ربما كانت
سير الحكام والزعماء على الشاشات من طرائف مااهتمت به السينما على مر
تاريخها فمن هتلر الى تشي غيفارا الى جون كنيدي الى سيلفادور اليندي الى
ستالين وصولا الى عيدي امين .فهذه الشخصيات الأشكالية التي اثرت في مسار
المجتمعات الأنسانية وخلفت وراءها ماخلفت من ذكرى فيها مافيها من اعجاب او
ادانة ، ذلك ان ميزة الشخصيات الأستثنائية مثل هذه الشخصيات انها تفتح افقا
للصراعات من منطلق ان حياتها لاتعرف الأستكانة وتشهد تحولات كبيرة .
ولعل عيدي
امين او من يكنى بأنه دكتاتور اوغندا هو احدى هذه الشخصيات الأشكالية ،
فهذا الرجل القادم من اسرة فقيرة والمولود سنة 1924 قفز فجأة الى واجهة
الأحداث وتسلق في المناصب من ظابط صغير في الجيش الأوغندي سنة 1962 الى
قائد للجيش سنة 1966 ثم ليصبح رئيسا لأوغندا بعد انقلاب عسكري اتى به الى
السلطة سنة 1971.
عبر هذا
التاريخ كان عيدي امين يؤسس لنفسه موقعا واسعا في حياة الشعب الأوغندي ذو
التركيبة القبلية والذي تشكل فيه المسيحية أغلبية بينما المسلمون اقلية
لاتزيد على 20 بالمئة .
وسط هذا
المناخ سطع نجم عيدي امين مصحوبا بهالة كبيرة وبضجيج غير مسبوق ، فقد
استحوذ امين على مقدرات اوغندا واستحوذ على السلطات وصار حاكما مطلقا .
سيرة
مفعمة بالأسرار والتحولات
ويتتبع
المخرج الأسكوتلندي كيفن مكدونالد هذه السيرة من خلال تعمقه في رواية حملت
العنوان ذاته – آخر ملوك سكوتلندا- للكاتب جلس فوندن تم اعدادها الى الشاشة
. بنى المخرج فيلمه على قصة متخيلة لطبيب شاب من سكوتلندا يتخرج توا من
كلية الطب وهو نيكولاس( الممثل جيمس ماكفوي) وبعد تخرجه مباشرة يفكر في
السفر الى ارض بعيدة ليمارس تخصصه فيها وببساطة شديدة يدير الكرة الأرضية
في حركة سريعة حتى تتوقف عند كندا لكنه لايحب الذهاب هناك ، ثم يجرب تحريك
الكرة واضعا اصبعه عشوائيا على بقعة ما فأذا هي اوغندا .. ويختار اوغندا
ويرحل اليها.
تظهر
اوغندا بقراها وطرقها الترابية والطبيب الأسكتلندي الشاب يتنقل مع القرويين
في باص متداعي ثم ينظم الى متطوعين آخرين منن الأطباء لمساعدة القرويين في
القرى النائية وهناك يشهد مأساة الفقر والأمراض .
لكنه يسمع
يوما ان الرئيس عيدي امين قادم لزيارة قرية من القرى القريبة فيطلب من
زميلته الطبيبة ان يذهبا لمشاهدة الرئيس وهو يزور القرية .
يذهب
الطبيب الى هناك ويشاهد تجمع آلاف القرويين ومظاهر الحفاوة والرقص التي
تتوج بظهور عيدي امين على خشبة المسرح والقائه كلمة بطريقة استعراضية .
وينصرف
الطبيب وزميلته بعدما شاهدا الرئيس عن قرب لكنهما يلاحقان بسيارة لحراس
الرئيس لأن الرئيس نفسه فقد تعرض لأصابة ما في حادث سير في اثناء عودته من
تلك القرية ، فيذهب الطبيب ليشاهد ان سيارة الرئيس قد صدمت ثورا عبر الطريق
فجأة ويعالج الطبيب كف الرئيس المصابة لكنه لايطيق تحمل انين الثور الذي
يحتضر فيسحب مسدس الرئيس ليطلق منه رصاصة الرحمة على الثور وسط ذهول حراس
الرئيس ورد فعل الرئيس نفسه الذي لايقل اندهاشا من جرأة الطبيب : قائلا له
، كيف تجرأت على استخدام مسدسي الشخصي ؟
ويتبادل
الرئيس والطبيب القمصان في حركة طريفه اذ يتخلى الرئيس عن قميصه وفيه رتبته
العسكرية ونياشينه في مقابل قميص الفريق السكوتلندي الذي يرتديه الطبيب ..
