القطار أو "الريل" كما يسميه العراقيون كان وسيلة الرحلة التي استمرت
55 دقيقة من زمن الفيلم الوثائقي الجديد للمخرج سعد سلمان التي بدأت في
بغداد وانتهت في البصرة بوابة الخليج وموطن النخيل وعشاق الغناء ومواويل
السهر والعتاب، ويحفل الفلكلور العراقي بالعديد من الاشعار والغناء عن
الريل الذي يكسر صمت السحر كل صباح بصفيره المحبب الى اذانهم.
خرائب ومياه جوفيه طافحة وبيوت مهدمه وشوارع غير مكسوة ومواطن ضائع
وانعدام كامل للخدمات وعدم الاحساس بالامان وقصص طويلة عن الحروب والموت
والدمار، كلها في فيلم الريل لسعد سلمان الذي قدم لنا عملاً من الجنس
الغريب جمع الدراما والاسلوب الوثائقي في نسق ايقاعي عفوي شيق، وكأنه يوثق
للمشاهد في المستقبل وقائع اللحظة الراهنة، على الرغم من ان الفيلم جاء
باتفاق بينه وبين المؤسسة المملوكة للدولة وهي شبكة الاعلام العراقي على
انتاج فيلمين عن الموضوع ذاته، الا ان عجز المؤسسة حتى اللحظة من تقديم
فيلمها كشف لنا ايضًا حجم الخيبة لمؤسسات الدولة الغنية مقابل جهد فردي
لشخص واحد صور واخرج ومنتج وعرض فيلمه وما زالت المؤسسة تعيد مشاهدة ما
صورته كامرات فريق عملها.
لم يستطع المخرج العراقي سعد سلمان المقيم في باريس منذ أكثر من
ثلاثين عام التخلص من شعور المسافر الذي رافقه على مدار عقود مضت وخصوصًا
عندما عاد الى وطنه مؤخرًا ووجد شيئًا مغايرًا تمامًا لما تحتويه ذاكرته
القديمة من اشكال وصور وبشر وتضاريس وملامح، فاضطر ان يبقى مسافرًا حتى في
مهده الاول، رغمًا عنه وليس لدواع فنية. وما يعزز ذلك رحلته الاولى نهاية
التسعينات من القرن الماضي التي خرج منها بفيلم "بغداد اون اوف" الذي تلبس
فيه ايضا شخصية المسافر القادم من معبر القامشلي المحادد بين كردستان
العراق وسوريا في طريق البحث عن نقطة عبور الى بغداد لم يجدها في حينها
واستمر يتنقل بصحبة سائق تكسي في مدن شمال العراق دهوك واربيل والسليمانية.
ليلة عراقية طويلة تستمر 12 ساعة لقطع مسافة تقدر بـ 500 كيلومتر فقط
كانت كافية لمعرفة المشهد العراقي بكل تفاصيله بواقعية وبدون ماكيير
وسيناريست وممثلين وديكورات باستثناء كامرة وميكرفون وعقل غير مؤدلج يبحث
عن الصراحة والصدق في مجتمع تعطلت فيه جميع الحواس وفقد القدرة على التعبير
والتواصل والحوار.
الوجع كان بطل الفيلم ورافقه في ذلك الامل ايضا والفشل والهم والحزن
واللاجدوى والخوف وفقدان البوصلة والتوهان في جمهورية فاشلة بكل المقاييس
لا ابطال فيها ولا قادة غير الضحايا الذين يظلمون انفسهم ويحكمون انفسهم
ويعارضون انفسهم في تناقض عجيب خارج تمامًا على مناهج التحليل العلمي.
الصدمة تشد المشاهد بقوة لمعرفة نهاية الرحلة وهذه الصدمه صنعها ابطال
الفيلم الحقيقيين والواقعيين تمثلت في حواراتهم واشكالهم ايضًا، احد ابطال
الفيلم كان يمثل الاناقة والمنصب الحكومي وشريحة المثقفين
النرجسيين، والذي اكتشفنا في نهاية الفيلم انه مجرد فقاعة غير فاعلة وغير
متفاعلة لا مع نفسها ولا مع المحيط الصاخب حولها، في الجانب الاخر كان هناك
من هو نائم طوال الرحلة غير مدرك وغير حالم في النهاية، والسخرية السوداء
كانت ميزة العجوز التي مات زوجها في الحرب العراقية الايرانية وتعرضت هي
واطفالها لكل اشكال الحرمان تعتقد ان الشعب يكذب والحكومة لا تكذب اطلاقا
وهي تثق بنوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الذي قالت عنه في خطأ لفظي
انها "اختبرته" وتقصد "انتخبته" وفعلا بسذاجة وصلت الى حقيقه الديمقراطية
والانتخابات بانها اختبار للسياسي، فإذا فشل سوف يطرد خارج الحلبة، في
الوقت نفسه وفي مغالطة لفظية اخرى قالت ان "الرهبان" يقتلون الناس وكانت
تقصد "الارهابيين" وفي حقيقة الامر هي ايضًا اكدت أن فكرة الإرهاب
والارهابيين ضمن عائلة واحدة هي الدين وما يخلفه من تعصب وقتل ورفض للاخر.
شخصيات عديدة من واقع المجتمع مثلت النهم العنيف قام به شخص لم يتوقف
عن الاكل طيلة الرحلة واخر قدم دليلا بين ودامغا على الفساد المالي
والاداري المنتشر بتقديم رشوة الف دولار من اجل أن يقبلوه في سلك الشرطة
واخر عجوز لاهم له في الحياة غير الحصول على دشداشة وعندما حصل عليها من
قريب له كانت قد ارتداها لسنوات من قبل فاعطاها له ممزقة من الاردان ومع
ذلك هو فرح بها وسعيد وهو يعيش في بلد يمثل ثالث احتياطي نفطي بالعالم.
الحرب الاهلية ومخلفاتها كانت ظاهرة في مشاهد الفلم جميعا لكن المخرج
ابرز مشهدًا للحرب الاهلية غير التي يعرفها الجميع والتي تجري وقائعها بين
السنة والشيعة فهذه المرة كانت الاعراف والتقاليد والنظام القبلي العشائري
هو مصدر الصراع والمعركة، فتنشب معركة بين فريقين جراء حوار يستهدف تحديد
العقوبة اللازمة لشخص اتصل بجهاز الموبايل بامرأة وغازلها فما هو عقابه حتى
تكشف لنا هذه المعركة عن التزوير الكبير الذي طال القبيلة وظهور شيوخ قبائل
مزورين يعملون بالاجرة كحال بقية مؤسسات المجتمع.
حاول المخرج محاصرة العراق في فيلمه بالتكنولوجيا الرقمية المذهلة
التي استخدما في تايتل البداية والنهاية التي طوقت الفيلم بكل ما فيه من
قصص الخراب والتخلف التي انتهت بكسر الكامرة المحمولة على يد رجل أمن أحب
أن يسلي عن نفسه بذلك.
إيلاف في
04/11/2009 |