خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم آخر سهرة في طريق ر.. عالم ما تحت القاع الذي لا نعرفه

بقلم: خالد ربيع السيد/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 

وأنت تشاهد فيلم "آخر سهرة في طريق ر" للمخرج محمود صباغ، لا تنشغل بأن تتبع قصة أو حكاية سينمائية...! لا، الموضوع ليس قصة ولا حكاية ولا كان ياما كان فقط، إنه ذلك العالم الغريب الذي أدخلنا فيه الفيلم.

تلك العوالم الخفية الكامنة في قعر قاع المجتمع، ما وراء المهمشين من الطبقات التي لا نعرف عنها كثيراً، الطبقات المدفونة بإرادتها والساعية لغاية شكلت وتشكل مصائرهم التراجيدية السنتيمنتلانية السوداء، فئات اجتماعية مأزومة في حياة مدنية حالكة، حياة ليل مع فرقة فنية شعبية تُسمعنا أغنيات بهيجة ونغني معها لنتعايش مع الحدوتة ونتأملها، ولحظتها سننتبه أننا أمام توليف سينمائي رشيق، وكان ياما كان، حتى لو لم يكن يحدث الآن وهنا؛ إلا إنه موجود في مخيلتنا المستمدة من الواقع.

فرقة ليل

معادلة حبكة الفيلم تقول: فرقة غنائية شعبية؛ ونهم للمال (التوكر كما يسميه أحد أعضاء الفرقة) ومخدرات بكل الأنواع، وصراعات شخصيات موبوءة؛ وأغنيات شعبية مفقودة؛ وأداء تمثيلي بليغ.. والحصيلة فيلم مفاجئ مسرود بكثير من الاشتغالات الفنية البصرية والسمعية والحوارية؛ ديناميكية إيقاعية جذابة للمتابعة الحثيثة أثناء المشاهدة.. سنفتن وسنغني مع "كولا" منذ أول دقيقة في الفيلم.

ـ ـ ((يا رامي المفاتيح يفتح الله / أنعشوني لا أطيح وأنا على الله..))

خلال الثلاثين دقيقة الأولى من الفيلم، ستكون مأخوذاً بتفاصيل هذا العالم الغريب، قبلها ستدرك وجود مغنية جذابة تغني بصوت عذب؛ ربما سمعنا ما تغنيه في العقود الماضية عبر أشرطة الكاسيت والفيديوتيب؛ أو صادف أن شهدنا، بشكل مختلس، حفل لمناسبة من هذا النوع الذي تقدمه المطربات الشعبيات، وهنا ستكمن المباغتة التي يبثها الفيلم، عندها سنغوص في عالم هؤلاء المطربات من خلال مغنية ورفاقها.

مطربة بارعة ـ ممثلة قديرة

مروة سالم تجسد دور مغنية شعبية تدعى »كولا« .. مقنعة. متقمصة. محترفة تمثيلاً وغناءً. أدت دور لن ينساه الجمهور، ولن تنساه هي، كما أتخيل، لأنها حقيقية وانتشلها المخرج من جوف عالمها الفني الشعبي وأعاد تشكيل تكوينها كممثلة للشاشة الكبيرة.

«كولا بنت سالمين» هي في المقابل شخصية غير سوية، المال (التوكر) يشغل تفكيرها الأساسي؛ لتواسي به حياتها البائسة: زواج فاشل وطفلة "مرمية" عند جدتها. لا تتوانى في سرقة المجوهرات من بيوت الزبائن عندما تحيي لياليهم: أعراس، سهرات "فرفشة"، حفلات السابع للمواليد وحتى حفلات الطلاق.

هي منفلتة من كل قيمة تتمثلها نساء الطبقة الشعبية، لذلك هي نموذج فارق ومارق عن وعلى هذه الفئة.. تجلس النساء من ذات الفئة (طقاقات) وتلوك ألسنتهم سيرتها. نشأت وتربت على يد معلمتها «كاكا القمر»، كانت تدق لها الزير (الطبل) وأصبحت معلمة كبيرة.