ويدعو الرئيس هذا الطبيب الشاب لزيارته ثم مايلبث ان يعتمده طبيبا خاصا له
، ولا يجد الطبيب سبيلا للرفض .
رحلة في
العالم الخفي للزعيم
من هنا
تبدأ رحلة الطبيب الشاب في ذلك العالم الخفي للرئيس ، فهو يعيش جميع تفاصيل
مايجري في القصر ويجد نفسه جزءا من ذلك العالم المجهول : الزعيم غريب
الأطوار ، كثير الفكاهة والمزاح ، متقلب المزاج ، متعدد الزوجات والأبناء ،
هذه كلها تكون ملامح وصفات الرئيس ذو الجسم الرياضي الضخم وخلال ذلك وبسبب
جنسية الطبيب الشاب وخلال الحفلات الرسمية يمرر السفير البريطاني او من
يمثله ملاحظات مهمة تتعلق بالتجسس على الرئيس وتزويدهم بمعلومات عنه ولكن
الطبيب الشاب من فرط ولائه واخلاصه يرفض بشدة ذلك الطلب ويمضي في حياته
اليومية مع الرئيس حتى تتكشف له صورة بشعة بعد وشايته بوزير الصحة واخبار
عيدي امين ان وزيره يتآمر عليه لصالح دولة اخرى وقبل ان يطلع الصباح يكون
الوزير في عداد المفقودين ويكتشف الطبيب الشاب كم من خصوم عيدي امين يتم
اخفاؤهم فورا وبهذه الطرقة نفسها وباستمرار والتمثيل بهم احيانا وهو مايدفع
الطبيب الشاب لزيارة احد المعتقلات فتصدمه الحقيقة المروعة لكثرة الضحايا
وفضائع التعذيب وغيرها .
وتلاحقه
صرخات الضحايا فيخبر الرئيس عيدي امين بأنه يريد مغادرة اوغندا والعودة الى
بلده لكن مطلبه هذا يقابل بالرفض من الرئيس ويستبدل جوازه بجواز اوغندي
وبذلك يحاصره الرئيس من كل زاوية وعندها يقرر الطبيب الشاب الأنتقام بدس
السم للزعيم بواسطة علبة دواء ولكن مالم يكن في الحسبان ان احد اتباع
الزعيم يشتبه في الأمر فيقرر تجريب الدواء الذي قدمه الطبيب الى الزعيم على
احد الأطفال ولما يشاهد الطبيب ذلك يرفض ان يقوم الطفل بتناول الدواء وهنا
تتأكد مؤامرة الطبيب الشاب ويتم اعتقاله وتعذيبه تعذيبا فضيعا يشارف فيه
على الموت .
هذه
المفارقة التي اثارت سخط الرئيس تخللتها خيانة الطبيب للرئيس بأقامة علاقة
ما مع احدى زوجاته وهو مايشكل سببا اضافيا للأنتقام من الطبيب ، تقع هذه
الأحداث عشية العملية الفلسطينية الشهيرة في مطار عينتيبة مطلع السبعينيات
باختطاف طائرة اسرائيلية والتي تنتهي بمهاجمة اسرائيل للمطار وتحرير
الرهائن وبالتالي تسلل الطبيب الشاب وهو يغالب آلامه في وسط الرهائن الذين
تم تحريرهم وتسلله معهم الى الطائرة التي عادت بهم الى بلادهم .
وقائع
للتاريخ ام للسينما?
تثير
الوقائع التي عرضها الفيلم تساؤلات عن الجانب الوثائقي ومساحة الصنعة
الفنية او كون الأحداث ليس لها جذر واقعي ، لكن هذا الجدل في قوة الوثيقة
وقوة الحقيقة من جهة والبناء الدرامي من جهة اخرى تقطعه تلك موازنة المخرج
بين هذين الركنين الأساسيين اللذين بني عليهما الفيلم مع ان الحقائق التي
تتعلق بسيرة وحياة عيدي امين معلومة وقد ذاع صيت هذا الدكتاتور في كل مكان
.
لكن المضي
في مغامرات الطبيب ومايتكشف له من حياة الزعيم ظلت تشكل محورا مهما واساسيا
في البناء الدرامي للفيلم فالحقائق تتكشف وتتضح من خلال مايأتي به الطبيب
وماينعكس امامه من تحولاات الزعيم ولاتعرف مزيد من التفاصيل الا من خلال
ذلك فيما الواقع يؤكد ان حياة عيدي امين كانت دراما هائلة : تمجيده لهتلر
واعجابه به الى درجة قراره اقامة تمثال له ، مواقفه المتناقضة وانفعالاته ،
صراعاته مع الزعيم التانزاني جوليوس نايريري وهو الذي كان سببا مهما في
الأطاحة به لما كان يكنه من عداء وكره شخصي لعيدي امين .
