-
شخصياته وان بدت معزولة
فأنها ترى نورا في آخر النفق
-
بدأ حياته قسيسا ثم عاملا في شركة التلفونات وانتهى
مخرجا
عالميا
-
المودافار خرج من كان بلا
اية جائزة
مشهد يومي يتكرر في (كان) هو مشهد الحشود من مختلف الأعمار والأجناس وهم
ينتظرون امام صالات العرض لمشاهدة افلامهم المفضلة من بين عشرات الأفلام
التي يجري عرضها في العديد من صالات العرض القريبة والبعيدة ، كنت ساعتها
اقف مع تلك الحشود منشغلا بكم المطبوعات الكبير الذي يوفره المهرجان
لرواده ..لكن ليس مشهدا يوميا يتكرر ان ترى المخرج الأسباني الكبير بيدرو
المودافار وهو قادم بكل تواضع لغرض حضور الفيلم الذي كنت انوي وغيري
مشاهدته ، لم يسبقه سكرتيروه ولا حراسه ولا مضيفوه ، بل كان لوحده بصحبة
صديق له ، ولم يشأ ان يتجاوز الحراس والأداريين الذين ينظمون دخول المدعوين
وسائر المشاهدين ، بل توقف عندهم واستأذنهم ولكن لم يعر له الحارس انتباها
في البداية اذ كان مشغولا في اجابة سيدة تهم بالدخول ..ثم تنبه اخيرا
واعتذر من المودافار وسمح له بالدخول لنتبعه نحن كذلك بعد دقائق..
هذه هي المرة الأولى التي ارى المودافار عن قرب ، كان بسيطا متواضعا ابتسم
لمن حياه من الجمهور والتقط الصور معهم رغم انه كان على عجل ، متواضع في
ملبسه وتحيته للجميع ..وتلك هي بساطة المودافار المحملة بالمعاني ..والتي
انسحبت الى جميع افلامه دون استثناء ..
البساطة في التعبير وتعدد المعنى
ببساطته وبتحميل فيلمه معان متعددة وبمستويات سرد متعددة حضر المودافار الى
كان بفيلمه الجديد "عناقات محطمة " ، حضور شكل علامة فارقة في دورة
المهرجان لهذا العام ، جمهوره كبير وعريض وثقة هذا الجمهور عالية في كل
مايقدمه ..ولهذا استدرك مسبقا قائلا انه لم يأت الى كان للتسابق والحصول
على جائزة ولتأكيد هذا المعنى فأنه سيغادر كان قبيل اختتام المهرجان لكن
صحافيا متخابثا بادره بالسؤال " وماذا اذا تأكد لك ترشحك لأحدى الجوائز ؟"
فكان جوابه بماعرف عنه من دعابة ، بكل تأكيد سألغي رحلتي وابقى في كان ،
انه فنان السينما الأسبانية المشاغب ، هكذا عرف عشية ظهوره في عالم السينما
الأسبانية الا انه مالبث ان حقق تفرده الخاص وجدارته . من خلال قراءته
للواقع الأجتماعي ودواخل شخصياته بطريقة مختلفة فهو مفتون بتلك الشخصيات
التي وان عبرت عن انانيتها فأنها قادرة على الحب ، وحتى وان بدت معزولة
فأنها تمتلك نورا في آخر النفق تستخدمه في اللحظة الأخيرة كما ان الحياة
عنده لاتخلو من المفاجآت السارة والمحزنة في آن معا ...
سينما المودافار هي سينما المخرجين الذين يؤسسون لذاكرة حية وفاعلة وتقول
عنه الناقدة (سينيكا تارفيني) : تصلح قصة ألمودوفار - منذ أن كان فتى
قرويا يانعا وحتى فوزه بجائزة أوسكار كمخرج وشخصية تحظى بشهرة عالمية - أن
تكون نصا
روائيا لفيلم في حد ذاتها.
ولد ألمودوفار لأسرة قروية متواضعة في إقليم لامانشا
الأسباني، وهو المكان الذي حارب فيه دون كيشوت بطل رواية (دون كيشوت دي لا
مانشا)
للمؤلف الأسباني الشهير ميجيل دي ثربانتس، طواحين الهواء، ثم انتقل بيدرو
ألمودوفار
وأسرته لمنطقة إكستريمادورا في الجنوب الغربي من أسبانيا.
والغريب في حياة المودافار انه لم يبدأ سينمائيا مطلقا بل انه نشأ وترعرع
وهو في ميدان لايمت للسينما والفن بصلة اذا درس في مدرسة كاثوليكية داخلية
في كاثيريس ليصبح قسا، وهكذا صممت حياته ، الا انه مالبث ان اكتشف المسرح
وتمرد على كثير من القيود التي احاطت به بسبب جرأته ونظرته الثاقبة ومواهبه
المبكرة وكان ذلك في منتصف السبعينيات عندما قرر مع نفسه انه يحب السينما
ويريد ان يصبح مخرجا سينمائيا ..وذلك ماكان له ..
