كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

أحمد زكي.. "المتفرد"

( 13 )

 بقلم: هبة الله يوسف

الجريدة الكويتية

في رمضان.. سير وحلقات في الصحافة اليومية الكويتية

   
 

«التألق»

 
 
 
 
 
 
 
 

أحمد زكي... «المتفرد» (13-15)

التألق

هبة الله يوسف

قدم الأسطورة أحمد زكي أعمالاً فنية جعلته فارساً من فرسان السينما الكبار، سكن القلوب بموهبته وصدقه، بعزيمته ومثابرته، واستطاع أن يعبّر عن جيل السبعينيات الذي عاش سنوات ما بعد النكسة، سنوات القلق والضياع، وأصبح مع بداية الثمانينيات هو النجم المتألق ضارباً بمواصفات الفتى الأول عرض الحائط، وفي التسعينيات واصل تحطيم الحواجز وإدهاشنا بتجسيده لشخصيات متفردة، ومن دون أن يكرر نفسه.

المتابع لمشوار أحمد زكي لابد أن يلمس أنه أحد الفنانين القلائل الذين استطاعوا الموازنة بين النوعية التجارية والفنية، وحسبما اعترف في حواراته، فإنه كان يقصد هذا التنوع.

في حوار سابق قال الراحل أحمد زكي: «عندما أوافق على فيلم أدرك تماما قيمته، فعندما قدمت مثلا «الراعي والنساء»، كنت أعرف أنه لن يحقق نفس النجاح الجماهيري الذي حققه «كابوريا» أو «الامبراطور»، كذلك عندما قدمت «زوجة رجل مهم» و«البريء» كنت أدرك أنهما لن يحققا نفس نجاح «شادر السمك» أو «البيه البواب»، فإذا قدمت عملا يعجب الناس، أحرص على أن يرضي التالي الفنان داخلي، ولا يعني هذا أنني لم أسعد بالأعمال الجماهيرية، أو أعتبرها دون المستوى فنيا مقارنة بتلك التي حققت النجاح الجماهيري، فقط كنت حريصا على أن أقدم كل الأنماط والأنواع خلال مشواري الفني، والأهم أن أثبت للجميع أن الدور الذي قد يبدو بسيطا يحتاج إلى مجهود ربما أكبر من غيره، باختصار، كل أدواري ساهمت في صناعة تاريخي.

مشوار الفتى الأسمر مليء بالمحطات المضيئة... عنها نواصل.

بعد غياب استمر خمس سنوات بين المخرج عاطف الطيب والعبقري أحمد زكي خسر فيها المشاهد والمكتبة السينمائية أعمالا كانت لتثريها بالتأكيد، أخيرا التقيا مجددا من خلال فيلم «الهروب»، أحد أهم الأفلام المصرية، وليس فقط التي قدمها زكي خلال مشواره الفني، سواء بمفرده أو مع الطيب.

الطريف أن أسطورة السينما المصرية، الذي أبدع في دوره بهذا الفيلم، لم يكن هو المرشح الأول للعمل، حسبما أكد مؤلف الفيلم مصطفى محرم.

عن هذا الفيلم قال السيناريست محرم: بعد أن انتهيت من كتابة الفيلم كان الاتفاق بيني وبين الطيب ومنتج الفيلم على ترشيح الفنان عادل إمام للبطولة، خصوصا أن البطولة النسائية في الفيلم ليست كبيرة، فالقصة كلها تنقسم بين المتهم والضابط الذي تربى معه في إحدى قرى الصعيد، وقد تم ترشيح الفنان صلاح السعدني في دور الضابط، وفي البداية رحب عادل إمام بالتعاون مع فريق العمل، لكنه تقاعس في الرد، وفي النهاية اعتذر، ولم نتوقف على السبب الحقيقي لرفضه، هل لم يعجبه السيناريو، أم بسبب دور الضابط الذي لا يقل أهمية عن دور المتهم، لكنني استبعدت السبب الأخير، لأن إمام سبق أن شارك الفنان حسين فهمي بطولة فيلم «اللعب مع الكبار»، وكان دورا كبيرا ومهما، ولم يعترض.

