اقيم في العاصمة البلجيكية بروكسل مؤخرا المهرجان الدولي للفيلم
القصير في دورته الحادية عشرة بمشاركة اكثر من 120 فيلما من 20
دولة وامتدت عروضه لعشرة ايام متواصلة وفي اكثر من صالة عرض .
ولعل ميزة هذا المهرجان انه يرسخ هوية الفيلم القصير من جهة احتضان
شتى التجارب ومختلف الأساليب الفيلمية التي تلتقي جميعا ضمن دائرة
الفيلم القصير .
عرض المهرجان في قسمه الخاص بالمسابقة الدولية افلاما من دول عدة
امتدت لثمانية ايام واشتملت على 41 فيلما عرض اغلبها في صالة
السينما الكبرى فان دوم في وسط العاصمة بروكسل فيما كانت هنالك
مسابقة اخرى للفيلم البلجيكي القصير تحت اسم المسابقة الوطنية
وشارك فيها عشرين مخرجا بعشرين فيلما كما اشتمل الفيلم على قسم خاص
لأفلام امريكا اللاتينية ودول البلقان كما ضم عروضا للكليبات
والأفلام القصيرة جدا او افلام الدقيقة الواحدة فضلا عن اقسام اخرى
متعددة من اطرفها على الأطلاق هو قسم عروض افلام من سلة المهملات .
في كل الأحوال نجد ان المهرجان قد سعى الى التوسع اكثر وأكثر
باتجاه جعل تجربة الفيلم القصير متسعة الى مديات تعبيرية ترتبط
بأنواع فيلمية مجاورة ودون اقتصارها على المسابقتين الدولية
والوطنية فحسب .
وقد ضمت لجنة التحكيم نخبة من السينمائيين البلجيك خاصة من مخرجين
وكتاب سيناريو وممثلين معروفين ومنهم كاتب السيناريو ( يواهم لافوس
) و كاتب السيناريو والمخرج ( فرانسوا بيروت ) و الممثل ( يانيك
رينير ) و المصور ( ويلي ستاسين ) وآخرين .
والذي يهمنا في هذه المراجعة للمهرجان وأيامه ولياليه الحافلة هو
ان نتوقف عند اهم الأفلام التي شاركت في المسابقة الدولية .
احداث ليلة واحدة
من اسبانيا جاء المخرج ايفند هولمبو بفيلمه -العين بالسن- وربما
كان هو احد الأفلام المتميزة في المهرجان من جهة موضوعه وبنائه
الدرامي ، فالقصة تدور على محاور عدة في زمن واحد ، اللص الذي
يقتحم مسكنا وأول مايفتقده هو استخدام فرشاة الأسنان لتنظيف اسنانه
ويفتقد الفراش الوثير ثم يتلقف ماخف حمله وغلا ثمنه ويفر هاربا من
المكان ، في الوقت ذاته هنالك الفتيات الأربع اللاتي تعتعهن السكر
وركبن سيارتهن وهن يواصلن رحلة العبث هذه التي تنتهي بدهس اللص
ذاته وهو يعبر الطريق واردائه قتيلا ، وربما هربت الفتيات بعدما
شعرن بالرعب من الجريمة وتوقع العقاب ، واما الفتاة السائقة فأنها
تصدم وهي عائدة الى المنزل في حالة احباط تام ، تصدم بأن تجد امها
بصحبة عشيق لها فما يكون منها الا ان تخبر اباها وخلال ذلك يهرب
العشيق سارقا سيارة الفتاة ذاتها التي تسببت في حادثة الدهس
المروعة وتوقفه الشرطة للأشتباه بأنه هو من قام بالجربمة وهرب ،
واما الأب المصدوم بالخيانة الزوجية فأنه في نوبة غضبه يتسبب في
مقتل الزوجة ..وهذه الأحداث جميعا تجري في اطار برهة زمانية هي
ليلة واحدة اجاد مدير التصوير والمصور في اظهار جمالياتها والتنقل
على اكثر من مستوى بمرونة تامة وبتنوع تعبيري ملفت للنظر ، واقعيا
قدم الفيلم شحنة تعبيرية مؤثرة على جميع المستويات فثيمة الفيلم
التي تشظت على مستويات متعددة عادت والتحمت في التعبير عن ازمة
مشتركة ماانفكت تعصف بالشخصيات واحدة بعد الأخرى .