ثم كانت
الدراما الموازية الممثلة في الحياة الشخصية لعيدي امين الذي عرف بتعدد
وزوجاته وابنائه كما ذكرنا وهذا الركن من حياته فيه كثير جدا من القصص
ومنها قصة زوجته الثانية التي يقال انه طلقه لأسباب مجهولة كما تقول
الوثائق لكن الفيلم وضع تلك الزوجة في دائرة الخيانة من خلال علاقتها
بالطبيب الأنجليزي الشاب .
والخلاصة
في هذا الجانب ان هنالك غزارة من المعلومات عن حياة الرئيس ذات طابع وثائقي
لم تجد لها موقعا في الفيلم بسبب مزاحمتها للأحداث التي طرحتها الرواية
التي بني عليها الفيلم من قصة مفترضة وخيالية لمغامرة الطبيب الأنكليزي
الشاب .
البناء
الفني وجماليات التعبير
مما لاشك
فيه ان جماليات الصورة السينمائية شكلت عنصرا مهما في هذا الفيلم وهو مابدا
واضحا من خلال المهارات في المونتاج وجمالية التصوير وهي عناصر مهمة قوت من
الفيلم وجذرت احداثه اضافة الى توفر المتطلبات النتاجية الضخمة التي اتيحت
للفيلم ، هذه المعطيات هي التي اضافت لواقعية الفيلم بعدا تعبيريا آخر .
ولعل من الأمور الأخرى المكملة هي الشخصية المحورية الممثلة في اشخصية
الزعيم ( الممثل فورست ويتاكر ) الذي جسد الشخصية بتمكن ملفت
للنظر اهله لنيل احدى جوائز الأوسكار ، لقد عاش الممثل اجواء وعوالم تلك
الشخصية المركبة المعقدة ، فهي شخصية تحركها دوافع الأستحواذ والسيطرة
والأستقواء والغاء الآخر تساعده في ذلك تركيبته الجسمانية وضخامة البدن
وكونه ايضا ميالا للرياضة وممارستها ، هذه الشخصية المركبة المتناقضة
المتحولة هي حقا من نمط الشخصيات الأشكالية السلطوية التي تعج بها كتب
التاريخ من حياة الزعامات القادمة للكرسي عن طريق الأنقلابات والبطش
والتآمر تساعده في ذلك طبيعة المجتمع الأوغندي ذاته ، ذلك المجتمع القبلي
المبتلى طويلا بالصراعات القبلية والتعصب القبلي كما ان تعرض اوغندا
المستمر الى استفزازات الجيران وخاصة العدو التقليدي تنزانيا والكراهية
الشخصية بين عيدي امين ونيريري كل هذه مجتمعة اججت من النزعات القاسية
والأنتقامية التي كانت تنضح من افعال عيدي امين ، وفي كل الأحوال فأن كل
هذه العوامل النفسية والأجتماعية في الفيلم وقبل ذلك في الرواية شكلت مع
بعضها عوامل اضافية في النباء الفني للفيلم وجماليات التعبير التي قامت على
موازنة ملحوظة بين المضي في السرد التاريخي وتقديم الشخصيات كما هي في
تناقضاتها اهوائها كما هي حال مساعدي عيدي امين المخلصين له وكما هو حال
الزوجة غير الوفية وكذلك الطبيبة الأنجليزية التي تعاني من مشاكل مع زوجها
لكنها تأبى اقامة علاقة مع ذلك الطبيب الشاب.
يذكر ان المخرج كيفن مكدونالد هو من مواليد 1967 في سكوتلاندا واخرج عدة
افلام وثائقية قبل ان يخرج فيلمه الروائي الأول سنة 1999 وحمل عنوان يوم في
شهر سبتمبر ثم تتابعت افلامه :ملامسة الفراغ 2003، ولاية اللعبة 2004
وغيرها .
الفيلم :
آخر ملوك سكوتلندا
اخراج :
كيفن مكدونالد
عن رواية
بنفس الأسم للكاتب جلس فوندن
سيناريو:بيتر مورجن وجيريمي بروك
تمثيل :فورست
ويتاكر ( شخصية عيدي امين ) ، جيمس مكفوي (الطبيب نيكولاس كيرجان)
سينماتك في 9
أغسطس 2008
|