كثيرا ما يتساءل الكاتب بينه وبين نفسه: "لماذا أكتب؟"، وإذا كان من
المفترض أن ذلك يدفعه إلى أن يتذكر دائما أن للكتابة رسالة وهدفا، فكثيرا
ما يتحول السؤال بشكل متشائم إلى أن يكون: "لماذا لا أتوقف عن الكتابة؟"،
لأن الواقع يؤكد فى الأغلب أنك تصرخ فى وادٍ، وليس هناك من مجيب إلا بعض
القراء من رفاق الطريق الذين يريدون أن يصرخوا معك، بينما أصحاب الحل
والعقد فى وادٍ آخر لا تكاد أن تصلهم صرخاتنا، وهى إذا وصلت فإنهم يصمون
آذانهم عنها وعنا، حتى يجعلوك تيأس من الكتابة والصراخ بما يؤلم الوطن،
ليصبح الواقع الذى يريدون أن يفرضوه علينا هو الواقع الممكن الوحيد.
هذا هو الواقع فى عالمنا العربى بكل أبعاده، السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية: "شلة" من أصحاب المصالح يحكمون ويتحكمون، وملايين
تسير فى حركة النمل تكرر اليوم مافعلته بالأمس وماسوف تفعله غدا، وقليل من
المتمردين على هذا الواقع البائس المخزي، ولا أتحرج أن أقول أن العديد من
هؤلاء المتمردين أنفسهم مستعدون لدى أول إشارة من الحكام لكى يأكلوا الفتات
المتبقية على الموائد، ومن هنا تأتى أهمية السؤال: "هل هناك حقا أمل فى
الاستمرار فى الكتابة؟". ولعلك ياقارئى العزيز تعرف الإجابة ضمنا لأنك
ماتزال تقرأ هذه السطور، ولو أنى أخشى أن أجد نفسى يوما وقد "زهقت"، وتجد
نفسك وقد مللت، وانضممنا أنا وأنت إلى أسراب النمل المتحركة وهى واقفة فى
مكانها. أخشى أن نفقد الدهشة أمام الكوارث التى تحدث لنا كل يوم، فنراها
ونردد تلك الكلمة السقيمة: "عادي"، أخشى ذلك لأن مايحدث لنا هو بالفعل غير
عادى على الإطلاق، إنه عبثى وغير منطقى ومجنون ولابد أن يتوقف يوما. إن ذلك
ينطبق على كل تفاصيل حياتنا اليومية، مثلما ينطبق على أحداث لا تتكرر
كثيرا. لذلك شعرت بالصدمة، مرة أخرى وليست أخيرة مادام الواقع السائد
مستمرا، عندما قرأت أن خمسا وستين دولة تقدمت كل منها بفيلم من إنتاجها
للترشيح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، ومن هذه الدول ألبانيا
وبنجلاديش وكولومبيا وكرواتيا وإندونيسيا وكازاخستان ومقدونيا والمغرب
وبيرو والفلبين وبويرتو ريكو وسيريلانكا وفييتنام، ولم أجد مصر فى قائمة
الدول المتقدمة، وحاولت أن أعثر على السبب دون جدوي.