ويواصل محرم سرد قصة «الهروب» وكيف وصل إلى النمر الأسود قائلا: «كان المرشح الثاني هو النجم المحبب لعاطف الطيب، الفنان نور الشريف، إلا أنه اعتذر بسبب ما يتطلبه الدور من حركات عنيفة والقفز فوق الأسطح، فقد كان يعاني في تلك الفترة آلاما في ظهره، وكانت تؤثر على ساقه في الحركة، وفي رحلة البحث عن بطل فوجئنا برفض الرقابة للسيناريو، فقام منتجه بإحالته للجنة التظلمات التي أجازته بعد شد وجذب، وفي النهاية استقر الأمر على الفنان أحمد زكي، لكنه طلب بعض التعديلات على السيناريو، تحديدا بعض المشاهد الافتتاحية التي تتعلق بنشأته وسبب قدومه من الصعيد للقاهرة، وعلاقته برجل الأعمال الذي يعمل لديه، وفي البداية رفضت هذه التعديلات، لأنه يمكن تفهمها من سياق الأحداث، لكن مع إصرار الطيب خضعت لرغبته، ثم تبدل صلاح السعدني بالفنان عبدالعزيز مخيون لأسباب تتعلق بميزانية الفيلم، واضطر الطيب لحذف بعض مشاهده، حفاظا على إيقاع العمل.

الغريب أن الفيلم حصل على أكثر من جائزة، حيث حصد البرونزية من مهرجان فالنسيا الدولي، والجائزة الثانية من مهرجان القاهرة السينمائي، بينما العبقري أحمد زكي خرج من هذه المهرجانات وغيرها خالي الوفاض، على الرغم من أنه «لم يمثل في حياته الفنية مثلما مثّل في هذا الفيلم»، وفقا لكثير من الآراء النقدية التي أجمعت على أنه قدم في هذا العمل واحدا من أفضل أدواره، حتى أن الموسيقار مودي الإمام اعترف بأنه استلهم موسيقى الفيلم من نظرة عين لأحمد زكي في أحد المشاهد، تحديدا حينما كان يجلس على سطح القطار، حتى أنه سأل الطبيب عن مدة هذا «الشوط» حتى يتوافق وزمن الموسيقى، الدور أيضا تحول لأيقونة ألهمت العديد من النجوم الشباب الذين «استنسخوا» منتصر في عدد من الأعمال.

ختامه مسك

يبدو أن المخرج عاطف الطيب كان يشعر بأن العمر لن يمتد به ليكمل أحلامه الفنية، لذا كان يعمل على أكثر من مشروع في نفس الوقت، وبدأب كان يتعجب له الجميع، فبينما يصور فيلما كان يحرص على متابعة آخر قيد الكتابة، ومن الأحداث المحيطة يلتقط فكرة يعهد بها ثالث يقوم بكتابتها، ثم جلسات عمل تجمعه بهذا الفريق أثناء مونتاج فيلمه الجديد، وهكذا لم يحتمل قلبه كل هذا الجهد فتوقف عن النبض وعمره لم يتجاوز 48 عاما.

بعد نجاح «الهروب»، تحمس منتجه للتعاون مجددا مع الطيب والموهوب الأسمر في فيلم «ضد الحكومة» أو «مافيا التعويضات»، وفقا لاسمه الأول الذي كتبه بشير الديك عن مجموعة مقالات للكاتب الصحافي وجيه أبو ذكري (والد المخرجة كاملة أبو ذكري) عن محامي التعويضات الذي يستغل حوادث الطرق للمطالبة بتعويضات لأسر الضحايا من شركات التأمين، إلا أن هذه التعويضات لا تصل لمستحقيها ولكن لجيوب مصطفى خلف المحامي وزملائه الذين يتلاعبون بالقانون لمصلحتهم، وهو الدور الذي لعبه باقتدار الفنان أحمد زكي، صاحب فكرة الاسم، فبعد أن قرأ السيناريو قال طيب «أنا ولبلبة كدا هنبقى ضد الحكومة»، فلمعت عينا الطيب وصرخ قائلا: «هذا هو اسم الفيلم»، وعبثا حاول بشير الديك كاتب السيناريو إقناعه بالعدول عن الاسم خوفا من الصدام مع جهاز الرقابة، إلا أن الطيب تمسّك بالاسم، وكذلك الفنان أحمد زكي.

هذا الفيلم شهد إعادة اكتشاف الفنانة لبلبة في دور غيرت من خلاله جلدها الفني تماما، فبعدما عرفها الجمهور في الأدوار الاستعراضية والمرحة، رشحها الطيب بحماس شديد في هذا الدور، رغم اعتراضات المنتج ونظرات الاستغراب من الجميع وفي مقدمتهم لبلبة نفسها، إلا أن رهان الطيب كان صادقا ونجحت لبلبة في أن تلفت الأنظار لأجزاء خافية من موهبتها، كذلك واصل الفتى الأسمر تأكيد موهبته وقدرته المذهلة على إعادة تقديم أي شخصية برؤية مغايرة.

