لاتزال الشعوب الفقيرة تختزن بذاكرتها الذل والمهانة
واغتصاب النساء التي تعرضت لها من جراء الحروب والاستعمار والنظم
والدكتاتورية،
وهذا ماتقدمه كاتبة السيناريو المخرجة الشابة كلوديا لوسا في فيلم »حليب
الأسي«
الذي يمثل البيرو- بأمريكا الجنوبية-
وحصلت به علي جائزة الدب الذهبي من
مهرجان برلين هذا العام..
ولأول مرة نري السينما البيرووية التي لا نعلم عنها
شيئاً، وقد اختير الفيلم لعرضه في افتتاح مهرجان دمشق
السينائي
الـ٧١.
وفيلم »حليب الأسي«
يسلط الضوء علي فترة عاني فيها الشعب البيرووي
من الذل والاستعباد واغتصاب النساء..
حيث زهقت أرواح الآلاف البيروويين-
حوالي
٠٧
ألف شخص-
بين عامي
٠٨٩١ و٠٠٠٢.
والفيلم أشبه بالفيلم التسجيلي ولكنه
ليس تسجيلياً، فهو عبارة عن أحداث وقعت بالفعل،
فقد أصيبت »فاوستا« التي
تمثل دورها الممثلة الشابة »مجالي سولييه«
ثمرة اغتصاب الأم بمرض انتقل إليها
من حليب الأم.. لكن مرضها لم يكن بيولوجياً، ولكنه نتيجة ما يحل بالنساء اللاتي
تعرضن للاغتصاب والقهر والتعذيب في البيرو،
وبالرغم من أن الأم أخفت سرها عن
ابنتها إلا أن الفتاة عرفت من هؤلاء الذين يسكنون القرية والتي تتداري الأم
خجلاً
منهم بعد أن انغلقت علي نفسها أسيرة لما نالها.
وتصاب الابنة برعب نتيجة ظنونها
أن الاغتصاب سيحدث لها ويميت عفتها..
وتنتشر البكتيريا القاتلة بجسدها الشاب
وتميته، ولكي تمنع الابنة هذا المصير المؤلم فهي تسعي إلي
إدخال ثمرة بطاطس في
فتحة رحمها معتقدة أن هذا سيحصنها، وتردد الأغاني الحزينة التي تقولها الأم تنعي
فيه جسدها وما نالها من خزي وعار، ويمر بخاطرها هؤلاء الذين مهدوا الطريق أمام
الاغتصابات الجماعية للنساء الريفيات اللواتي وجدن أنفسهن بعد
هذا القهر والإحباط
وإساءة المعاملة يحملن أمراض
غريبة تصيب المولود.
وتموت الأم العجوز بين
ذراعي ابنتها وهي تغني أغانيها الحزينة وهو نوع من النواح والتعديد، ويكون
أمام
الفتاة هدفين هما دفن الأم في جذورها ومسقط رأسها بالقرية لتعويضها ما
لاقته من ذل
وهوان، ولكن هذا سيكلفها الكثير لنقل الجثمان،
وهي لا تملك شيئاً.
أما
الهدف الآخر فهو تحصينها من الاغتصاب..
وهي تمشي كالتائهة في رحلة
المجهول.
وتقدم لنا المخرجة شخصية علي النقيض البرجوازي الطبقي لفاوستا وهي
عازفة بيانو جامدة الوجه قاسية القلب..
نفي الوقت الذي تخشي فيه
»فاوستا« أن
يقترب منها أي رجل وتعتبره مغتصباً
يتربص بها-
تقدم هذه السيدة الثرية المهيمنة
علي كل شيء بأموالها-
لكنها تخفي عجزها الجنسي في استمالة رجل يحقق لها أنوثتها،
وتعمل عندها فاوستاكخادمة ، وتطلب منها أن تغني لها الأغاني الحزينة التي تمس
الفقراء من الفلاحات والغلابة..
فتطردها إلي الشارع في مشهد يدل علي أنها امرأة
بلا قلب، وهنا تتعمد المخرجة إدخال الرمزية بالنسبة للاستعمار بعد أن تخل
المرأة
بوعدها عن إعطائها خرزة واحدة من عقد اللؤلؤ كمقابل لكل أغنية
تؤديها.
ويتعرض
الفيلم لحياة سكان قرية ليما وتقاليدها في طقوس الموت والحياة الزواج
والألم الذي
تجسد في شخصية العم المهاجر من القرية إلي المدينة والذي يخفي أصوله
بإخفائه للغته
الإثنية عبر تنظيم حفلات الزواج الفردي والجماعي.
وتجسد كاميرا كلوديا القرية
الجرداء التي تعيش فيها فاوستا،
ضواحيها الفقيرة وترمز إلي عزلتها
وصمتها.
تفشل فاوستا في دفن أمها في مسقط رأسها ورد اعتبارها.. لكنها تستطيع
أن تواجه خوفها وتحصل علي حريتها.
الفيلم نوعية مختلفة من المعالجة حيث تعود
الدراما الواقعية لمجتمع أغرقته الفتن والاضطرابات الإثنية
التي يتحدث لها أهل
القرية والدينية..
حيث تقدم كلوديا سينما الحقيقة والفيلم إيقاعه بطيء يصيب
أحياناً بالملل.وقد استطاعت البطلة ماجالي سوليير أن تؤدي دور فاوستا بكل
براعة، وكان صمتها أبلغ
من أي كلام.
خواطر
كنت متشوقة لمشاهدة هيلما
ساندرز المخرجة الألمانية الكبيرة في مهرجان دمشق الذي اختارها
عضو لجنة تحكيم
المسابقة الرسمية..
وكانت هيلما قد وافقت علي الحضور ونشر لها في كتالوج المهرجان
الـCD
ضمن أعضاء اللجنة.
كنت قد التقيت لهيلما ساندرز في إحدي دورات مهرجان
برلين، وكانت لاتزال في بداية حياتها الفنية في مجال الإخراج لأجري معها
حديث بعد
عرض فيلمها »ألمانيا..
الأم الشاحبة«.. هذا الفيلم أثار جدلاً واسعاً
وردود فعل قوية في كثير من البلدان ومنها ألمانيا،
لقد أحسست وأنا أجري الحديث
معها أنني أعرفها من قبل وأنها صديقة لي، ولكنني أصبت بحالة من الحزن والتوتر
والإحباط الشديد. فقبل الافتتاح مباشرة أرسلت هيلما ساندرز خطاباً مطولاً
تعتذر فيه مصر لمدير المهرجان محمد الأحمر عن حضور بلد كانت تتمني زيارته،
لكن
المرض اللعين أصابها في بطنها وفي مرحلة متأخرة، وبدأت تصاب بآلام رهيبة..
وأنها ستعيش معنا بشعورها..
وتري بقلبها مدينة دمشق..
مدينة الـ٧
بوابات..
وستتذكر ذلك ما بقي لها من عمر.
أخبار النجوم المصرية في
05/11/2009 |