الغافل عن
العالم، بالسكر
والعربدة كما في الفيلم الأول،
وكراهية الشرف كما في الفيلم الثاني،
ويزداد
الأمر وضوحا في الفيلمين الثالث والرابع مع اضطرار فتي بريء للهرب ممن
عرفوا وقتذاك
باسم زوار الفجر،
ويظل متنقلا من مكان لآخر، أو يصاب في حادث سيارة،
والمشاهد
يتابع عملية الكشف عن الغموض المحيط بالضحيتين، واعيا بأنهما علي حق.
ملمح
المتابعة التشويقية لحركة بطل الفيلم وسط عالمه،
والذي برز بداية في عالم »رأفت
الميهي« السينمائي، عمق وجوده بعنصرين آخرين هما الارتباط الشديد بقضايا
المجتمع وشخصياته من البسطاء من جهة،
والتعامل العقلاني مع وعي المشاهد من جهة
أخري، أدت به للكتابة الكوميدية الساخرة والتي هي بحكم طبيعتها عقلانية
التوجه،
بعكس الدراما الجادة أو الدامعة القائمة علي العاطفة، والمؤثرة علي وجدان
المتلقي قبل عقله،
ويا حبذا الغاء عقله كما في الأعمال الميلودرامية، بينما
تتعامل الكوميديا مع العقل الواعي،
وتقوم من أول النكتة البسيطة حتي البناء
الراقي علي عنصر المفارقة، التي أن أدرك المتلقي جوهرها بذكائه قهقة من
الضحك.
مجتمع عبثي
مع أوائل الثمانينيات انتقل
»الميهي« بسيناريوهاته
من مقعد الكاتب الي مقعد المخرج المسئول عن البناء المرئي السمعي لكتاباته،
فباستثناء فيلمه الأول كمخرج وهو
(عيون لا تنام) المعد عن مسرحية (رغبة تحت
شجرة الدردار)
ليوجين أونيل، فإن رحلته منذ فيلمه الثاني
(الأفوكاتو) مرورا
بـ(السادة الرجال) و(سمك لبن تمر هندي)
و(ميت فل)
و(شرم برم)
وصولا الي (علشان ربنا يحبك)
تجتاحها السخرية المريرة من الواقع، الذي رآه يتحول تدريجيا
الي وجود لا عقلاني،
لا يمكن فهم آلياته والامساك بحركته في الظاهر، ولا يمكن
اعادته لطريق العقل الا بفعل لا يقدر عليه المبدع السينمائي
الفرد، لذا زاد من
حدة السخرية منه، وضخم من أخطائه بصورة كاريكاتورية قربته من عالم
الفانتازيا.
وبأسلوبه الخاص هذا، وبأدوات السخرية من مجتمع عبثي المظهر،
التقطت »الميهي« رواية الكاتب الكبير »خيري شلبي«
الجميلة
(وكالة
عطية)، والتي حصل بها كاتبها علي جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة
الأمريكية بالقاهرة سنويا،
وذلك كأفضل رواية عربية في عام
٣٠٠٢، وتدور وقائها
داخل (وكالة)
شعبية بأطراف مدينة دمنهور، وتسرد هذه الوقائع
بلسان طالب مفصول
من مدرسته، وهي وقائع غرائبية نابغة من غرائب ما يحدث في الوكالة،
ومن
الشخصيات التي تعيش داخلها، ومن أسلوب سرد أحداثها ووصف أفكار وسلوك شخصياتها،
أي بمجمل القول بأسلوب »خيري شلبي« ورؤيته لهذا العالم الخاص المحشور داخل
هذه
الوكالة القديمة، وفي الزمن المحيط بقيام ثورة يوليو
٢٥٩١.
والوكالة والزمن
والحكي عنهما معا ليسا من قبيل الصدفة والاختيار العشوائي من الكاتب، بل تم
اختيارهما منه ليقدم من خلالهما رؤيته فيهما معا، تاركا للمتلقي حق تفسير الوكالة
كمكان مغلق علي ذاته في مدينة دمنهور، أو كمكان مفتوح الدلالة ليمثل المجتمع
المصري بأكمله،
كما يحق له تفسير الزمن علي أنه يجسد زمن قيام الثورة ودعمها
للطبقة البورجوازية الصاعدة،
متناسية فيما يري الكاتب المهمشين في الأرض، فضلا
عن مطاردتها لجماعة الاخوان المسلمين المناوئة للثورة ونظامها
آنذاك، أو قد يفسر
هذا الزمن باعتباره زمنا ممتدا حتي يومنا هذا،
والاهتمام المبالغ فيه بالشرائح
العليا في المجتمع، والذي سحق معه الطبقة المتوسطة،
وزاد من حجم العشوائيات في
أرجاء البلاد.