قد يقول قائل أن لجنة المهرجانات بوزارة الثقافة المصرية قد انتهت إلى
أنه ليس هناك بين الأفلام المصرية لهذا العام مايصلح فى رأيها للتقدم
للترشيح، لكن ذلك ليس سببا مقنعا على الإطلاق، فالدول الخمسة والستون
المتقدمة تعرف أنه سوف يتم اختيار خمسة أفلام فقط للترشيح النهائي، وأن
هناك بالتالى ستين فيلما لن تتأهل، لكن مجرد التقدم وعرض الأفلام على آلاف
من أعضاء لجان الاختيار لجائزة الأوسكار يجعلك تحت الضوء بشكل ما، وأستطيع
هنا أن أعد بعض الأفلام المصرية التى قد تصلح للتقدم، حتى لو كان لدى
ملاحظات نقدية عليها سبق أن نشرت بعضها، ومن هذه الأفلام "زى النهارده"
و"الوعد" و"واحد صفر" و"عين شمس" و"الفرح" و"إحكى ياشهرزاد"، على سبييل
المثال لا الحصر. بل إن لجنة المهرجانات ترسل بالفعل بعض هذه الأفلام للعرض
فى مهرجانات عالمية، فلماذ وجدت نفس اللجنة أن التقدم للأوسكار مستحيل حتى
تختفى السينما المصرية تماما من قائمة الخمس وستين دولة؟
أعرف أن حال السينما المصرية اليوم لا يسر، وأنا من المنتقدين
لأفلامها الأخيرة، ولفقدانها الرغبة والقدرة فى الإبداع الحقيقي، وأرى أنها
حتى فى أفضل أحوالها وأفلامها تخلفت كثيرا عما يحدث فى السينما فى العالم
كله، وهو انعكاس لتخلف أكبر وأعم فى أحوالنا، ولظاهرة مرضية غريبة من
الانكفاء على الذات والاكتفاء بها، وانقطاع عن العالم يكاد أن يصل إلى درجة
الجهل بما يحدث فيه، فى الوقت الذى تزداد فيه سعادتنا بهذا الجهل. لكن ألم
يكن من الممكن أن نكسر هذا الحاجز بيننا وبين العالم بالتقدم، مجرد التقدم،
للترشيح للأوسكار، ليس باعتبارها الجائزة الأفضل، لكن من المؤكد أنها
الأشهر، وهى تمثل ساحة للقاء والالتقاء بين صناعات السينما فى العالم على
نحو قد لا تشهده مسابقة أخري، وفيها يمكن أن نشاهد ونقارن ونخرج بنتائج
ونجيب على الأسئلة: لماذا قد لا تفوز أفلامنا بينما تنجح أفلام أخري؟ وكيف
يمكن أن نرتقى بصناعتنا السينمائية فى الجانب الإبداعى برغم تواضع
إمكاناتنا، كما حدث فى بلدان أخرى مثل إيران ودول أمريكا اللاتينية وبعض
دول شرق آسيا؟ وماهو الفكر السينمائى الذى يجب أن نتبناه لكى نحقق ذلك؟ وهل
يمكن لمثل هذا الفكر أن يتجاوز الواقع السياسى والاقتصادى كما يفعل
السينمائيون الإيرانيون برغم القيود التى يعانون منها؟
مصدر عجبى ودهشتى أن التقدم للأوسكار لا يحتاج إلى أية شروط لا نستطيع
تلبيتها، والشروط منشورة على موقع "أوسكار" على الإنترنيت، وأرجو أن تكون
لجنة المهرجانات عندنا قد قرأتها بعناية، لأننى أعتقد أنها تصورت وجود شرط
لا نستطيع الوفاء به! (عندى ماأقوله هنا لكننى سأؤجله حتى تصرح اللجنة
بأسبابها). وإليك ياعزيزى القارئ ملخصا وترجمة تكاد أن تكون حرفية لهذه
الشروط: يكون الفيلم المتقدم لفرع مسابقة الفيلم الأجنبى فيلما روائيا
طويلا، تم إنتاجه خارج الولايات المتحدة، وناطق فى الجزء الأكبر منه بلغة
غير الإنجليزية، على أن توضع ترجمة بالإنجليزية على الشريط، ويكون الفيلم
قد عرض فى بلده الأصلى عرضا تجاريا، فى نسخة سليولويد أو رقمية، بين الأول
من أكتوبر 2008 والثلاثين من سبتمبر 2009 لسبعة أيام متتالية على الأقل،
على ألا يكون قد تم عرضه على شاشة التليفزيون أو على شبكة الإنترنيت قبل
عرضه فى دور العرض التجارية، ويكون صناع الفيلم من المواطنين أو المقيمين
فى البلد المنتج، ويسمح لكل بلد بالتقدم بفيلم واحد فقط، مع تقديم معلومات
ومنشورات عن هذا الفيلم، مع قائمة بأعضاء لجنة المهرجانات تثبت علاقتهم
الوثيقة بفن وصناعة السينما... وأتمنى الآن أن أعرف ماهو الشرط الذى عجزنا
عن أن نلبيه لكى لا نتقدم بفيلم واحد، فى الوقت الذى تقدمت دول لم تبدأ
صناعة السينما فيها إلا بعد نصف قرن من صناعة السينما المصرية؟!