متعهد نهم للمال والمزاج

عبدالله البراق؛ وجه جديد، رأيناه في دور مميز بمسلسل رشاش، لكنه هنا "شايل الفيلم"، «نجم» أو «أبو معجب» متعهد حفلات وصاحب فرقة نجم للصوتيات، ومالك "الوابورـ عدة الشغل"، هو ابن المطربة الراحلة كاكا القمر، التي يتغنى الجميع بأيامها، في التسعينيات وبدايات الألفية، وكأن الفيلم يريد أن يرثي حال الفن الغنائي الشعبي الراهن؛ من خلال التأسي على شخصية المطربة كاكا، وفي نفس الوقت يحتفي به.

البراق أدى دوره بتقمص كامل، أبو معجب، بصوته المبحوح الأجش المخنوق، صوت "الحونشي ـ الداشر" وطريقة كلامه الحوايرية بأسلوبه المتفاخر والمعتد بنفسه وبماضيه ومكانته، وهو أيضاً النهم للمال والحبوب المخدرة والحشيش وما يذاب في الماء والقهوة من بودرة الكيف والمشروبات المسكرة، ومع ذلك هو رهين الحب المكبوت لكولا والرغبة المستعرة فيها، لكنه كثيراً ما يعتبرها مصدراً لدخل الفرقة والطريق "للفلوس" التي يعشقها، وهو أيضاً الصديق المعتز برفيقه فني الصوتيات المحترف بالخبرة: "سيلفر" (الممثل الراحل المتمكن سامي حنفي). وهو كذلك مُشغّل؛ عازف العود "طرفي" الغلبان، أو "طرطر" الغليظ، كما ينعته أبومعجب..(الممثل رضوان الجفري).

ـ ـ ((يا هل الهوى أسمعوا شكوتي أنا/ شوفولي قلبي وانظروا حالتي..))

موسيقى تأثيرية وعدسة قانصة

تتحقق في الفيلم المؤثرات الصوتية الصورية (المكونات الساوند فتوغرافية) المتوازنة والملائمة لدرجة الكمال التام. تنساب موسيقى حسية تأثيرية بالغة الأثر، اجتهدت «الكمبوزر ندى الشاذلي» في تأليفها بما يلائم اللحظات الدرامية، سواء كان توتراً أو ترقباً أو هذيان أو مصاحباً للحوار وللحظات الصمت.

في نهاية الفيلم وظفت "الشاذلي" موسيقى تعبيرية موحية وكأنها تقول للمشاهد: تأمل هؤلاء، هل عاشوا في تبات ونبات؟ أم ماذا؟

كل تأثير يستقبله المشاهد ويعيش معه بما يراه أمامه من أحداث كان لرشاقة كاميرا «فكتور كريدي» (المصور الذي يعتمد عليه محمود صباغ في أفلامه) كان لعدسته الأثر البصري القانص والمجسد لجمالية ميزانسين اللقطات والزوايا والفريمات الفيلمية؛ لا سيما في استعراض أزقة وفضاءات شوارع مدينة جدة وبحرها وعمرانها في الليل مع انعكاسات ألوان الاضاءات والظلال.

رحلة ليلية بمفارقاتها وشخصياتها

تنطلق الرحلة الليلة وكل ليلة، فنتوقف مع شخصيات من نماذج بشرية مختلفة؛ تمثل مستهلكي نوعية فن كولا.

شخصيات تخترق سردية الفيلم في سياقات مباغتة: مطلقة سعيدة تريد أن تحتفل بطلاقها (الشيماء طيب)، ثم منظمون ومغنيات (غربيات وشرقيات) في حفل عصري مصرح به في ملهى بمركز تجاري في جدة، وعالمه المستحدث، لتظهر متعهدة الحفل، ممثلة شابة "بيان أبوزنادة" تظهر لدقائق فتعتقد أنها محترفة تمثيل بينما هي تمثل للمرة الأولى.