مهارات السرد الفيلمي
حياة محطمة تعصف بها فصول من الأنانية والشخصيات تعوم في فراغات متداخلة
باحثة عن ذاتها في فيلم العناقات المحطمة والفيلم هو عبارة عن سرد وتحولات
وتجارب المخرج والسرد الفيلمي يتنقل بنا بين سنوات الثمانينيات والملاحظ ان
ستخدام اسلوب الفلاش باك في هذا الفيلم هو شكل من اشكال التداخل السردي
والتنوع في عرض المراحل الزمنية التي مرت بها الشخصية . انه المخرج الأعمى
، وليس اعمى فقط في بصره بل هو اعمى في مواقف حياتية عديدة ، اذ هو متأجج
العاطفة مع ( لينا- بنيلوبي كروز) بينما هو اعمى عاطفيا في النظر للواقع
المحيط به .وهو مايعترف به لاحقا في حواره مع مديرة اعماله وصديقته المحبطة
. وحيث يعرض الفيلم جوانب من حياة كاتب السيناريو والمخرج الذي يتعرض الى
حادث سيارة تنتهي بأصابته بالعمى وبوفاة صديقته ( الممثلة بنيلوبي كروز)
ومابين هذا وذاك تبرز شخصية لينا ذاتها فهي فتاة قادمة من بيئة متواضعة ،
ابوها يعاني من مرض عضال ولاتستطيع ادخاله مستشفى خاص لأجراء عملية جراحية
عاجلة له حتى تدخل مديرها العجوز
آرنستو مارتيل (خوزيه لويس غوميز) واعلان استعداده لتغطية تكاليف دخول
المستشفى والعملية وجميع ماتحتاجه وذلك تفرع آخر اذ انها مرتبطة مع ذلك مع
ذلك المدير بعلاقة عشق ترفض هي ان تتطور الى زواج لاسيما بعد ان ترتبط
بعلاقة مع المخرج..
والفيلم في تداخلاته السردية هو سينما داخل السينما ، فالمخرج في داخل
الفيلم هو المخرج القلق المتوتر الباحث عن الدهشة .
والفيلم بعد هذا هو تنوع سردي في حياتي الشخصيتين لينا والمخرج وجميع
الأحداث تقع في البدء في زمنين متوازيين اي الزمن الذي عاشه المخرج الأعمى
وقبل فقد بصره والزمن الذي عاشته لينا المساعدة الفاتنة للمنتج العجوز و
التي تقرر دخول حقل السينما والتمثيل في وسط اجواء من الغيرة التي يعبر
عنها مديرها وهو يراقبها ويستمع لحواراتها الفيلمية ويرسل ابنه المثلي
لمراقبتها فيأخذه الهوس بهذه المهمة وهو مايثيره اكثر واكثر ..المظفر ،
الصانع السينمائي البارع الذي اتحف جمهوره من قبل بأفلام (عشاق المحرمات»
1985، «دهاليز الرغبة» 1982 و«شقيقات الليل»1983 ، و«ماذا فعلت لأستحق
هذا»1985، و «مصارع الثيران» و«قانون الرغبة»1986، و «نساء على وشك
الانهيار العصبي» عام 1987 و«قيدني جيداً» 1989، و «كعوب عالية» 1991 و «كيكا»
1993 و «زهرة سري» 1995، و «لحم حي» 1998، و «كل شيء عن أمي» 1999، و «تحدث
معها» 2003 ، ثم «تعليم رديء» 2004 وغيرها ) وقدم بنيلوبي كروز في العديد
من الأفلام وجعل منها نجمة اولى بلا منازع ، جاءت معه الى كان لتروج
للفيلم ليقدم نوعا اسلوبيا آخر في مسيرته فهو معني كثيرا بشخصياته لاسيما
النسائية منها فهو يرسمها بعناية ويراقب تحولاتها ويعيش معها احزانها
واحباطها واحلامها في آن واحد .ولهذا كانت ( لينا ) و (جوديت ) هما
الوجهان المتقابلات لتك العواطف المحطمة ، لينا المتحدرة من اسة فقيرة
والمتطلعة للنجومية والمجبرة على التعاطي مع صديقها المنتج العجوز
والمتطلعة الى ذلك الحب الجارف مع المخرج ، فيما ( جوديت ) هي الوفية
المخلصة للمخرج والذي عملت معه طويلا وخدمته ، وهاهي تكشف في اللحظة
الأخيرة ان الفتى الذي يرافقها والذي شهد المخرج طفولته ومراهقته وشبابه
ماهو الا ابنهما معا (دييغو) ، وانها اخفت هذا السر عن الفتى الأبن وعن
الأب والمخرج العمى سنوات طوالا ..