تحولت دهشتى وعجبى إلى غصة فى القلب ومرارة فى النفس عندما علمت أن
إسرائيل لم تفوت الفرصة، كعادتها طوال السنوات الأخيرة، فى التقدم بأحد
أفلامها للأوسكار. والأكثر إثارة للدهشة أنها لم تقم باختيار فيلمها
"لبنان" الذى نال شهرة عالمية عندما حصل على الجائزة الذهبية فى مهرجان
فينيسيا الأخير، بل فضلت أن تضيف فيلما آخر لقائمة أفلامها التى تسعى بها
للحصول على سمعة أوسع وأعمق فى مجال صناعة السينما. وإذا كان لدينا أربعون
فيلما فى عام كامل لم نرشح منها واحدا، فإن إسرائيل التى تنتج عشرة أفلام
فقط وجدت عدة أفلام اختارت من بينها فيلم "عجمي" الذى اشترك فى كتابته
وإخراجه ومونتاجه الشابان: الفلسطينى إسكندر قٌبْطِى والإسرائيلى يارون
شَنِى فى أولى تجاربهما السينمائية.
حاشية ليست على الهامش: فى عدد جريدة "المصرى اليوم" بتاريخ 28 أكتوبر
أراد الزميل الناقد سمير فريد، لسبب ما يعلمه وحده، الهجوم على دولة قطر
ومهرجانها السينمائي، وكانت من بين اتهاماته أن رئيس المهرجان إسرائيلى هو
إسكندر قُبطي، ولا أدرى إن كانت تلك خفة أم استخفافا، فسوف يسير على نهجه
كثيرون دون التحقق من أن قُبطى من عرب 1948، مثله مثل هانى أبو أسعد ومحمد
بكرى وملايين آخرين، فهل نتعامل معهم باعتبارهم إسرائيليين؟ وهل هناك ما
يشير إلى تهافت التعامل العربي، والمصرى خاصة، مع القضية الفلسطينية ماهو
أكثر من ذلك الموقف الذى يتعامل معها باعتبارها مجرد ورقة للتلاعب أو
التجاهل؟!!
أعود إلى فيلم "عجمي" الذى حرصت على البحث عن نسخة منه على شبكة
المعلومات الدولية حتى حصلت عليها، وكانت مفاجأة أن أكثر من ثلاثة أرباع
الفيلم ناطق باللغة العربية باللهجة الفلسطينية، بينما توجد بعض مشاهد
قليلة بالعبرية، لم أتمكن بالطبع من استيعابها كاملة، وإن استطعت أن أصنع
فكرة عنها من خلال بعض المراجعات النقدية للفيلم. إن "عجمي" هو اسم حى فقير
فى مدينة يافا جنوب تل أبيب فى فلسطين المحتلة، وإذا قلت لك أن الفيلم ذو
ميزانية منخفضة بشكل لا يصدّق فربما لن تصدقنى حتى تشاهده، والجهد الأكبر
فيه ليس إنتاجيا بل هو جهد إبداعى خارق، قد يكون متأثرا ببعض تجارب
سينمائية عالمية (وهذا ليس عيبا على الإطلاق، وياليتنا نتأثر بها نحن
أيضا)، لكنه يتسم بقدر هائل من العفوية والأصالة. لقد قام بعض النقاد
الغربيين بصنع مقارنات بينه وأفلام أخري، مثل الفرنسى "الكراهية"
والبرازيلى "مدينة الرب" والأمريكى "كراش"، لكن الأهم هو أنه يتحدث إلى
المتفرج بشكل مباشر وحميم تماما، ويكاد أن يكون تسجيليا، عن واقع هذا الحى
وسكانه، وأغلبهم من العرب والقليل منهم من الإسرائيليين. يبدأ الفيلم بمشهد
صادم: شاب عربى يغير إطار سيارته إلى جانب منزله، وفجأة تمر دراجة نارية
تصرعه بالطلقات المنهمرة وسط لوعة أسرته، ليتضح أنه موت عبثي، وأن المقصود
به شخص آخر فى سلسلة من حوادث الثأر بين عائلات فلسطينية لا تزال تسيطر
عليها تقاليد البداوة. من تلك النقطة تبدأ الأحداث فى التلاقى والتباعد
والتشابك، وأغلب الشخصيات شبان فلسطينيون يجدون أنفسهم وسط شبكة معقدة من
العنف: هناك الشاب عمر (شهير كبها) الذى يكتشف أنه مطالب بدفع فدية باهظة
حتى ينجو من الثأر، والفتى مالك (ابراهيم فريج) الذى تسلل من الضفة الغربية
للعمل سرا فى يافا على أمل جمع المال اللازم لعلاج أمه من السرطان، والشاب
بنج (إسكندر قُبطى المشارك فى صنع الفيلم) الذى يدل اسمه على عشقه الغياب
فى المخدرات، ورغبته فى الهروب من واقعه بالهروب إلى قصة حب مع فتاة
إسرائيلية، وأخيرا هناك الرجل المسيحى الفلسطينى أبو إلياس (يوسف سهواني)،
صاحب السطوة والكلمة المسموعة فى أوساط هؤلاء البؤساء، والذى يملك المطعم
الذى يعمل فيه عمر ومالك، لكنه يكتشف أن عمر على علاقة عاطفية بابنته هدير
(رنين كريم)، مما يدفعه لمحاولة التخلص منه بالضغط على مالك لكى يشى به فى
جريمة اتجار بالمخدرات، لكن النتيجة تكون مصرع الصبى البريء نصرى (فؤاد
حبش)، شقيق عمر، الذى نرى جزءا من الفيلم من وجهة نظره كما نسمع على شريط
الصوت تعليقه بين الحين والآخر على الأحداث. أما فى الجانب الإسرائيلى
فهناك ضابط الشرطة دندو (عيران نعيم) الذى يعيش مأساة شخصية بسبب اختطاف
شقيقه الأصغر المجند، بما قد يوحى للمتفرج ببعض التشابه مع واقعة جلعاد
شاليط.