يضاف الى كل هذا الأداء المتقن الذي قدمته الشخصيات في اطار ذلك
المدى الزمني المحدود .ولعل ماتوقفت عنده ايضا مما هو جدير
بالأشارة وهو استخدام المقدمة الغنائية لمغنية عربية وهي تترنم في
بداية الفيلم ونهايته (ياليل مااطولك ..) في غناء فردي عفوي بالغ
العذوبة اضاف للفيلم عنصرا جماليا آخر.
الحكمة المفقودة في الصراع العائلي
ومن رومانيا يشارك المخرج (رادو جود ) بفيلمه –الكساندرا- الذي
يحكي قصة طفلة تحمل ذات الاسم حيث يدور الحوار العفوي جدا بينها
وبين ابيها وتسأله اسئلة بسيطة تجد صداها لدى الأب في رغبته في
الأجابة عنها ..وخلال ذلك هو يحمل دراجتها الهوائية المعطلة ويواصل
اصلاحها في المنزل ولكن فجأة ينشب الجدل بين الزوجة والزوج بدعوى
الأب ان زوجته لاتعلم الطفلة الأشياء الصحيحة وان الطفلة لاتنادي
الأب الا بأسمه ويتصاعد الجدل بين الزوج والزوجة وتدخل ام الزوج
على الخط في هذا الجدل المحتدم لينتهي باختبار الطفلة للتأكد من
معرفتها لوالدها وعدم مناداتها باسمه المجرد وتنجح الطفة في
الأختبار وتثبت انها تعلم كل شيء عن اسرتها اي انها تستطيع تمييز
كل واحد ومناداته بموقعه بالنسبة لها كالأب والأم والجدة .
تميز الفيلم بالأداء العفوي للطفلة والزوجين ومثل احتدام الجدل
بينهما احدى الذروات المهمة في البناء الفيلمي فضلا عن ان هنالك
مساحة متميزة من التعبير عن الدوافع والهواجس النفسية بين الطرفين
. ولعل الملفت للنظر ايضا في هذا الفيلم هو كونه استثمر المكان
افضل استثمار ، فالأحداث كلها تقع في مكان واحد وهو منزل الأسرة
ولكن الحوار المحتدم اضفى حيوية على المكان من جهة وكسر الرتابة
التي كان عليها من جهة اخرى.
ومن ايطاليا كان هنالك فيلم - حافية على خشبة المسرح- من اخراج
اندريا روفيتا ويتحدث عن فتاة تخضع لأختبار كفاءتها ويطلب منها
الغناء بكل اشكاله وتمثيل الحيوانات والرقص والباليه والتحدث بلغات
متعددة وتنجح نجاحا ملفتا في جميع هذه الأختبارات فيسقط في يد من
يختبرها فيلجأ الى مطلب تعجيزي بأن يسألها ان تحلق ، ان تطير ،
وبالفعل ترتفع الفتاة تدريجيا ولكن الرجل يطلب منها ان تنزل فتسقط
الفتاة ويطلب هو سيارة الأسعاف .هذا النوع البسيط من الأفلام
القصيرةهو ميزة اخرى من ميزات المهرجان ، حيث الأفلام القائمة على
مفارقة بسيطة وسريعة لكنها تنطوي على مهارة في كتابة السيناريو من
جهة ومهارة في الأخراج ايضا وهو ماينطبق على الفيلم النيوزيلندي
الذي حمل عنوان (احذر من الفأس ) للمخرج جيسن ستوتر حيث المفارقة
قائمة على فكرة ان الطفل يحاول قطع الشجرة ولما تصعب المهمة عليه
يستند على كفه لأداء العمل ويعرض الكف بالنتيجة الى خطر ضربها
بالفأس ثم يستخدم قدمه في مخاطرة اخرى وفي النهاية يرفع الفأس بشدة
فيصيب جبهته ويسقط وينتهي الفيلم . هذه الومضة الفيلمية السريعة
ربما اختزلت كثيرا من التفاصيل والمعلومات وأطرت الشخصية في اطار
فعل سريع وآني .
