بالطبع ان
مشهد بركة دم هو مشهد انساني مؤثر ووثيقة عار في وجه الانسانية التي تتخبط
في شرورها. لكن بركة الدم حين تدخل حيز الفن عليه أن يصونها من التلف
والمتاجرة. فنقل بركة الدم هذه من اجل مكاسب بائسة في مهرجانات واعراس
يعني صيرورة الفنان تاجر دم يبيعه ملوثا بالوجع والرعب لزبائن مشغولين
بالتصفيق وتقاسم موائد المهرجانات. هكذا لا ينتظر صانع الفيديو* العراقي
أكثر مما يحدث في البلاد، وليترك المغامرة على صعيد الشكل. إذ لايمكن أن
يكون الأرهابي اكثر جرأة من الفنان. الأرهابي يصنع الجحيم بأغرب اشكاله وهو
ينسف نفسه وسط الشارع ، بينما الفنان يدعي أنه مسالم، وكاميراه ترتجف امام
الخراب. وهو لايقدم غير تغطيات خبرية اصبحت مملة وساذجة، وسوقها الوحيد هو
المهرجانات العاطفية.
...
تحتاج
أعمال الفيديو العراقية ، سواء القصيرة أو الروائية ، الى المزيد من
العنف الشعري على صعيد الشكل. كلنا يعرف ما قاله الجاحظ : الافكار ملقاة
على قارعة الطريق. وكلنا يعلم ان القضية هي قضية اسلوب. لست هنا بصدد
أبتكار أساليب لصناع افلام الفيديو، فهذا الموضوع بحاجة الى موهبة مدربة
واقدار اخرى غامضة. وانا الآخر مجرد هاو لفن الفيديو والسينما. لكنني هنا
أحرض على العنف الشكلي لأعمال الفيديو. وأحاول ان أفكر بصوت مسموع مع
اصداقئي وزملائي الذين يعملون في مجال الفيديو. والحديث هنا يخص مبدعينا في
العراق وخارجه. لقد أتيحت لي في الفترة الأخيرة الأطلاع على بعض تجارب
الفيديو من داخل العراق ومن خارجه. في الحقيقة لا أريد ان اكون متشائما الى
الحد الذي اغبن فيه حق المبدعين الذين صنعوا افلاما في ظروف وامكانيات صعبة
ان لم تكن خرافية ايضا. لكن نظرة شجاعة الى مثل هذه الاعمال التي تنجز
اليوم تدفع المراقب الى ان يشعر بالأسف على الخدعة او اللعبة الساذجة
التي يريدها الآخرون لصناع الفيديو. فأعمال الفيديو العراقية التي انجزت
بعد سقوط الديكتاتور واحتلال العراق ، حتى يومنا هذا ، تنقسم الى قسمين:
أعمال يمكن تسميتها ب ـ افلام العودة ـ وهي التي ينجزها مخرجون يعيشون في
الخارج، حيث يعودون مع كاميرات فيديو محمولة خفيفة، ليرجعوا مرة أخرى الى
بلدانهم في الغربة بأفلام حنين استشراقية بأمتياز. وكأن صناع الفيلم اولئك
لم يكونوا على أطلاع على ماكان يحدث طوال العقود الماضية من تخريب وتفكيك
للمجتمع العراقي ، وكأنهم فرنسيون شاهدوا للمرة الاولى في حياتهم عجوزا
ملتفة بالسواد وهي تبيع حب عباد الشمس امام مستوصف طبي. والفئة الثانية من
الأعمال التي أتحدث عنها هي أعمال يمكننا القول عنها أنها مجرد افلام ندب
وبكاء ولطم. بالطبع هناك استثناءات في انجاز الفيديو العراقي اليوم، ومنها
تجارب مميزة انجزت داخل العراق وخارجه.
......
أليس من
المفترض ان يكون هناك بون كبير بين التقرير الخبري وبين فن الفيديو ـ
الفيلم ـ. كما ينبغي الأنتباه الى ان المهرجانات العالمية ليست هي المقياس
لجودة الفيلم ، فالمهرجانات هي ايضا اسواق ـ اسواق تصر اليوم على طلب
الافلام العراقية لأغراض عاطفية اولا ، تتعلق بدغدغة مشاعر الاوربين
الغاضبين على امريكا، وتسويق الصورة القادمة من العراق وأيّ كانت جودتها.
ولو كان بمكنة صناع الفيلم في اوربا ان يحملوا كاميراتهم الى العراق ، لما
كان هنالك مجال لمنافسة افلام الفيديو التي يصنعها الشباب اليوم في العراق.