الفيلم الذي كان بمنزلة ثورة ضد الفساد والظلم وقتها، تحديدا ما جاء في المرافعة الشهيرة «كلنا فاسدون»، التي قالها بطل الفيلم مصطفى خلف في نهاية الأحداث مختصما فيها الحكومة وأجهزتها، ومطالبا بضرورة محاسبتهم بوصفهم المجرمين الحقيقيين في حادث أتوبيس الطلاب، ظلت أصداؤها تتردد مع كل كارثة يروح ضحيتها عدد من المواطنين جراء الإهمال والفساد، مما يؤكد أن الفن الصادق يسكن القلب قبل الذاكرة.

الطريف أن تلك «المرافعة» كانت سببا في خلاف بين بطل الفيلم ومخرجه، حيث رغب زكي في أن يتم تصوير المرافعة «كلوز»، أي بلقطات مقربة من الوجه وتبرز ملامحه بصورة أوضح، مما يتيح للأسمر الموهوب أن يقول المرافعة بكل ما لديه من مشاعر وأحاسيس، أو على حد توصيفه «بكل خلجاتي وجوارحي»، إلا أن الطيب ووفقا لرؤيته الإخراجية التي انتصر لها في النهاية، أصر على أن يبدأ من وجه زكي، ثم يرتفع بالكاميرا حتى نشاهد القاعة كلها، وعبثا حاول زكي إقناعه، دون جدوى.

رؤية خاصة

في كل مرة كان يتيح لي محاورة الراحل الموهوب كنت أستجمع شجاعتي لأطرح عليه سؤالا يحيرني دائما، هل فعلا كان «مشاغبا» داخل البلاتوه، وفقا لما تردد من حكايات؟، وأنه يسعى لفرض وجهة نظره على العمل الفني؟ إلا أن العبقري الموهوب نفى تماما أي اتهامات بالمشاغبة أو بفرض السيطرة.

وقال الراحل في حوار سابق: متعتي الحقيقية كانت أن أعمل سينما صح فيها كل شيء صح من الألف للياء؛ ديكور، وتصوير، ومجاميع، ومزيكا، وكل شيء يبقى صح، كنت أريد أن أكسب من السينما وأصرف عليها، وأغطي «الديفوهات» السينمائية الكثيرة التي أراها في أفلامي وأفلام غيري، أنا لا أناقش لفرض رأي، لكن هدفي دائما «مصلحة الفيلم، إلا أن البعض مع الأسف لديهم اعتقاد بأن الممثل مجرد آلة يجب ألا يتكلم.

وواصل في الحوار نفسه قائلا: قرأت مرة مقالة عن أنتوني كوين اختلف مع مخرج أحد أفلامه، بعدما طلب منه أن يركب الحصان بالشكل الفلاني، اختلف معه أنتوني كوين لأنه كان يريد أن يركبه بطريقه أخرى، وبالفعل اختلفوا كثيرا، ولكن بعد تصوير اللقطة اعترف المخرج بأن النجم العالمي كان محقا، فهل معنى ذلك أن أنتوني كوين «بيخرج»؟ طبعا لا، لكن الممثل لابد أن يكون فاهما وحساسا.

واقعية

وبينما كان سائق سيارة أحمد زكي يقف في جراج الفندق الذي يقيم فيه النمر الأسود، فوجئ بشخص يرتدي ملابس «مهلهلة» ويغطي وجهه بقبعة كالتي يرتديها عدد من صيادي السمك، ممسكا بقطعة من القماش ويبدأ في تنظيف زجاج السيارة، وقبل أن ينهمك الرجل الغريب في تنظيف أجزاء أخرى من السيارة، خرج السائق مسرعا ليدفعه بعيدا، بعدما ارتاب في أمره، إذ لم يلمحه من قبل يعمل في الجراج، غير أنه لم يتمالك نفسه ووقف مذهولا، بعدما اكتشف أن هذا الغريب الغامض ليس إلا الفنان أحمد زكي، متنكرا في زي «سائس»، وهي الشخصية الجديدة التي يجسدها في فيلم «مستر كاراتيه».

كان زكي يريد أن يتأكد هل سيقنع سائقه بأنه فعلا «تلبّس» الشخصية، أم لا، وبعد أن وقف يستمع لملاحظات، طلب منه أن ينادي على العاملين في الجراج، وكرر أمامهم نفس المشهد من دون أن يعرفوا أنه الأسمر الموهوب، حتى كاد أحدهم يشتبك معه ويطرده بمجرد أن شاهده ينظف السيارات.

في هذا الفيلم، الذي يعد اللقاء الخامس الذي جمعه بصديقه اللدود محمد خان مخرجا، ورؤوف توفيق مؤلفا، حرص زكي على تعلّم فنون رياضة الكاراتيه لدى مدرب متخصص، كما شاهد أفلاما عديدة لعب بطولتها أبطال كاراتيه، مثل جاكي شان، ليتمكن من تجسيد الشخصية بصدق، وهو ما نجح فيه.