عن الحرب والحياة الصعبة
ومن رومانيا يأتي الفيلم القصير - الحياة الصعبة- للمخرج غابريل
سيربو ويحكي قصة لص يهدد فتاة وهي في داخل سيارتها في وسط زحمة
السيارات التي ينتظر سائقوها اضاءة اشارة المرور الخضراء ، فيشهر
اللص سكينا مهددا الفتاة في لحظة تأتي فيها الشرطة فيضطر اللص الى
الأندفاع الى داخل السيارة ويأمر المرأة بأن تتحرك فورا من المكان
وتأتمر بأمره فيما يمضي هو في تفتيش حقيبتها وبعدما تجتاز اماكن
عديدة لاتعرفها وتحاول ان تقنعه ان يأخذ مافي المحفظة من مال
ويتركها تمضي بسلام لأن لديها مهام والتزامات الا انه يواصل نهرها
ان تمضي حيث يريد ولكنها تقرر ان تترك له كل شيء : الحقيبة والمال
وحتى السيارة ، ويحاول اقناعها ان تعود ولكن دون جدوى ، وهنا يفكر
مليا ثم يقول لها انه سيعيد لها كل شيء : المال والحقيبة ويتوسلها
ان تعود الى سيارتها ويعدها انه هو الذي سيوصلها بنفسه الى عملها
في تحول سيكولوجي مفاجئ وغير متوقع حتى انه يدفع من جيبه ثمن بنزين
السيارة ، فتعود الفتاة وتنطلق معه الى عملها ولكنها وهي تخرج من
السيارة تتركه في داخلها وتغلق ابوابها دونه.بالطبع يقوم الفيلم
على مفارقة دراماتيكية من خلال دوافع الشخصيتين معا ، حيث يسلط
الضوء وبطريقة غير مباشرة على طبقتين تعيشان وتتنفسان معا في مناخ
واحد لكنهما تسيران في خطى متباعدة ، الفقراء المعدمين ممثلين بهذا
اللص وشخصية ثانوية اخرى تظهر في الفيلم وهي الشحاذ الذي يصطنع
اصابته بأعاقة ويجري كل ذلك في اماكن نائية حيث تظهر صور من حياة
الطبقات الفقيرة بصورة مباشرة وغير مباشرة .
وقدمت المانيا فيلم – ميلان- للمخرج مايكل كيزيل حيث تجري وقائع
الفيلم في اثناء حقبة حرب البلقان سنة 1999
وحيث تعيش اسرة بسيطة مكونة من الزوج والزوجة وولدين وهم جميعا
يعيشون حياة مرحة ومتسامحة وخلال سير الأبن الأكبر بدراجته تصدمه
حافلة ويصاب اصابة خطيرة ويتم نقله الى العناية المركزة في
المستشفى بينما تقوم طائرات حلف الناتو بحسب مايعلن عنه في نشرات
الأخبار ، تقوم بقصف المدينة من حول المستشفى مما يتسبب في قطع
التيار الكهربائي وتهديد حياة المرضى ،و بينما يسعى والدا الشاب
للمجيء لتفقد ابنهم فأن الأبن الأصغر يكون ثملا ضائعا في احدى
الغابات ويفاجأ بأحد الطيارين الأمريكان عالقا في اعلى شجرة بعد
تحطم طائرته وسقوطه بالمظلة في تلك الغابة ويطلب من الطفل مساعدته
كي ينزل من اعلى الشجرة بسلام بينما الأذاعة المحلية تعلن عن البحث
عن طيار امريكي مفقود وبينما يحضر رجال المقاومة باحثين عنه
ويسألون الطفل ميلان ان كان شاهد ذلك الطيار فيجيب بالأيجاب ولكن
دون ان يدل على الطيار ، وهكذا تمضي الحياة في اجواء تلك الحرب
الطاحنة المدمرة ، الأبن على شفا الموت والأبن الآخر مشرد في
الغابات المحاصرة بالحرب والصراع الدامي والبلاد تواصل دفع ثمن
باهض .