ولعل من الملفت للنظر في هذا الفيلم انه في اختلافه عن كثير من افلام
المودافار السابقة ، انه تسجيل عميق لحياة الشخصيات فيه الكثير من
الواقعية واليوميات البسيطة، وعلى هذا فليس في الفيلم ماهو مبهر سواء في
المناظر او في المشاهد واللقطات من ناحية جمالية التصوير والأضاءة بل ان
مزيته الأساسية هي البساطة والتنوع ، بل انه اقرب الى الحياة كما هي في
واقعيتها وعفويتها وحيث انه لم يول عناية كبيرة للتحول النفسي للمخرج بعد
فقد بصره وحبيبته ، اذ عندما كان يتنقل الى حياة المخرج قبل فقد بصره لانجد
اختلافا كبيرا في رؤية كثير من الأشياء والتفاصيل والتعامل معها .
ازدواجية الشخصيات المأزومة
انها ازدواجية ملفتة تطبع الشخصيات وتؤطرها وتحكم فاعليتها وردود افعالها ،
فلينا تكمن ازدواجيتها في طمعها مما تجنيه من مديرها المنتج العجوز من فرص
وفي الوقت ذاته مطارحتها الغرام مع المخرج الشاب المتوعد الذي ستموت بين
يديه وهما معا في السيارة ليفقد هو البصر نهائيا وتموت هي .
وحتى هذا المخرج الذي تعوم شخصيته بين التشبث بأهداب حب لينا وبين قلقه
السينمائي ، فأنه هو الآخر تعصف به ذاكرة متوقدة لفنان مرهف يعشق ابداعه من
جهة ويمارس انانية غريبة في اطار ذلك الخوض في امواج الأبداع ..انها شخصيات
تبحث في دوامة القلق عن تلك السينما المجهولة التي هي حقا المنطقة المجهولة
التي يمكن الوصول اليها يوما لتأكيد قوة الذات .
تداعيات الأزمنة المحطمة
ولعل ذلك التنوع السردي وتداخل الأزمنة الى حد ارباك المشاهد هو علامة اخرى
مميزة يؤكدها المودافار في فيلمه هذا ، فهو يتنقل بنا بين اماكن وازمنة عدة
وكلها بالطبع ازمنة وامكنة اسبانية ، الا ان عامل الزمن وبنية السرد هي
علامة متميزة حقا ، والمتأمل بدقة لذلك التنوع والتداخل السردي سيعجب
بمهارة المودفار وقدرته على التنويع في السرد الفيلمي ، لأن ماقدمه كثيف
ومتداخل حتى انك لاتشعر فارقا كبيرا بين الزمن الحاضر وبين العودة الى
الماضي في كثير من المشاهد ، لكنها ايضا ازمنة متكسرة يلم المودافار
شظاياها وشظايا الشخصيات المحطمة والمزدوجة والأنانية ولهذا يعمد الى ذلك
النوع الأخاذ والمتقن من اتلتداخل السردي . فصيغة فلاش باك التقليدية التي
تؤكد ان المخرج – أي مخرج – مضطر اليها اضطرارا للكشف عن حقيقة ناقصة او سد
فجوة في السرد الفيلمي ، فأنها لدى المودافار تتخذ شكل عزف اوركسترالي على
الزمن متعدد الطبقات بمعنى متعدد الأزمنة ومتعدد الأحداث .
............المودافار يخرج من كان بلا جائزة
ومن مفاجآت كان ان يخرج المودافار بكل تاريخه ومنجزه وافلامه واوسكاراته
السابقة بلا اية جائزة لا له ولا لممثليه ولا للسيناريو ولا ادنى اشارة له
حاله حال أي فيلم ومخرج من جنوب شرق آسيا او تايوان او هونغ كونغ ، فيما
يمنح المهرجان جائزة كبرى لفيلم اكشن ملفق وعادي يعج بالعنصرية المبطنة ضد
العرب والمسلمين وهو فيلم (نبي) وفيما يمنح سعفته الذهبية لفيلم آخر
بالأبيض والأسود مليء بالسوداوية والغطرسة والقرف هو فيلم ( الشريط الأبيض
) يعيد اليك افلام الواقعية الروسية في بواكيرها على يد دفشينكو ورهطه ولكن
بتوقيع المخرج النمساوي ( مايكل هانيكة )..
سينماتك في
19 يونيو 2009
|