ويبدو أن »رأفت الميهي«
في استلهامه لأجواء وشخصيات هذه
الرواية في مسلسله المعنون بنفس الاسم قد مال -
بحكم وعيه بمجتمعه وبدور الدراما
المرئية في مخاطبة جمهور الحاضر -
للموقف التفسيري الثاني،
حيث راح يقدم عالم
الوكالة بصورة مضخة تمثل مجتمعا بأكمله، ورغم الاحالات المنظرية للزمن الفائت،
فقد كان حريصا علي عدم تقديم مسلسلا تاريخيا عن الزمن الذي
كان، بل حرص علي بث
روح كلية في المسلسل، لا تقف عند حد الايحاء بحاضر العمل،
بل غلفته بإحساس
صوفي، في محاولة للكشف عن جوهر الرؤية التي تحكم العقل المصري علي مر
التاريخ،
وعبر الأديان والعقائد المختلفة، وكذلك عبر المزج البارع بين الواقعي والمتخيل،
والتناقض الملتبس بين الظاهر والباطن،
والتصادم الواضح بين الشرف
والدناءة.
آدم والشوادفي
يبني »الميهي«
مسلسله بناء ملحميا، تبرز فيه
الشخصيات غريبة التكوين والسلوك أهم من الوقائع الأكثر
غرابة، وتتشابك فيه
الخيوط ببراعة وتسري فيه السخرية العابثة قافزة في قاعة المحكمة،
وفي الأسواق،
وفي اختياره لممثليه من التوائم والأقزام والنكرات يزحم بهم المكان، ويبرز
وسطهم
نجوم كبار، انطلاقا من شخصية طالب مدرسة المعلمين (آدم)
الذي قدمه ببساطة
وعمق »أحمد عزمي«، عاملا علي تجسيد شخصية الفتي الفقير الذي كان يأمل ككل
أبناء الطبقات الدنيا وقتذاك في الصعود بالتعليم الي المستويات
الأعلي،
والوصول
لمرتبة المعلم (الأفندي)،
تيمنا بمسيرة د.طه حسين وأغلب من سلكوا طريق الترقي
دون مال يسندهم،
غير أن عراكه مع معلمه بالمدرسة (صبري عبدالعزيز)،
يؤدي
لطرده من (جنة) التعليم المؤهلة للترقي لـ(دنيا)
وكالة عطية الممتلئة
بالمجرمين والنصابين والفوضويين والحشاشين وحثالة البشر،
ليتقابل مع »شوادفي«
الذي حرص »أحمد بدير« علي تجسيده بصورة فائقة، تتلمس طبيعته الداخلية،و تقدم
صورة لحاكم منطقة يديرها برؤيته الفردية،
ويتحكم فيمن يعيش داخلها، وان بدا
غير غريب الملبس والمسكن عنهم.
بين طالب العلم المفصول وحاكم الوكالة
الفاسد يبرز ابن الأكابر
»سيد زناتي« الذي يستخدم معه »حسين فهمي«
وسامته
وأناقته المصنوعة وسط دمامة الواقع للاحتيال علي الحثالة
والزواج بنسوة يستخدمهن في
التسرية عمن يرون التسرية بالجسد،
والي جانبه تبرز
»انتصار« بخفة ظلها
الشهيرة لتقدم شخصية »بدرية« المتأرجحة بين الجنون والتهور،
و»حنان مطاوع«
التي تملك موهبة أكبر من قدراتها الحرفية،
وان نجحت في تقديم شخصية »سندس«
الطموح المتسلطة المستخدمة لجمالها وذكائها لتحقيق أهدافها الذاتية بعيدا
عن أية
قيم أخلاقية، فطغت بموهبتها علي كل المشاهد التي ظهرت فيها، ونجح »الميهي«
في إبراز هذه الموهبة في سياق بناء العمل دراميا، مثلما قدم كل شخصيات المسلسل،
وفي مقدمتهم المتميزات سلمي غريب وألفت امام ومايا نصري ودانا وولاء شهدي وهذا
الحشد الهائل من الشخصيات الذي أمتعنا بعمل مغاير لما اعتدنا رؤيته علي
الشاشة،
ومخالف للتوقعات، وبحاجة ماسة لجهد من المتلقي،
يدرك معه جوهر رسائله،
ويعي
أن السخرية اللاذعة من عالم المسلسل، ليست لذاتها، ولا للتعاطف مع شخصياته
وظروفها السيئة،
بل للحكم العقلاني عليه وعليها، والبحث
عن عوامل أفضل علي
أرض الواقع.
hassan_attia@hotmail.com
أخبار النجوم المصرية في
05/11/2009 |