نصطدم بثري مهووس «أبوسراقة» (الممثل إبراهيم حسن محمد)، طلب الفرقة لتحيي له ليلة بمفرده، ويعقد مع الفرقة صفقة لتصفية حياته بطلقة رصاصة من مسدسه؛ يريد أن يتخلص من حياته لأن أبنائه يريدون الحجر عليه.. كراكتر خارق؛ مدهش؛ عجيب. مشهد من كوميديا العبث واللامعقول. مضحك بمنطقه وطريقة كلامه: أبوسوسو ما يلبس الطرحة.

 
 
 
 

شيخ الحبوب والشيخ الحسيني

انقلابة (سويتش) غير متوقعة يتحول فيها الفيلم الى آكشن؛ ويظهر شيخ الحبوب «بن هام» (الممثل جميل علي)؛ يستحضر "أبومعجب" بالقوة، ويحاسبه على التأخير في سداد ديونه المترتبة عليه جراء مسحوباته من الحبوب.

قبل ذلك تكون الكاميرا انتقلت الى سهرة في نادي ليلي يديره خواجة (المخرج المصري خيري بشارة في ظهور شرفي)، وهو كما يبدو عميل وشريك بن هام. بن هام شخصية إجرامية أداها الممثل جميل علي باقتدار.

ثم تقود أقدار الليلة الى الثري فهد حسيني (الممثل أحمد عبدالمنان). عرض على كولا زواج المسفار وتغيير اسمها الى صولا؛ وأن يصنع لها أمجاداً لا تحلم بها.. منطق آخر للفساد الذي تجلبه حياة الليل.

نجم وهلوسة مع صياد ومكوجي

تلعب الهلاوس بأبي معجب؛ فيتخيل صياد يلقاه على قارعة الطريق؛ فيصطحبه معه في باص الفرقة.. يدور حوار رائع بين الصياد (الممثل خالد صبان) وبين أبومعجب. حوار هذياني، لكنه محمل بالحكمة والكلام الذي لا يشبه الكلام.

ـ ـ ((يا بومعجب المصلحة نصفين/لا ربح الله من خانك

وا دانة أحطك في قلبي واقفلوا قفلين))

سيدة تمتلك بيت على البحر «شادية» (الممثلة لنا قمصاني) ووصيفتها (الممثلة فيّ فؤاد).. حالة أخرى من العوالم الهامشية الثرية بالمال والانفلات، حيث الحياة بلا هدف والترفيه هو الأساس.

ولا تنتهي الشخصيات والمفارقات والعوالم المتاخمة لعالم نجم وكولا وسيلفر وطرطر في الفيلم حتى تتم آخر سهرة.

مكوجي في حارة؛ يثرثر معه نجم بما يخبئه وجدانه ونظرته لحياته وعمله.. كلام موزون.. كلام على قدر الكلام، ولكن ما هو هذا الكلام؟

ثلاثية الليل والطرب والمخدرات

فيلم خارج السياقات المعتادة في السينما السعودية المستقلة الحديثة، وسيظل خارجه، وان تشابه السياق الموضوعي العام مع موضوع فيلم "حد الطار" لعبدالعزيز الشلاحي2021م؛ إلى حد ما.

عادةً الأفلام التي تتناول عوالم المغنيات أو الراقصات والطقاقات تكون مثيرة، لأنها عوالم التمرد على العرف الأخلاقي الاجتماعي؛ عوالم لها قوانينها، غالباً ما ينخرط فيها أشخاص متحررون يكون الكسب المادي هو شاغلهم، وبالتالي لا يتوانون في عمل أي شيء تحتمه حياة الليل، وتكون المخدرات الوقود المغذي لهذا التمرد.