لست هنا فى مجال التقييم السياسى للفيلم، خاصة مع عدم وجود ترجمة
للجزء الناطق بالعبرية، وإن كان لا يفوت علينا أن وجود الضابط الإسرائيلى
بتلك المأساة التى يعيشها، ويستفيض الفيلم فى رسم ملامحها "الإنسانية"
بأسلوب واقعى شديد التأثير، سوف يتسلل إلى لا وعى المتفرج بفكرة أن الشخصية
الإسرائيلية الوحيدة فى الفيلم هى "الأرقي"، وأن عنفها ضد الفلسطينيين
"مبرر"، دون أن يترك الفيلم فرصة لكى يجعلك تسأل عن وجود إسرائيل أصلا فى
أرض تحتلها وتقمع شعبها. لكن المدهش حقا أن الممثلين جميعهم غير محترفين،
فى ملامحهم ترى وجوها مألوفة من الحياة بلا أى جمال سينمائى مصطنع، وأداؤهم
جميعا شديد الواقعية والتلقائية، كما تم التصوير فى الأماكن الطبيعية
بكاميرات محمولة ومن خلال الضوء العادى المتاح. تأمل على سبيل المثال
استراق النظرات واللمسات البريئة بين المسلم عمر والمسيحية هدير، فتلك
لحظات بالغة الرقة لن تنساها لعمق الصدق فى التعبير عنها، كما سوف يبقى فى
وعيك أثر الفقر والقهر على الجميع، بما يدفعهم أحيانا إلى الموت أو الخروج
على القانون دون سبق الإصرار، كأنهم وجدوا أنفسهم فى مصيدة لا فرار منها،
وتسأل نفسك بعد هذا كله إذا كان من الممكن أن يستمر هذا "المجتمع" وهو
يحتشد بكل هذه التناقضات غير الإنسانية.
هذا هو ما تصنعه من أفلام "إسرائيل"، العدو الأول للأمة العربية، وتصر
على عرضها فى كل المهرجانات والمسابقات العالمية. (لقد سبق لفيلم "عجمي"
عرضه فى نصف شهر المخرجين فى مهرجان "كان" الماضي). ولا مفر من الاعتراف
بأنها تنجح فيما تخطط له، بينما مايزال الفشل حليفنا حتى الآن، ليس لأننا
نفتقر إلى الخبرات الإبداعية، ولكن لأن أصحاب القرار لدينا يريدوننا غير
مبدعين، يريدوننا أرقاما يتلاعبون بها كما يشاءون، وتكفينا مسلسلات رمضان
وأفلام الصيف! إن هذه المفارقة المريرة ياعزيزى القارئ هى مايدفعنى إلى
الاستمرار فى الكتابة حول ضرورة مواجهة هذا التحدي، وأنا أعرف وأعترف أننا
لن ننجح فى ذلك إلا إذا غيرنا السياق الذى نعيش فيه، من حالة الهوان التى
نحياها إلى استعادة كرامتنا الإنسانية، ولن يأتى هذا التغيير ممن كانوا
السبب فى هذا الهوان، لذلك فإننى لا أتوجه إليهم، بل إلى القارئ، الذى
أتمنى ألا نتخلى ـ أنا وهو ـ عن الدهشة والرفض، لعلنا نستطيع يوما أن نصنع
هذا التغيير، نحو عالم ووطن أظل أحلم أن يكونا أكثر جمالا وعدلا.
العربي المصرية في
03/11/2009 |