ولكانت الجوائز والتصفيق ـ وهي بنظري امور صغيرة وسطحية ـ من نصيبهم
ايضا. علينا أن ننسى مايريده الآخر منا بالطريقة المعلبة والجاهزة ، إذ
علينا أن ندهش نفوسنا قبل أن ندهش الآخرين. أعرف انني قلت ذلك من قبل. لكن
يواصل صناع الفيديو في العراق العمل كمراسلين لأخبار الدمار. بالطبع لاضير
من ان تطوف الصور المهرجانات. لكن عليها أن تكون ذات قيمة فنية على الاقل.
هناك قضية بديهية اسمها شكل الفيلم. بينما اغلب اعمال الفيديو العراقية
اليوم تحاول استغلال بشاعة الصورة في العراق فقط. في حين ينسى المبدع ان
ظروف مثل ظروف العراق يمكنها ان تخلق اشكالا جديدة في التعبير. ولايمكن حمل
الجثة المحترقة من الشارع بطريقة مسالمة. فعين الكاميرا المبدعة ليست نقالة
أسعاف ولاهي عين هذه الوكالة للأنباء ولا تلك. لايمكن الأعتماد على طاقة
الموضوع حسب ، فهي طاقة تنضب بسرعة ، وتموت مثل بطارية المصباح. لكن
الموضوع الذي يدخل وينصهر ضمن اشكال جديدة وجريئة ـ وأنا أتكلم هناعن
البديهيات من أجل التذكير فحسب ـ يكون وكأن شرنقة سحرية تحفظه من التلف.
والحديث عن الشعر في السينما ليس مطلبا جديدا ، لكنه تحريض انساني وابداعي
قبل كل شئ ، ونحن نواصل الطرق عليه من اجل الخروج من قمقم المسلمات. فعند
الحديث ، مثلا، عن الطاقة الشعرية في احد الافلام الروائية نكون كمن يريد
ان يدلل للجمهور على أن الشعر كائن في الفيلم الروائي ، لكنه بحاجة الى عين
مجهرية. و إذا نظرنا اليوم الى أعمال ـ الفيديو آرت والفيديو التجريبي
والوثائقي ـ نجدها ، وبأوضح صورة ، اعمالا ابداعية متشربة بالشعر. إن
المتلقي لا يحتاج هنا الا الى عين انسانية متواضعة كي يرفّ جفنه مرتين أو
أكثر ، على مايشاهده وملامسة الشعر قلبه ،كي يخرج من جلده ويعيد ترتيب
واقعه الشخصي والواقع الكارثي الجمعي الذي نعيشه...
....
أعرف ان
التهمة الجاهزة بالطريقة العراقية هي نعت واحد مثلي ب (البطران). لكنني لا
أدعو هنا إلى النزول الى الشارع بكاميرا فيديو والانتحار، فأنا ادرك مخاطر
الشارع وأعرف الى اي خراب وصل. لكنني أتحدث عن تلك الأعمال التي تخرج الآن
الى النور. أتحدث عن تلك الأعمال ، حتى ولو صنعت في أستوديو مغلق او غرفة
نوم وبميزانية فقيرة. فأنا أتكلم عن أبتكار أشكال جديدة من رحم الكارثة ،
عن عنف شعري على صعيد الشكل ،عن المغامرة في حركة الكاميرا و سكونها، عن
المونتاج الذي عليه أن يكف عن كونه لقطة تلصق بلقطة. أنا اتحدث عن الروح
المسحوقة التي تصبح شكلا ابداعيا ، أتحدث عن سيناريوهات ليست المهرجانات
غايتها. أنا اجد أن الشعر الرصين هو الطريق الوحيد لتشذيب الزائد من
العواطف والنظر الى الوجود بعين مجهرية متمردة ، عين يدميها الواقع لكنها
تصر على النظر بحيادية وعمق. فالفن الحقيقي ينجزه المغامرون الذين تدربوا
طويلا في غرف التعذيب الوحشي لهذا الوجود المر والمريب، وليس التهائون في
ألعاب الواقع الساذجة. الفنان ليس طفل ساذجا، وهو ليس بحاجة الى الرضع من
اثداء المهرجانات السيليكونية ، إنه مملكة شعرية بمواجهة مملكة الواقع
الدموية والزائفة ...
كفى
بديهيات ياحسن ؟
* أنا
أتحدث عن فن الفيديو بدل السينما، فالسينما العراقية معطلة، بينما هناك
اليوم الكثير من اعمال فيديو.
http://filmfil.blogspot.com
سينماتك في 18
سبتمبر 2008
|