تحولات وأهواء العاطفة
ويقدم المخرج الألماني روت كافي فيلمه – من بعيد – ويتحدث الفيلم
عن رجل يعمل مراقبا لأحدى المحلات الكبرى – سوبر ماركت – يراقب
اللصوص او اللذين يتلصصون على النساء وهن يجربن الثياب قبل شرائها
في غرفة تبديل الثياب ولكنه خلال عمله هذا في المراقبة عبر
الشاشات تلفت نظره فتاة تعمل في قسم من اقسام تلك السوق فينشغل
بمراقبتها وعندما تخرج من عملها يخرج في نفس الوقت ويركب الحافلة
نفسها ويتواصل معها بأيماءة تحية لها ولكنه يفاجأ بها في احدى
المرات انها تركب الباص مع شخص حسب انه حبيبها ولكنهما سرعان
مايتشاجران وتنزل الفتاة تاركة الحبيب المفترض في الباص ولكنه
سرعان مايشتبك مع ثلة من المراهقين في داخل الحافلة وهم يوسعونه
ضربا ويفارق الحياة وهو في طريقه الى المستشفى .
ولكن المفارقة تقع عندما يتم الأعلان في نشرة الأخبار عن وفاة ذلك
الشخص وأنه شقيق الفتاة وليس حبيبها كما كان الرجل يظن ، فيشعر
بالذنب لأنه لم يدافع عن الشاب كما يجد فتاته معذبة تطاردها ذكرى
شقيقها وشعورها بالذنب لأنها تركته فريسة اولئك المراهقين .
الفيلم مشحون بالتحولات وبأيقاع منسجم مع تلك الدراما التي ترسم
للشخصيات مسارات متعددة متشابكة ، وقد اجاد المخرج التنقل على اكثر
من مستوى والتعبير عن تحولات وهواجس الشخصيات بطريقة متقنة وبالعزف
على وتر المشاعر الشخصية التي تفعل فعلها في اطار ذلك البناء
الفيلمي .
ومن كندا قدم المخرج شين غاريتي فيلمه – اعادة تنظيم – عن قصة شاب
وفتاة يعيشان معا ولكن الفتاة تصارح الشاب بماضيها وأسرارها
ممايشكل صدمة للشاب وتنقلب حياته رأسا على عقب وتتصاعد انفعالاته
وعدم قدرته على السيطرة على تلك الأنفعالات العنيفة التي تدفع به
الى تحطيم الأشياء وعدم القدرة على العيش في المكان بطريقة طبيعية
.ويقوم الشاب ايضا بأعادة توزيع الأشياء من حوله بطريقة عبثية وسط
عجز الفتاة عن فعل شيء . الفيلم على بساطته فأنه قدم دراما انسانية
عميقة من خلال ردود افعال الشخصيات وانفعالاتها ضد كثير من الأشياء
ولعل مايلفت الأنظار في عموم هذه الأفلام المشاركة والتي عرضنا هنا
لأهمها ، ان المهرجان قدم تنوعا فيلميا وواكب آثار الحروب
والنزاعات من جهة وواكب ازمات المجتمعات وتحولاتها من جهة اخرى
وكان في تنوع تلك العروض قد منح الفيلم القصير مرة اخرى مرونة ان
يتغلغل وبنجاح في شتى مناحي الحياة وطبائع الشخصيات .
سينماتك
في 30 مايو 2008