من هنا يطلق محمود صباغ عبر فيلمه "آخر سهرة في طريق ر" همسة تحذيرية من أثر المخدرات، فهو وكما يطرح الفيلم يتعاطى "سيلفر" و"أبومعجب" كل ما يقع في أيديهم من حبوب ومخدرات وحتى ما يسمى "الشبّو" والنتيجة ضياع روحي وجسدي وعقلي وموت مفاجئ.. وكأن القدر حمل هذه الرسالة ليموت الممثل سامي حنفي في أرض الواقع؛ فيهدي المخرج الفيلم الى روحه.

ليالٍ متداخلة

براعة المخرج محمد صباغ تكمن في نسجه لخيوط هذا العالم، بهذا الأسلوب الفريد، وحرفته تجلت في صناعة فيلم ليس يسيراً في تحقيق عناصره الاساسية، كما أراد لها. تلاعب في وقت الليل وزمن سرد الفيلم ليبدو ليلة واحدة ممتدة طويلة، وفي نفس الوقت جعلنا نفهم أنها ليالي متداخلة في أزمنة عاشتها الفرقة. لغة إيحاء ذكية تنساب عبر الحوارات، وهي أحيناً ليست حوارات؛ إنما مونولوجات داخلية مسموعة في شكل بوح هذياني وأحياناً كلام مجرد كلام من عمق شخوص البيئة، وعندما يكون ديالوج نستكشف خفايا تلك الشريحة من هذه الطبقة الاجتماعية الهامشية.

صباغ قاد ممثليه (الابطال والمساندين والكمبارس) الى الوصول لدرجة الأداء التقمصي الاستبطاني الكامل، كما كان يفعل إيليا كازان ولي ستراسبرج مع ممثليهم في استديو الممثل، ولا أبالغ.

إيحاءات لغة الأجساد والعيون والمحمول الدرامي تنبلج هنا وهناك؛ في كثير من المشاهد؛ بل في العديد من اللقطات العابرة؛ لترمي ايحاءً معيناً وينتقل الروي السينمائي إلى آخر وغيره.. هي حرفية كتابة السيناريو المتعمق؛ ليجعل الإيحاء في بعض مشاهد الفيلم ولقطاته أبلغ من المباشرة التبليغية، ولأن قوى الايحاء أشد وقعاً وتأثيراً على المتلقي، بل انها تجعل منه مشاهداً متفاعلاً مع الاحداث والمنطوق اللفظي حتى لو كان كلمة هامسة، أو لقطة بان سريعة أو زوم خاطف.

نستسلم للسرد بسبب الإيقاع الحيوي، المونتاج المدروس عبر تحرير لا يترك للمشاهد لحظات تسرقه من الاندماج مع ما يدور على الشاشة أمامه.

السهرة الأخيرة

مخيم يمتلكه "المعزِّب ـ الشيخ مفرّج الكبير" في مكان نائي على طريق (ر)؛ سافرت الفرقة إليه بالطائرة. هناك تكتمل خيوط المأساة. تلتقي كولا بالفنان "عبود" وينقلب الحال على نجم، بعدما أوحت له كولا بأنها رضخت لحبه ولانت له.. هذا ايحاء لا يفضحه السيناريو بمباشرة ساذجة.

ـ ـ ((غيّار باين في كلامك في ابتساماتك لي في ضحكتك بصرار

يا خِلّي علامك؟

المحبة وفا واسرارها اسرار.. يا خلي علامك؟))

مشهد أخير: شمس الفجر بزغت و"نجم" المهموم الخاسر هائماً نحو الشمس في صحراء شاسعة.. ويا خلي علامك؟

ينزل التتر الختامي للفيلم بينما موسيقى ندى الشاذلي تناجي حواسك بتعبيرية خلاقة؛ قبل أن تغادر صالة العرض.

 

سينماتك في ـ  17 مايو 2024

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004