التباين الواضح في أنماط الشخصيات التي اختارها أحمد زكي وبرع في تجسيدها ساعده بلا شك في تأكيد موهبته من دور لآخر، حتى أن البعض كان يقف مذهولا أمام قدرته على تقمص شخصيات قد تبدو للبعض «عادية»، لكنها تتحول على يديه لكتلة من المشاعر والأحاسيس، وعندما تسأله: كيف؟ كان الراحل الموهوب يعلق ضاحكا: أنا شوية شخبطة سهل تشكيلها إذا لعبت بها على هذا النحو، فتخرج لك شخصية بواب، ولو لعبت بها بطريقة أخرى ستخرج منها بشخصية ضابــــط، ولو قلبتهــــا حتطــــلـــــع بـ حسن هدهد، أو منتصر، أو... أو..».

هكذا وببساطة يلخص قدرته على «التشخيص» والانتقال من نمط لآخر وبمنتهى السلاسة، يختار ما يشعل حماسه من بين عدد ضخم من الأعمال، إلا أنه رغم هذا التدقيق الذي يعتمد بالأساس على نماذج إنسانية يتفاعل معها، فإن تفرده كممثل مجد ومجتهد لم يضمن أن تحقق بعض هذه الأعمال النجاح الذي يحلم به، مثل تجربته في «الباشا» مع المخرج طارق العريان، حيث واجه الفيلم هجوما نقديا كبيرا بسبب الأجواء التي جرت فيها أحداث الفيلم، والتي اعتبرها البعض غريبة على مجتمعنا المصري، رغم حرص زكي على التحليق بدور الضابط بعيدا عن النمطية، وأن يمنح الشخصية الكثير من الثراء الإنساني، فهو ضابط مشاغب تم إبعاده من شرطة المخدرات للآداب، لعدم التزامه بالتعليمات، زوجته تراه فاشلا لأنه لم يستطع أن يوفر لها المستوى المادي الذي تحلم به، لكنه يبدو دائما مقتنعا بما ينتصر له من قناعات.

تجارب أخرى لم تلق قبولا أيضا وتعرّض بسببها لهجوم رغم محاولاته الدفاع عن وجهة نظره في اختيارها مثل «أبو الدهب»، للمخرج كريم ضياء الدين، «استاكوزا» مع إيناس الدغيدي، «حسن اللول» إخراج نادر جلال، «نزوة» مع علي بدرخان، «هيستيريا» من إخراج عادل أديب، «البطل» لمجدي أحمد علي، وعلى الرغم من تباين مستويات هذه الأعمال، إضافة إلى أنها تناقش في النهاية قضايا اجتماعية برؤية قد نتفق أو نختلف عليها، إلا أن جمهور «البريء» و«الهروب» و«زوجة رجل مهم» وغيرها من تلك الأعمال التي كانت وستظل محفورة بالوجدان وذاكرة السينما لم يغفر لزكي تقديمها وتعرّض بسببها لانتقادات حادة.

وخلال حوار قال الراحل: أنا لست المسؤول الأوحد عن الفيلم، وهذا ليس هروبا أو تنصلا من المسؤولية، لكن العمل الفني صناعة مشتركة، والتمثيل أحد هذه العناصر وفقط، فمثلا ترهّل إيقاع الفيلم مسؤولية المخرج والمونتير، وتفاصيل أخرى كثيرة خارجة عن إرادة الممثل، ولا دخل له فيها، وربما يفاجأ بها مثل الجمهور تماما، وعليه فإن تحميل الممثل كل الأخطاء أمر لا يمكن قبوله أبدا.

ضريبة النجاح

أثناء تصوير أحد مشاهد «الملاكمة» في فيلم «البطل» للمخرج مجدي أحمد علي، كان التصوير قد امتد حتى ساعة متأخرة من الليل في إحدى ليالي الشتاء الباردة، وكان عليه أن يظل واقفا بملابس الملاكمة في هذا الطقس البارد، ولم يجد أي وسيلة لتدفئة جسمه سوى تناول أكواب القرفة باللبن الدافئة، التي ساعدته على الوقوف عاريا لساعات طويلة أمام الكاميرا.

·     رغم أنه كان صائد الجوائز فإنه اهتم بآراء الجمهور أكثر من النقاد

·     مودي الإمام استلهم موسيقى فيلم «الهروب» من نظرة عين زكي في أحد المشاهد

·     لماذا أشعلت «المرافعة الشهيرة» الخلاف بين الطيب والأسمر؟

·     تقمص شخصيات قد تبدو للبعض «عادية» لكنها تحولت على يديه إلى كتلة من المشاعر والأحاسيس

 

الجريدة الكويتية في

09.06.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004